د. صبري محمد خليل خيري - شخصنة القضايا العامة عند المثقفين والمتعلمين: الاشكاليه وأسبابها وآليات تجاوزها

تعريف الإشكالية: إشكالية شخصنة القضايا العامة، هي إشكالية تتصل بالدور الاجتماعي – المعرفى - للمثقفين" أي الذين لهم المقدرة الفكرية لإدراك المشكلات الاجتماعية، ومعرفة حلولها، والمقدرة على العمل الجماعي اللازم لحلها"، والمتعلمين أو الأكاديميين "الذين لا يعرفون من العلم إلا ما تعلموه في معاهدة المتخصصة، ويجهلون علاقته بمشكلات الواقع الاجتماعي، أو لا يهتمون بتلك الصلة"، فى الامه العربيه - المسلمة بشعوبها المتعددة بصورة خاصة ، وأمم وشعوب العالم النامي والثالث بصورة عامة. ومضمون هذه الاشكاليه التطرف في التأكيد على الذاتية، إلى درجة إلغاء الموضوعية ،عند محاوله تقديم تفسيرهم للقضايا العامه، والذى من المفترض أن يتضمن تحديد " موضوعي" لطبيعة هذه القضايا ، وحلول "موضوعية" لها .

من مظاهرها:

سرد للسيرة الذاتية:
ومن مظاهر هذه الاشكاليه تحول الإسهام الفكري الذي يقدمه المثقف للمجتمع " والمتمثل في تحديد طبيعة المشاكل التي يطرحها الواقع ، أو الحلول الصحيحة لهذه المشاكل،أو نوع العمل اللازم لتنفيذ هذه الحلول في الواقع"،إلى سرد لسيرته الذاتية ، حسب" الذاتى" تصوره لها .

مذهب ربط التغيير بالأشخاص "التغيير الإداري- الجزئى " غير العلمى: ومن مظاهرها أيضا تبنى المذهب الذي يقصر التغيير على تغيير الاشخاص،" اى التغيير الإداري – الجزئى "وهو مذهب غير علمى فى التغيير ، يلزم منه تغيير سطحي"شكلي" زائف. بينما المذهب العلمى فى التغيير ،الذى يلزم منه تغيير عميق وحقيقي ، هو المذهب الذي يجعل التغيير شاملا لمستوياته الثلاثه:أولا: التغيير الإداري: وهو تغيير ذاتي لأنه تغيير للأشخاص.ثانيا: التغيير السياسي: وهو تغيير موضوعي لأنه تغيير للنظم. ثالثا: التغيير البنيوي الحضاري: وهو تغيير شامل يجمع بين الذاتي(تغيير أنماط التفكير) والموضوعي (تغيير النظم الاجتماعية:السياسية، الاقتصادية،القانونية...).

تحقيق المصالح الشخصية: ومن مظاهر هذه الاشكالية ألا يكون هدف النشاط الفكري للمثقف او المتعلم المساهمة النظرية "الموضوعية" فى حل المشاكل "الموضوعية" التي يواجهها مجتمعه،بل تحقيق مصالحه الشخصية " الذاتية"، كالحصول على منصب او الوصول الى السلطه،او تحقيق منافع اقتصاديه،او مكانة اجتماعية...لذا يتصف هذا النشاط الفكري بعدم الثبات والتغيير المستمر حسب ما تقتضيه هذه المصالح الشخصيه, اى يتحول المثقف الى مثقف " حربائي".

الفهم الخاطىْ لمقولات"المثقف العضوي" و" قيادة المثقف للتطور الاجتماعى" : وهنا يجب تصحيح الفهم الخاطىْ لبعض المقولات. فمقوله المثقف العضوي مقصود بها التفاعل - الفكري - للمثقف مع قضايا المجتمع- وليس بالضرورة الاندماج الشخصى فى النشاط السياسى المباشر والحزبى.أما قيادة المثقف لحركة التطور الاجتماعي فالمقصود بها القيادة الفكرية وليس بالضرورة القيادة التنفيذية ، لأن التغيير الفكرى سابق على التغيير السياسى.

الاشكاليه إفراز تخلف النمو الحضاري واحد اسباب استمراره : هذه الإشكالية هى إفراز امتداد الحياة في ظل تخلف النمو الحضاري للمجتمع ، و في ذات الوقت فإنه احد أسباب استمراره، لأنه يفتك بمقدرة المثقفين ، الذين هم القادة - الفكريين - لحركة التطور الاجتماعي في كل المجتمعات

أسبابها:

تخلف النمو الحضاري
: ان شيوع هذه الظاهرة بين المثقفين هو نتيجة لتخلف النمو الحضاري للمجتمع ، كمحصله لعوامل متفاعلة: داخلية " كشيوع التقليد وقفل باب الاجتهاد، شيوع نمط التفكير البدعى،الاستبداد..."، وخارجية" كالاستعمار و التبعية والتغريب" ، فهي مثلا محصلة شيوع أنماط التفكير شبه الخرافي وشبه الأسطوري في المجتمع المعين " والتي هي بمثابة شروط ذاتية لتخلف النمو الحضاري" والتي تتصف بالذاتية مطلقه ، تلغى اى موضوعية على المستويين المادي والفكري.

سرد السيرة الذاتية و غريزة النزوع للبقاء : وإذا كان المظهر الاساسى لهذه الظاهرة السلبية (كما سبق ذكره ) يتمثل في تحول الإسهام الفكري الذى يقدمه المثقف للمجتمع إلى سرد لسيرته الذاتية. فان الميل إلى سرد الشخص لسيرته الذاتية شفاهة أو كتابة هو- طبقا لعلم النفس – استجابة لغزيرة النزوع إلى البقاء(لذا يزداد هذا الميل إلحاحا كلما تقدم الإنسان في العمر)، وهى غريزة تولد في الإنسان نوازع عاطفية (ذاتيه) غير عقلانية (وغير موضوعية)، فضلا عن أن هذه الغريزة تمحو (لا شعوريا)،كل ما لا يتفق مع غايتها (تخليد صور الشخص مطهرة من كل نقص)،يترتب على هذا أن السير الذاتية لا يمكن أن تكون صادقه(موضوعيا)،حتى ولو كان الأشخاص الذين رووها صادقين(ذاتيا). (د. عصمت سيف الدولة، ،مذكرات قرية،القاهرة، دار الهلال ،1994، ص3-5).غير انه ليس هناك مشكله، في سرد اى شخص لسيرته الذاتية ، مادام مجال السرد هو المجال الشخصي (ممثلا في مجالات التواصل الاجتماعي)، وباعتبار أن السرد هنا هو تعبير عن رؤية ذاتية لمواقف وأحداث معينه، لكن المشكلة تبدأ حين يتحول السرد إلى المجال العام (ممثلا في التصدي للمشاكل والقضايا العامة(السياسية،الاقتصاديه، الفكرية...)،لأنه مجال يقتضى الموضوعية.

تضخم الذات: ومن أسباب شيوع هذه الظاهرة السلبية عند المثقفين والمتعلمين تضخم الذات كظاهرة نفسية سلبيه، ترجع إلى عوامل تربويه،اجتماعيه، ثقافيه...متفاعلة ، فهي قد تكون محاوله سلبية لتعويض مركب نقص مادي أو اجتماعي أو تعليمي أو ثقافي... أو قد تكون تعبير عن اختلال التوازن بين الفرد والجماعة في المجتمع، نتيجة شيوع نمط التفكير والسلوك الجماعي، الذي لا يستطيع فعليا إلغاء الوجود الفردي أو الأبعاد الذاتية للشخصية، ولكنه يحيلها إلى فردية وذاتية متحولة، اى فردية وذاتية تتضائل أو تتضخم طبقا لدرجه الإلزام الموضوعي، ذلك لأنه يكاد يبقى النزوع الفردي "الغريزى" عند الأفراد دون اى ترقية وتهذيب وتطوير.

الفردية" الأنانية " : ومن أسباب شيوع هذه الظاهرة السلبية عند المثقفين والمتعلمين ،شيوع النزعة الفردية عندهم - وهي النزعة التي يعبر عنها عامة الناس بالانانيه- وقد تأخذ هذه النزعة شكل موجب " كالاستعلاء على الجماهير"، أو شكل سالب " كالعزلة الفكريه عنهم وعن قضاياهم"، وشيوعها بين المثقفين والمتعلمين هو محصلة عوامل متعددة متفاعلة.

الثغرة الفاصلة: من هذه العوامل أن المثقفين هم قادة حركة التطور في كل المجتمعات،وإذا كانوا في المجتمعات المتقدمة كثرة تفيض عن الحاجة، فإنهم في المجتمعات الناميه والمتخلفة قوة نادرة؛ ذلك لأنهم أكثر معرفة وعلماً ومقدرة على العمل من الكتلة السائدة، فلا تستطيع مجتمعاتهم أن تستغني عنهم، وبينهم وبين سواد الشعب المتخلف ثغرة فاصلة.

الاستعمار والتغريب : ومن هذه العوامل التغريب والذي مضمونه افتراض- خاطئ- مضمونه ان المجتمعات العربية والمسلمة خاصة ومجتمعات العالم النامى والثالث عامة، لا يمكن ان تحقق التقدم الحضاري الا باقتلاعها من جذورها ، باستبدال مفاهيمها وقيمها وقواعدها الكلية بمفاهيم وقيم وقواعد الحضارة الغربية ، التى تتبنى الليبرالية كفلسفة ومنهج ومذهب ذو اركان اربعة: الراسماليه،الصيغه الليبرالية للديمقراطية ، الفردية ، العلمانية.

الممارسة الليبرالية: ومن هذه العوامل ميراث الممارسة الليبرالية، ذلك المذهب الفردي الذي يتجاوز تمجيد الإنسان، إلى إطلاق الفرد من التزاماته المترتبة على انتمائه إلى مجتمعه؛ فيتحول المجتمع إلى ساحة صراع فردي لا إنساني؛ وتكون الفردية فيه قيمة لا يخجل منها صاحبها، بل يفخر بها بقدر ما يكون لها من ضحايا من أفراد آخرين.

تبنى مذهب التغيير الجزئى وشيوع نمط التفكير الخرافى اللاعلمى": ويرجع سبب المظهر الثاني لإشكالية شخصنة القضايا العامة عند المثقفين والمتعلمين - اى تبنى المذهب الذي يقصر التغيير على تغيير الاشخاص" التغيير الإداري – الجزئى " ، كمذهب غير علمى فى التغيير- الى شيوع نمط التفكير شبه الخرافى" اللاعلمى "، نتيجه لعوامل ذاتية وموضوعية متفاعلة ايضا.

آليات تجاوز الإشكالية:

أهم آليات تجاوز إشكالية شخصنة القضايا العامة عند المثقفين والمتعلمين هى الالتزام بالفهم الصحيح للدين،المستند الى النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة، والذي تتحقق فيه الموضوعية النصية - وهي شكل من اشكال الموضوعية التكليفيه المستندة الى الوحي- لانه يستند الى الدليل النقلى "الموضوعي". ويتضمن ذلك الالتزام بأنماط التفكير التالية – على وجه لا تتناقض مع مفاهيم وقيم وقواعد الوحي الكلية- أولا: نمط التفكير العلمى،الذى تتحقق فيه الموضوعية الحسية ، لأنه يستند الى الدليل التجريبى "الموضوعى".ثانيا: نمط التفكير العقلانى، الذى تتحقق فيه الموضوعية العقلانيه، لأنه يستند الى الدليل المنطقي "الموضوعي أيضا لأنه يستند الى قوانين التفكير ذات الطبيعة الموضوعية وان كانت تحكم حركة التفكير الذاتى"، وكلا نمطى الموضوعية الأخيرين اشكال للموضوعيه التكوينيه، المستندة الى السنن الالهيه التى تضبط حركه الوجود الشهادى.




د.صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم


...........................................................

للإطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زيارة المواقع التالية:


الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات الموقع الرسمي للدكتور صبري محمد خليل خيري
د.صبري محمد خليل Google Sites


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى