أبووردة السعدني - الحياة العلمية بين مصر والدولة العثمانية قبل دخول مصر

تحت الحكم العثماني :

... انتويت - منذ عدة أعوام - أن أعد بحثا يحمل العنوان المذكور ، جمعت مادته العلمية ، ولعل الله يوفقني لإنجازه ، لكن - على أية حال - سأوجز بعض ما توصلت اليه من نتائج ، ربما يسفيد من ذكرها أصدقاء الصفحة الكرام ....
.... معلوم - سلفا - أن كارثة بغداد سنة 656 /١٢٥٨ , وما نجم عنها من فقدان مجدها السياسي ، أدى - أيضا - الى أفول شمس حضارتها التي أشرقت قرونا طوالا ....
واكب تلك النكبة الانتصار الذي أحرزه المماليك على المغول سنة 658 /١٢٦٠ ، في موقعة " عين جالوت " ، وإحيائهم الخلافة العباسية الإسلامية في القاهرة ...
هذا في الوقت الذي كانت فيه دولة المسلمين في بلاد الأندلس - بحضارتها الزاهرة - آخذة في الاحتضار ، الذي أودى بها - في النهاية - الى الزوال !!...
... كما أن موقع مصر الجغرافي المتميز دينيا واقتصاديا جعلها مقصدا لأعداد - تجل عن الحصر - من المسلمين الذين شدوا رحالهم لأداء فريضة الحج ، إلى جانب الرخاء الذي نعمت به لتعدد مواردها الاقتصادية ....
.... كان للعوامل السالف ذكرها أثر كبير في سطوع شمس مصر حضاريا في عصر دولة سلاطين المماليك ، هؤلاء السلاطين الذين دعموا تلك النهضة بكل السبل ، فأوقفوا الأوقاف على المساجد والمدارس والبيمارستانات ، وقربوا العلماء اليهم ، وولوهم المناصب المرموقة ، وعقدوا المناظرات العلمية في قصورهم ، وحضروا مجالس العلم التي عقدها كبار العلماء ...
.... لكن الأمر المهم الذي يجدر ذكره : أن الجامع الأزهر كان قد اكتمل انشاؤه عام 361 / 972 م ، أي قبل قيام الدولة العثمانية - سنة699 /1299م -بأكثر من ثلاثة قرون ، وكان للأزهر - وغيره من مدارس مصر في العصر المملوكي - أثر كبير جدا في الحياة العلمية في الدولة العثمانية منذ نشأتها ، فأول مدرسة أنشئت في الدولة العثمانية - في مدينة أزنيق في عهد السلطان أورخان ، سنة 731/1331م - تولى التدريس فيها العالم الصوفي " داود القيصري " -ت751/1350 ،الذي تلقى تعليمه في الجامع الأزهر ....
.... والسلطان " بايزيد الأول - ت ٨٠٥/١٤٠٣- حين ألم به مرض عضال عالجه طبيب مصري بدواء مصنوع في مصر ...
والسلطان مراد الثاني -ت٨٥٥/١٤٥١- يستفتي علماء مصر في حاكم " إمارة قرمان " الذي دأب على نقض العهود والمواثيق وأرهق العثمانيين من أمرهم عسرا ، فأفتاه كبار علماء مصر كابن حجر العسقلاني - ت٨٥٢/١٤٤٩ - وغيره من العلماء الأعلام ....
وحرص عدد من سلاطين الدولة العثمانية على الظفر بتقليد من الخليفة العباسي بعد جلوسهم على العرش العثماني ، وعدد من شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية تلقوا تعليمهم في مصر...
....وهكذا أدرك العثمانيون أهمية مصرومعاهدها العلمية ، فولوا وجوههم شطرها ، لينهلوا من فيض علومها ، بالتتلمذ على علمائها الذين ذاع صيتهم وعمت شهرتهم أرجاء العالم الاسلامي ، خاصة وأن علماء مصر لم يرحل منهم عالم واحد - في العصرالمملوكي - إلى الدولة العثمانية للإقامة فيها - رغم الإغراءات المادية والأدبية - ، على النقيض من علماء وسط آسيا وبلاد فارس ....
... وفد طلاب العلم من الدولة العثمانية إلى مصر زرافات ووحدانا ، فمنهم من اغتنم فرصة أداء فريضة الحج ليقيم في مصر - مدة تطول أوتقصر - طلبا للعلم ، ومنهم من رحل إلى مصر بغية تحصيل العلوم والمعارف ، ثم رجع إلى بلاده لينشر ما حصل من علم ، ومنهم من أقام - في مصر بعد إجازته علميا - سنين عددا ، ثم رحل قافلا إلى موطنه ، ومنهم من طاب له العيش فآثر الإقامة الدائمة في مصر ، وحاز مكانا عليا فتولى الوظائف الدينية والعلمية ....
..... الملحوظ في الحياة العلمية في الدولة العثمانية - إبان تلك المرحلة التاريخية - أن الذين شدوا رحالهم إلى المدارس العثمانية ، العلماء المتبحرون في العلم ، وليس طلاب العلم ، أما الذين رحلوا إلى مصر فكان العلماء وطلاب العلم الذين وفدوا من كل أرجاء العالم الاسلامي - على حد سواء - ، وعلى هذا ، كانت الحياة العلمية في الدولة العثمانية محلية الطابع ، لاقتصارها على طلبة العلم العثمانيين ، أما الحياة العلمية في مصر فكانت عالمية الطابع ، وأروقة الجامع الأزهر تؤكد ذلك ...
... تمتعت الحياة العلمية - في مصر والدولة العثمانية - بالاستقلال العلمي ، و أيضا بالاستقلال المالى ، فلم تتدخل السلطات - في كلتا الدولتين - في شئون التعليم ، أو في توجيه مساراته ، كما أن التعليم في المدرستين - المملوكية والعثمانية - كان سني المذهب...
... خرجت المدرستان - المملوكية والعثمانية - الكفاءات العلمية ، للقيام بالواجبات الدينية والعلمية والقضائية ، وأمدت الدولتين بالموظفين القادرين على إدارة مؤسساتها الادارية والاقتصادية ....
.... وفرت الأوقاف في مصر والدولة العثمانية كل سبل الراحة لطلاب العلم : المطعم ، والملبس ، والراتب ، وأيضا أماكن الإقامة المجانية للطلاب ، بل وللأساتذة - في كثير من الأحيان - ، أطلق عليها في مصر " أروقة " وفي الدولة العثمانية " حجرات" ....
... وإذا كان الشيئ بالشيئ يذكر ، فرواتب علماء الدولة العثمانية تنوعت بين رواتب يومية ورواتب شهرية ورواتب سنوية ، أطلق على الراتب اليومي " مياومة " ، والراتب الشهري " مشاهرة " ، والراتب السنوي " مسانهة " ....
.... حرص سلاطين الدولة العثمانية - شأنهم سلاطين دولة المماليك - على توقير العلماء وإجلالهم ، والإغداق عليهم ، وتقريبهم ، ومشاركتهم موائد طعامهم ، وحضور مناظراتهم العلمية ، واستشارتهم في معظم ما يتعلق بأمور الدولة....


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى