قد يكون في هذا العنوان شيء من التفاؤل الزائد، وأن هذه اليوتوبيا غير مبررة في زمن يحكمه منطق الديسوتوبيا السوداء، عالم الظلمة والفساد والنهب، عالم التقتيل والحروب العدوانية التي تشبه حروب الإمبراطوريات المنقرضة، القوي يأكل الضعيف، في أكبر المشاهد رعباً وتوحشاً التي جعلت من مقولات التحضّر، أو محاربة «الإرهاب» حديثاً، عنوانها المفضل للتدخل المعلن، وتدمير بلدان وشعوب بكاملها كانت إلى وقت قريب صانعة للحضارات البشرية ومجدها. الديسوتوبيا في صورتها الحاضرة لا تفتح أمامنا أي أمل للحياة سوى برك الدم والحرائق والرماد. يحتاج العقل البشري بمختلف منظوماته وحداثاته ويقينياته، اليوم، إلى إعادة نظر حقيقية في مكوناته التي بنى عليها «حضارته» الحالية. لكن من يقوم بذلك؟ المثقفون الواعون؟ أين هم؟ لقد مات كثير منهم في ظروف غامضة، ومات آخرون غبناً على حاضر لا يستطيعون فعل أي شيء فيه، أو التأثير عليه. وما تبقى يعيش في عزلة قاتلة بعد أن احتل مواقع التأثير في القنوات الثقيلة جيل من اللاثقافيين. إعلاميون يصنعون الرأي العام اليوم بثقافة سطحية. عالم كتبة الزوايا اليومية Le monde des chroniqueurs. لا يوجد في القنوات الفرنسية والأمريكية، مثلاً، من يقنعك بغير التسطح. حتى الفلاسفة، الكثيبر منهم، بعد تنظيرات كثيرة عن مستقبل البشرية، أصبحوا أمراء حرب، من أمثال برنار هنري ليفي، وآلان فلكنكراوت، وإيريك زمور، ولكل واحد سلاحه. وكلما حضر مثقف من مثل بونيفاس، بدا غريباً في المجلس، يبحث بعينيه عن منفذ، كل الأفواه فيه مصوبة نحوه، مع أنه لم يقل الشيء الكثير سوى أن الناس يذكرون له كتابه الذي فضح هذه النخب: «المثقفون المزيفون».
وعلى الرغم من هذا كله، تظل اليوتوبيا رهاناً كبيراً يكاد يكون قدرياً.
مصدر هذه التأملات قد يبدو غريباً، هو مقابلة كرة القدم التي جرت في ملعب الثمامة. كل شيء بدأ في سهرة يوم السبت 11 ديسمبر / كانون الأول، في مقابلة مبهرة كان بطلاها الجزائر والمغرب، فريقان يتشابهان في كل شيء، ليس فقط في اللعب، لكن أيضاً في الوجوه، والعيون التي تخفي غضباً وحباً مكتوماً، وخوفاً من مبهم يرتسم في الأفق. كل طرف يريد أن يربح الرهان، لكننا لا نربح عندما نريد، لكن عندما تجتمع سلسلة من المعطيات، الصدفة جزء منها. صدفة القرعة وضعتها وجهاً لوجه مع أن كل المختصين رأوا فيها مقابلة نهائي قبل الأوان. كل هذا طبيعي، لكن الذي لم يحسب له من يضع الزيت على النار، وهم في كل القطاعات السياسية والرياضية، هو أن تنتهي المقابلة ليس فقط بالتعادل في الوقت النظامي، الدقيقة 90، أو بعد الوقت الإضافي في الدقيقة 120، لكن أن تعطي درساً حقيقياً للمثقفين والساسة الذين بقي في أدمغتهم شيء من العقل، في الأخوة، والنبل، والحب، ورؤية الحياة من زاوية النور، أي التفاؤل اليوتوبي، حتى ولو بدا الوضع العام بين البلدين الشقيقين غارقاً في الوديان المحفورة بين الحدود، وكأن يأجوج ومأجوج يترصدون فرصة العبور لتدمير كل شيء، والأسلاك الشائكة من الجهة الثانية التي تمنع مرور النملة وتذكر بماض قاس ليس ببعيد، عندما تم الفصل بين شعبين أخوين بواسطة خطي موريس وشال المكهربين.
لكن لا قوة منعت في ذلك الزمن الجنود الجزائريين من العبور نحو مكان الأمان والسلام في المغرب (وجدة) أيام الحرب. ألا يدفعنا ذلك كله إلى غرام واحد من التفكير؟ يمكننا أن نكيل التهم من هنا وهناك، ولكل حججه: حرب الرمال في 63 التي جسدت اللامعنى بامتياز، قضية الصحراء الغربية، من قضية وحدة وطنية إلى قضية تصفية الاستعمار. ماذا ربح الجزائريون من طرد 45 ألف عائلة مغربية في 1975 صبيحة عيد الأضحى 18 ديسمبر 1975 عاشت منذ زمن بعيد في الجزائر وأحبتها، وأصبحت جزءاً منها، من خلال زيجات مختلطة، وأبناء ولدوا على الأرض الجزائرية؟ بني هذا الطرد المفجع على طرد سابق له في 1973 عندما جرد الكثير من الجزائريين من أموالهم وأراضيهم بموجب الظهير الملكي الصادر في 1973.
ماذا ربح الشعب المغربي الشقيق من طرد الجزائريين في ليلة ظلماء 24 أغسطس /آب 1994 شبيهة بليلة السكاكين الطويلة، بسبب تهمة تفجير فندق مراكش أطلس إسني، بينت التحريات اللاحقة أنها غير صحيحة؟ ماذا حصد الشعبان من ذلك كله؟ لا شيء سوى مزيد من الألم والريبة والخوف من مستقبل مثقل بالأسئلة الشقية. لهذا، ذكرتني مقابلة ملعب الثمامة بقصة سيدنا إبراهيم وهو يستعد للتضحية بابنه إسماعيل، تنفيذاً لأمر الله في رؤياه قبل أن يُفدى بكبش، عوض التضحية الفعلية بالتضحية الرمزية. ألم تكن المقابلة حرباً رمزية حلت محل حرب مدمرة، وخرج منها المتصارعان بنبل متفقين ومتعادلين في كل شيء. بل بينت المقابلة أن ما في القلوب كبير وجميل وعزيز. صُور الجماهير المغربية والجزائرية التي خاطت العلمين معاً يفترض أن تدفع بنا إلى تحويل الرمزي إلى حقيقة؟ التحام بلايلي بالمهاجم المغربي حفيظي، في حميمية من خلال صورة عبرت مواقع إلكترونية كثيرة، ما يعني أن ما في قلوب الشعبين كبير. ألم يحن وقت تثمين ذلك كله من ساسة أصيبوا كلياً بالعمى القلبي والبصري، الذي لا يفيد البلدين في شيء؟ المقابلة التي حملت في داخلها، ظاهرياً، أنفاس حرب رمزية، لعبت فيها دعايات المواقع دوراً سلبياً ربحاً للايكات مليئة بالأحقاد، من هنا وهناك. كل شيء تبخر بعد انتهاء المقابلة التي أدى فيها الفريقان دوراً قتالياً شجاعاً، لكن الأخوة ظلت عالية وكبيرة. المقابلة في الميدان كانت شديدة الرقي بدون مبالغة، وكان الرابح الكبير فيها الروح الرياضية والمحبة التي صقلها التاريخ والمصير المشترك بين الشعبين. أعطتنا المقابلة، إلا للعميان وفرسان الحروب والعداوات، درساً حقيقياً في السلام والتفاهم، وأنه آن الأوان لخلق حوار تطرح فيه، سراً أو علناً، كل المشكلات العالقة التي تعيق هذا التواصل الممكن. وهي موجودة، ونعرفها جميعاً، وليس هذا وقت تقليب المواجع التي لن تعمل إلا على إشعال فتيل الخلاف والحروب الصامتة. ونعرف أيضاً أن الخلافات الألمانية- الفرنسية ثقيلة، بينهما ملايين الضحايا في الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك تحولا إلى القاطرة المركزية التي جرت وراءها أوروبا نحو خيارات السلام والوحدة وليس الحرب. نريد مغرباً عربياً (ليتحملني الصديق أحمد عصيد في كلمة عربي هنا) ليس بالمعنى العرقي، لكن بالمعنى الثقافي والحضاري. ليست عروبة ميشيل الأحزاب العنصرية، لكن عروبة ابن خلدون وابن رشد، التي ضمت لها ابن ميمون اليهودي، كما استقبلت سيبويه الفارسي. نحلم بمغرب جميل تنتقل فيه القطارات السريعة من طرابلس، وتونس، والجزائر، ووهران، والرباط، والدار البيضاء، وانتهاء بنواكشط، دون حواجز جمركية. مغرب الاتساع والحب والثقة المتبادلة. مغرب تسيره المصالح المشتركة للشعوب ولا يسيره ساسة، رؤاهم لا تتعدى أنوفهم وسراتهم. نحتاج اليوم فقط إلى التفكير بعيداً عن الأسوار التي ترتفع في الكثير من الأدمغة المالكة للقرارات، وبعيداً عن التحالفات السرية والمعلنة التي لن تقهر في النهاية شيئاً آخر سوى الشعوب التي حرمت من حقها في الأخوة والتواصل والحب. يجب أن تنتصر اليوتوبيا على الديستوبيا، مهما كان الثمن.
واسيني الأعرج
القدس العربي
وعلى الرغم من هذا كله، تظل اليوتوبيا رهاناً كبيراً يكاد يكون قدرياً.
مصدر هذه التأملات قد يبدو غريباً، هو مقابلة كرة القدم التي جرت في ملعب الثمامة. كل شيء بدأ في سهرة يوم السبت 11 ديسمبر / كانون الأول، في مقابلة مبهرة كان بطلاها الجزائر والمغرب، فريقان يتشابهان في كل شيء، ليس فقط في اللعب، لكن أيضاً في الوجوه، والعيون التي تخفي غضباً وحباً مكتوماً، وخوفاً من مبهم يرتسم في الأفق. كل طرف يريد أن يربح الرهان، لكننا لا نربح عندما نريد، لكن عندما تجتمع سلسلة من المعطيات، الصدفة جزء منها. صدفة القرعة وضعتها وجهاً لوجه مع أن كل المختصين رأوا فيها مقابلة نهائي قبل الأوان. كل هذا طبيعي، لكن الذي لم يحسب له من يضع الزيت على النار، وهم في كل القطاعات السياسية والرياضية، هو أن تنتهي المقابلة ليس فقط بالتعادل في الوقت النظامي، الدقيقة 90، أو بعد الوقت الإضافي في الدقيقة 120، لكن أن تعطي درساً حقيقياً للمثقفين والساسة الذين بقي في أدمغتهم شيء من العقل، في الأخوة، والنبل، والحب، ورؤية الحياة من زاوية النور، أي التفاؤل اليوتوبي، حتى ولو بدا الوضع العام بين البلدين الشقيقين غارقاً في الوديان المحفورة بين الحدود، وكأن يأجوج ومأجوج يترصدون فرصة العبور لتدمير كل شيء، والأسلاك الشائكة من الجهة الثانية التي تمنع مرور النملة وتذكر بماض قاس ليس ببعيد، عندما تم الفصل بين شعبين أخوين بواسطة خطي موريس وشال المكهربين.
لكن لا قوة منعت في ذلك الزمن الجنود الجزائريين من العبور نحو مكان الأمان والسلام في المغرب (وجدة) أيام الحرب. ألا يدفعنا ذلك كله إلى غرام واحد من التفكير؟ يمكننا أن نكيل التهم من هنا وهناك، ولكل حججه: حرب الرمال في 63 التي جسدت اللامعنى بامتياز، قضية الصحراء الغربية، من قضية وحدة وطنية إلى قضية تصفية الاستعمار. ماذا ربح الجزائريون من طرد 45 ألف عائلة مغربية في 1975 صبيحة عيد الأضحى 18 ديسمبر 1975 عاشت منذ زمن بعيد في الجزائر وأحبتها، وأصبحت جزءاً منها، من خلال زيجات مختلطة، وأبناء ولدوا على الأرض الجزائرية؟ بني هذا الطرد المفجع على طرد سابق له في 1973 عندما جرد الكثير من الجزائريين من أموالهم وأراضيهم بموجب الظهير الملكي الصادر في 1973.
ماذا ربح الشعب المغربي الشقيق من طرد الجزائريين في ليلة ظلماء 24 أغسطس /آب 1994 شبيهة بليلة السكاكين الطويلة، بسبب تهمة تفجير فندق مراكش أطلس إسني، بينت التحريات اللاحقة أنها غير صحيحة؟ ماذا حصد الشعبان من ذلك كله؟ لا شيء سوى مزيد من الألم والريبة والخوف من مستقبل مثقل بالأسئلة الشقية. لهذا، ذكرتني مقابلة ملعب الثمامة بقصة سيدنا إبراهيم وهو يستعد للتضحية بابنه إسماعيل، تنفيذاً لأمر الله في رؤياه قبل أن يُفدى بكبش، عوض التضحية الفعلية بالتضحية الرمزية. ألم تكن المقابلة حرباً رمزية حلت محل حرب مدمرة، وخرج منها المتصارعان بنبل متفقين ومتعادلين في كل شيء. بل بينت المقابلة أن ما في القلوب كبير وجميل وعزيز. صُور الجماهير المغربية والجزائرية التي خاطت العلمين معاً يفترض أن تدفع بنا إلى تحويل الرمزي إلى حقيقة؟ التحام بلايلي بالمهاجم المغربي حفيظي، في حميمية من خلال صورة عبرت مواقع إلكترونية كثيرة، ما يعني أن ما في قلوب الشعبين كبير. ألم يحن وقت تثمين ذلك كله من ساسة أصيبوا كلياً بالعمى القلبي والبصري، الذي لا يفيد البلدين في شيء؟ المقابلة التي حملت في داخلها، ظاهرياً، أنفاس حرب رمزية، لعبت فيها دعايات المواقع دوراً سلبياً ربحاً للايكات مليئة بالأحقاد، من هنا وهناك. كل شيء تبخر بعد انتهاء المقابلة التي أدى فيها الفريقان دوراً قتالياً شجاعاً، لكن الأخوة ظلت عالية وكبيرة. المقابلة في الميدان كانت شديدة الرقي بدون مبالغة، وكان الرابح الكبير فيها الروح الرياضية والمحبة التي صقلها التاريخ والمصير المشترك بين الشعبين. أعطتنا المقابلة، إلا للعميان وفرسان الحروب والعداوات، درساً حقيقياً في السلام والتفاهم، وأنه آن الأوان لخلق حوار تطرح فيه، سراً أو علناً، كل المشكلات العالقة التي تعيق هذا التواصل الممكن. وهي موجودة، ونعرفها جميعاً، وليس هذا وقت تقليب المواجع التي لن تعمل إلا على إشعال فتيل الخلاف والحروب الصامتة. ونعرف أيضاً أن الخلافات الألمانية- الفرنسية ثقيلة، بينهما ملايين الضحايا في الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك تحولا إلى القاطرة المركزية التي جرت وراءها أوروبا نحو خيارات السلام والوحدة وليس الحرب. نريد مغرباً عربياً (ليتحملني الصديق أحمد عصيد في كلمة عربي هنا) ليس بالمعنى العرقي، لكن بالمعنى الثقافي والحضاري. ليست عروبة ميشيل الأحزاب العنصرية، لكن عروبة ابن خلدون وابن رشد، التي ضمت لها ابن ميمون اليهودي، كما استقبلت سيبويه الفارسي. نحلم بمغرب جميل تنتقل فيه القطارات السريعة من طرابلس، وتونس، والجزائر، ووهران، والرباط، والدار البيضاء، وانتهاء بنواكشط، دون حواجز جمركية. مغرب الاتساع والحب والثقة المتبادلة. مغرب تسيره المصالح المشتركة للشعوب ولا يسيره ساسة، رؤاهم لا تتعدى أنوفهم وسراتهم. نحتاج اليوم فقط إلى التفكير بعيداً عن الأسوار التي ترتفع في الكثير من الأدمغة المالكة للقرارات، وبعيداً عن التحالفات السرية والمعلنة التي لن تقهر في النهاية شيئاً آخر سوى الشعوب التي حرمت من حقها في الأخوة والتواصل والحب. يجب أن تنتصر اليوتوبيا على الديستوبيا، مهما كان الثمن.
واسيني الأعرج
القدس العربي