د. صبري محمد خليل خيري - التقدم الحضارى والانتقال من الانشطار بين التقليد والتغريب الى التجديد والأصالة والمعاصرة

تمهيد: هناك ثلاثة مواقف- أساسية- من إشكالية كيفية تحقيق التقدم الحضاري للامه العربيه المسلمة بشعوبها المتعددة وغيرها من امم مسلمه وهى:

أولا: موقف التغريب :

محاوله اجتثاث الجذور: هو موقف يقوم - حضاريا وفي واقعنا المعاصر- على أن تحقيق التقدم الحضاري لا يمكن أن يتم إلا باجتثاث جذور الأمة ، والتبني الكامل للمفاهيم والقيم والقواعد " الكليه والجزئيه" للأمم المعاصرة " ، وتحديدا الامم الغربية التي تتبنى الليبرالية كفلسفة ومنهج ومذهب ذو اركان اربعة "الفردية فى الاخلاق ، والرأسمالية فى الاقتصاد والصيغة الليبرالية للديمقراطية فى السياسيه، والعلمانية فى علاقة الدين بالدولة ".

محاوله استبدال المفاهيم والقيم والقواعد الكليه الاسلاميه : فهو موقف يقوم على محاوله استبدال المفاهيم والقيم والقواعد الكلية الإسلامية بمفاهيم وقيم وقواعد كلية أخرى. وبالتالى يمكن صياغة هذا الموقف بمنظور علم أصول الفقه ـ بأنه موقف يقوم على تبني مفاهيم وقيم وقواعد تتناقض - موضوعيا وبصرف النظر عن النوايا الذاتية - مع أصول الدين النصية الثابتة " التى عبرنا عنها بالمفاهيم والقيم والقواعد الكلية الإسلامية ".

القبول المطلق للمفاهيم والقيم والقواعد الغربية: فهذا الموقف يقوم على الرفض المطلق للمفاهيم والقيم والقواعد الكلية الاسلامية وفى ذات الوقت يقوم على القبول المطلق للمفاهيم والقيم والقواعد الغربية ، دون تمييز بين ما يتسق او يتناقض منها مع أصول الدين النصية الثابتة على المستوى النظرى ، وواقع المجتمعات الامم المسلمة على المستوى العملي" . فضلا عن عدم التمييز بين التمييز بين : ما هو كلى او جزئى، ايجابى او سلبى، صواب او خطأ منها.

معاصره بدون اصاله: فالحل الذي يقدمه هذا الموقف لمعادلة الأصالة والمعاصرة يقوم على معاصره بدون اصاله . فهو محاوله لتحقيق معاصره فاقده للذاكره على مستوى الفرد او الامه، والقفز نحو المستقبل بدون ماضى، وهى محاوله مستحيلة ،لان المستقبل "المعاصرة" ما هو الا اعادة تشكيل للماضى - الذى تم استدعائه بالذاكرة- بالخيال- وبالتالى فان لكل فرد او امه مستقبل"معاصرة" خاص، وهو ما تنكره هذه المحاولة – كما ان اى قفزة لابد لها نقطة انطلاق معينه "هى فى حالة القفز نحو المستقبل "المعاصره " ماضى – الفرد او الامه-" .

محاوله نقض البنية الحضارية للامم المسلمه: هذا الموقف يلزم منه –موضوعيا وبصرف النظر عن النوايا الذاتية لانصاره – محاوله نقض البنية الحضارية الحضارية للأمم المسلمة - ومنها الامه العربيه بشعوبها المتعددة .

محاوله فاشله:وهذا الموقف فاشل فى محاولته اجتثاث الفرد والامة من الجذور الحضاريه، او هدم البنية الحضارية للأمم المسلمة - ومنها الامه العربيه بشعوبها المتعدده -

التشويه:واقصى ما يمكن ان يصل اليه هذا الموقف هو تشويه الشخصية الحضاريه للفرد او الامه حال تبنى هذا الموقف. فلا تعود هذه الشخصية الحضارية اسلاميه او غربيه . بل شخصيه تتصارع فيها شخصيتان متناقضتان-ويعبر هذا الصراع عن ذاته باشكال متعدده - اى مصابة بازدواج الشخصية "الحضارية" .

الحاجز النفسى المتصل بالمكان :فتبنى بعض فئات المجتمع- غالبا المتعلمين والمثقفين - لهذا الموقف يؤدى الى تشكيل حاجز نفسى - متصل بالمكان- بينها وبين باقى فئات المجتمع- ومن مظاهره رفضها المطلق للنسق العقدى القيمى لمجتمعاتها ، واعتبارها ان تخلف النمو الحضاري لمجتمعاتها مطلق وغير قابل للتغيير فى ظل البنية الحضارية لهذه المجتمعات، وليس مشروط بعوامل متعددة متفاعلة: داخليه وخارجيه– ومثال للاخيره الاستعمار الغربى لهذه المجتمعات وتبعيتها لهذا الغرب الاستعمارى- وبالتالى فانه – اى تخلف النمو الحضاري - قابل للتغيير- هذا الحاجز النفسى لا يزول حتى بالهجرة الى المجتمعات الغربية "المثال والنموذج بالنسبة لها" ، لان هذه المجتمعات لن تقبل - للاعتراف بها- باقل من الذوبان الكامل فيها - وهو مستحيل التحقق – وبهذا تتحول هذه الفئه الى نخب " متغربه عن مجتمعاتها"، وليس طليعة لها ، تتولى قيادة تطورها الاجتماعي – فكريا-

تكريس التبعيه:بناء على ما سبق فان هذا الموقف يلزم منه –موضوعيا وبصرف النظر عن النوايا الذاتية لأنصاره- تكريس التبعية و خدمة غايات الاستعمار باشكاله المتعدده "الاستعمار القديم ،الاستعمار الجديد " ومثاله – فى واقعنا المعاصر- مشروع الشرق الأوسط الجديد"الامبريالي- الصهيوني"، والذي يهدف إلى الارتداد بالنظام السياسي"الرسمي" العربي، من مرحله التجزئة على أساس شعوبي ”الدول الوطنية العربية “، بعد اتفاقيه “سيكس – بيكو ” ، بين قوى الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا) ، إلى مرحله التفتيت على أساس طائفي / قبلي – عشائري ” الدويلات الطائفية “، مع بقاء إسرائيل كحارس لهذا التفتيت.

ثانيا: موقف التقليد

العزله المطلقة عن الامم المعاصرة:
هو موقف يقوم – حضاريا- على أن تحقيق التقدم الحضاري يكون بالعزلة – المطلقه- عن الامم المعاصرة وإسهاماته الحضارية ، وبمنظور علم أصول الفقه هو موقف يقوم على الوقوف عند أصول الدين وفروعه، فهو لا يميز بين أصول الدين النصية الثابتة وفروعه الاجتهادية المتغيرة …

الاخذ بالتقليد المنهى عنه: فهذا الموقف يرتبط ارتباطا عضويا بالتقليد ،الذي مضمونه قبول قول القائل بدون دليل ، والذي يرفضه الإسلام، والذي نهى عنه الائمه :يقول الإمام أبو حنيفة(حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتى بكلامي، فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا)( ابن عبد البر، في فضائل الأئمة والفقهاء، ص 145 )، ويقول الإمام أحمد بن حنبل ( لا تقلدوني ولا تقلدوا مالكا ولا الشافعي ولا الثوري، وخذوا من حيث اخذوا) (ابن القيم أعلام، اعلام الموقعين،ج2، ص302(.

الرفض المطلق للمفاهيم والقيم والقواعد الغربية : وهو موقف يقوم على الرفض المطلق لمفاهيم والقيم والقواعد الغربية دون تمييز بينما هو : كلى او جزئى ، سلبى او ايجابى ، صواب او خطأ منها.

عدم تعبيره عن الموقف الاسلامى الصحيح من التجارب الإنسانية : وهذا الموقف لا يعبر عن الموقف الاسلامى الصحيح من المفاهيم “النظرية “والتجارب “العملية ” الإنسانية ، فقد ذمه القران الكريم فى معرض ذمه لموقف الكفار والمشركين، القائم على رفضهم المطلق للعقيدة الصحيحة وأنماط السلوك القويمة التي جاء بها الأنبياء، والذي يلازم قبولهم المطلق للعقائد الفاسدة وأنماط السلوك القبيحة المتوارثة من الآباء ،وبالتالى قال تعالى﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ ﴾ (المائدة:104) ، وشبه هذا صاحب هذا الموقف بالأعمى لانه يرفض ويقبل بدون دليل ﴿ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ (الإسراء:72).

اصاله بدون معاصرة: فالحل الذي يقدمه هذا الموقف لمعادلة الاصالة والمعاصرة يقوم على اصاله بدون معاصره، اى ماضى بدون مستقبل.

محاوله العودة إلى الماضى زمانيا وليس قيميا: فهو موقف يقوم على محاوله العوده الى الماضى - زمانيا وليس قيميا – وهى محاوله مستحيله واقعيا ومرفوضه اسلاميا ، فقد ذمتها النصوص فى معرض ذمها لتمسك الكفار بعقائد الآباء الفاسدة الماضويه كما في قوله تعالى﴿ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا ﴾ )الأعراف:28 ). اما العودة الممكنة واقعيا والمطلوبه اسلاميا فهى العودة القيمية ، ومثال لها الاقتداء بالسلف الصالح الذي أوجبته نصوص يقينية قطعية على جميع المسلمين كقوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه) (التوبة:100).وقول الرسول (صلى الله عليه وسلم)(خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجئ أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)( رواه الإمام أحمد في مسنده والبخاري ومسلم). وهى – اى العودة القيمية للماضى- وخلافا لمحاولة العودة الزمانية الماضي لا تتناقض مع المعاصرة ، حيث أن طبيعة الاقتداء بالسلف الصالح تختلف باختلاف موضوع أقوالهم .

اصول الدين: فإذا كانت أقوالهم تتصل بأصول الدين، ممثلة في النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة ،فان الاقتداء هنا يأخذ شكل الالتزام بفهم السلف الصالح لهذه النصوص ، وما تتضمنه من عقائد وعبادات وأصول معاملات، كما يأخذ شكل إلغاء الإضافات التي طرأت علي فهم السلف لهذه الأصول ،اى البدع إذ البدعة هي بالإضافة إلى أصول الدين.

فروع الدين: أما إذا كانت أقوالهم تتصل بفروع الدين،ممثله في النصوص الظنية الورود والدلالة ،فان مضمون الاقتداء بالسلف الصالح هنا هو الاقتداء بهم في اجتهادهم في وضع قواعد فرعية لتنظيم مجتمعاتهم استجابة للمشاكل التي عاشوها، وذلك بالاجتهاد في وضع قواعد فرعيه لتنظيم مجتمعاتنا استجابة للمشاكل التي نعيشها ، غير أن هذا لا يعنى إلغاء القواعد الفرعية التي وضعها السلف الصالح ،بل اعتبارها تجسيدا لماضي الامه وخبرتها، وبالتالي اتخاذها نقطه بداية لاجتهادنا لا نقطة نهاية له، وذلك بالالتزام بالقواعد الفرعية التي وضعوها كما هى ، او بعد الترجيح بينها ، أو وضع قواعد جديدة استجابة لمشاكل جديدة .

الحاجز النفسى المتصل بالزمان: فتبنى بعض فئات المجتمع- وخاصة المتعلمين والمثقفين - لهذا الموقف يؤدى الى تشكيل حاجز نفسى - متصل بالزمان- بينها وبين باقى فئات المجتمع- ومن مظاهره تكفيرها لمجتمعاتها – سواء كان تكفير معلن ، مضمر مباشر او غير مباشر-وبالتالى يحول هذا الحاجز النفسى دون قيم هذه الفئه بدورها فى محاربة أنماط الفهم الخاطئ للدين"كالبدع"، التى تكرس لتخلف النمو الحضارى ، وتقديم أنماط الفهم الصحيح للدين "كالاجتهاد" ، التى يساهم فى تحقيق التقدم الحضاري.

موقف التجديد- التقويم - الجمع بين الأصالة والمعاصرة-: هو موقف يقوم - حضاريا وفى واقعنا المعاصر- على أن تحقيق التقدم الحضاري يتم باستيعاب ما يتناقض مع الهيكل الحضاري للامم المسلمة - ومنها الامه العربيه المسلمه بشعوبها المتعدده، ممثلا فى المفاهيم والقيم والقواعد الكلية الإسلامية ، التي عبر عنها علم اصول الدين بمصطلح "اصول الدين النصيه الثابتة ".وبالتالي فان عملية الاستيعاب هنا لا تتناقض مع البنية الحضارية لهذه الامم.

التجديد: فهذا الموقف ينطلق من مفهوم التجديد طبقا لدلالته الاصطلاحية - الشرعية التي اشارت اليها النصوص وبينها السلف الصالح وعلماء اهل السنة بمذاهبهم المتعددة " باعتبارهم يمثلون الفهم الصحيح للإسلام). فالتجديد لغة اعادة الشىء الى سيرته الاولى ... والجديد نقيض البلى والخلق (لسان العرب: ج3/ ص111، الصحاح للجوهري: ج2/ ص 454). اما التجديد فى الاصطلاح الشرعي فهو اجتهاد فى فروع الدين المتغيره مقيد "محدود" باصوله الثابته، قال (صلى الله عليه وسلم)(إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) (سنن أبى داود، كتاب الملاحم، باب ما يذكر فى قرن المائة ، 3740 - الحاكم فى المستدرك ج4/ ص522) . عرف العلماء التجديد فى الحديث" بإحياء ما اندرس من معالم الدين، وانطمس من أحكام الشريعة ، وما ذهب من السنن...)(فيض القدير: ج1/ ص10). كما عرفوا المجدد بانه (من له حنكة رد المتشابهات إلى المحكمات، وقوة استنباط الحقائق والدقائق والنظريات ، من نصوص الفرقان وإشاراته ودلالاته) (عون المعبود : ج11/ ص389 ) . ويترتب على هذا ان التجديد المذكور فى الحديث لا ينطبق على الوقوف عند أصول الدين وفروعه"التقليد"، ولا رفض أصول الدين وفروعه "التغريب"...

دلالات حديث التجديد: ولحديث التجديد دلالات متعددة . بعضها قطعي الدلاله،وبالتالى محل اتفاق بين العلماء ، وبعضها ظني الدلاله،وبالتالى كانت محل اختلاف بينهم، ومثال للاخيره:

اولا: دلاله لفظ"راس المائه": فقد اختلف العلماء في معنى " رأس المائة " المذكور في الحديث، هل يراد به بداية المائة أو نهايتها، وهل يعتبر المبدأ من تاريخ المولد النبوي أو البعثة أو الهجرة أو الوفاة.. قَالَ الْمُنَاوِيُّ (وَاخْتُلِفَ فِي رَأْسِ الْمِائَةِ هَلْ يُعْتَبَرُ مِنَ الْمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ أَوِ الْبَعْثَةِ أَوِ الْهِجْرَةِ أَوِ الْوَفَاةِ...)( فَتْحِ الْقَدِيرِ)

ثانيا: دلاله لفظ "من" على الفرد او الجماعه : كما اختلفوا فى معنى لفظ "من " هل يدل على فرد او جماعة ، فقال البعض يدل على فرد وقال آخرون يدل على جماعه
، يقول الحافظ الذهبي ( الذي أعتقده من الحديث أن لفظ " مَن يُجَدِّدُ " للجمع لا للمفرد )( تاريخ الإسلام : ج23، ص180).

ثالثا: تحديد المجددين :كما اختلف العلماء فى تحديد المجددين، وقد يرجع ذلك الى ميل علماء كل مذهب الى اعتبار أئمة مذهبهم هم المجدديين ، يقول الحافظ ابن كثير) وقد ادعى كل قومٍ في إمامهم أنه المراد بهذا الحديث..)( كشف الخفاء : ج1، ص283).

ونرى وجوب الجمع بين هذه الدلالات باستخدام القواعد الأصولية التى تمكن من ذلك:

اولا: الدلالة التي يرجحها اغلب العلماء ان مبدا راس المائة من الهجره، يقول الْمُنَاوِيُّ (... والراجح لدي أنه اعتباراً من الهجرة)( فَتْحِ الْقَدِير)، ولكنها دلالة ظنية تمثل قاعدة "إحصائية " ذات استثناءات، ليست قاعدة مطلقة لا شواذ لها.

ثانيا: الجمع بين دلالتي لفظ "من" بتقرير ان لفظ " من" يدل على فرد كما يدل على جماعة"، يقول الحافظ ابن حجر " لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط ، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة - يعني قد تكون جماعة - )(فتح الباري: ج13، ص295)، ولكن يجب تقرير ان الدلالة الأولى هى الدلالة الأصلية "، والثانيه هى الدلالة التبعية . وأن عصور التجديد المتقدمه كان الاصل فيها التفرد، بينما الأصل فى عصوره المتاخره - الممتدة حتى عصرنا- التعدد- نسبة لانتقال الحياه من البساطة الى التعقيد - وان التعدد هو الأصل فى ارتباطه بتعدد مجالات التجديد،لكن التفرد ممكن فى كل مجال من هذه المجالات ، لكن بمعنى الفرد الاكثر اجتهادا فى المجال المعين وليس المتفرد بالاجتهاد فيه.

ثالثا: ان التحديد العينى للمجددين " اى تحديد اشخاصهم " كان ممكنا فى العصور المتقدمة للاجتهاد- فاتفق العلماء على تحديد اشخاص بعض المجددين "كعمر بن عبد العزيز مثلا" . لكنه غير ممكن فى عصوره المتأخرة – التى تمتد الى عصرنا – لان الاتفاق والاجماع اصبح اكثر صعوبة فى هذه العصور، وماهو ممكن فيها هو التعيين الصفاتى للمجددين" اى تحديد صفات معينه- هى شروط التجديد- متى ما انطبقت على اى شخص فهو من المجددين ". وفى كل الاحوال فانه يجب لضمان صحة التحديد العيني او الصفاتى للمجددين التحرر من التعصب المذهبى، فالحديث يشير الى ان فعل المجدد "اى التجديد" يشمل الامه ولا يقتصر على فئه منها دونها " يبعث لهذه الأمة". لذا يقول الحافظ ابن كثير (...والظاهر – والله أعلم – أنه يعمُّ حملةَ العلمِ من كل طائفة وكل صنف من أصناف العلماء : من مفسرين , ومحدثين , وفقهاء , ونحاة و ولغويين , إلى غير ذلك من الأصناف(..(كشف الخفاء :ج1/ص 283 )

ضوابط التجديد:

ا/ التمييز بين الأصول والفروع
: وجوب التمييز بين أصول الدين " التي مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة"، والتي لا يجوز مخالفتها- فهى ضابط للتجديد وليست موضوع له – وفروع الدين "التي مصدرها النصوص الظنية الورود والدلالة"،والتي يجتهد فيها المسلمين دون إثم أو تكفير ,ومن أصاب منهم له اجري الاجتهاد والاصابه، ومن اخطأ له اجر الاجتهاد- وهى موضوع التجديد -

ب/ التمييز بين الثوابت والمتغيرات : وجوب التمييز بين المجالات الثابتة والمجالات المتغيرة في الإسلام ، فالشريعة الإسلامية تشمل العبادات والمعاملات التي تنقسم إلى قسمين :القسم الأول هو المعاملات الفردية وتضم الأحوال الشخصية وقضايا الأسرة ومعاملات الفرد من بيع وإجارة ورهن وكفالة والمواريث… أما القسم الثاني فهو تنظيم العلاقة بين الأفراد في الجماعة، وهو ما يسمى النظم ، مثل النظام الاقتصادي والنظام السياسي والنظام القانوني… أما العبادات والمعاملات الفردية فقد فصلها القران والسنة ، فهي ثابتة لا تخضع للتغير أو التطور، والأصل أنها لا تخضع للاجتهاد أو التجديد ، أما القسم الثاني من المعاملات المتعلق بتنظيم العلاقة بين الأفراد في الجماعة، فقد أورد فيه الإسلام قواعد كلية ،وترك أمر وضع قواعد الفرعية للاجتهاد، ولا يعنى هذا إلغاء اجتهادات السلف الصالح وعلماء أهل السنة ،بل اتخاذها نقطه بداية وليس نقطه نهاية.

الموقف التقويمى "النقدى"من المفاهيم والقيم والقواعد الغربيه: : هذا الموقف ينطلق من الموقف الإسلامي الصحيح من المفاهيم والتجارب الإنسانية ، والذى يتجاوز موقفى الرفض او القبول المطلقين الى الموقف التقويمى " النقدى" من المفاهيم والقيم والقواعد الغربية ، والذى يقوم– على المستوى النظرى - على التمييز بين ما يتسق مع مفاهيم وقيم وقواعد كلية إسلامية وما يتناقض معها –وبالتالى قبول الاولى ورفض الثانية ، كما يقوم – على المستوى العملى – على التمييز ما هو إيجابي وماهو سلبي منها. وبالتالى قبول الاولى ورفض الثانيه ايضا.هذا الموقف اشارت اليه الكثير من النصوص كقوله تعالى (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ...﴾ (الزمر:17- 18) ،وقال تعالى ( ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ... )( الأعراف : 85)، وقال تعالى(لاخَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ...)(النساء ) ، وقال (صلى الله عليه وسلم)(لا يكُنْ أحَدُكمْ إمَّعَة، يقول: أنا مع الناس، إن أحْسنَ الناسُ أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأتُ، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم إن أحسنَ الناسُ أن تُحْسِنُوا، وإن أساؤوا أن لا تَظلِمُوا)(أخرجه الترمذي عن حذيفة) . وهو الموقف الحقيقي لعلماء الإسلام من من كثير من المفاهيم والمجالات المعرفية ، كموقف الإمام ابن تيمية من التصوف حيث يقول )طائفة ذمت الصوفية والتصوف ، وقالوا أنهم مبتدعون خارجون عن السنة ...وطائفة غلت فيهم، وادعوا أنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء . وكلا طرفي هذه الأمور ذميم , والصواب أنهم مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده ، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين ... ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه ...) مجموع الفتاوى (ج 11 / ص17 ( .

الاستفادة من الإسهامات الحضارية للأمم الأخرى : كما أن هذا الموقف يتجاوز موقفي الرفض والقبول المطلقين للإسهامات الحضارية للأمم الأخرى، إلى موقف نقدي قائم على اخذ وقبول ما يتسق مع أصول الدين وواقع المجتمعات المسلمة، ورد ورفض ما يتناقض معهما ، وهو الموقف الذي يتسق مع جوهر موقف الإسلام من المجمعات الأخرى وإسهاماتها ، فقد استفاد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في غزوة الأحزاب من الفرس فى صنع الخندق ، ورد في عون المعبود (سميت الغزوة بالخندق لأجل الخندق الذي حفر حول المدينة بأمره – عليه الصلاة والسلام – لما أشار به سلمان الفارسي فإنه من مكائد الفرس دون العرب)، و استفاد عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) من الفرس في تدوين الدواوين ، يقول ابن الأثير(الديوان هو الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء، وأول من دون الدواوين عمر، وهو فارسي معرب(.

الجمع بين الأصالة والمعاصرة: وهذا الموقف يقدم – فيما نرى – الحل الصحيح لمعادلة الأصالة والمعاصره، لأنه يجمع بين الأصالة "من خلال اعتباره ان التراث الحضارى للامه يمثل- باعتباره تجسيدا لماضى الامه وخبرتها - نقطة البداية- وليس نقطة النهاية لاى اجتهاد حضارى"، والمعاصرة " باستيعاب ما لا يتناقض مع الهيكل الحضاري للامه- ممثلا فى اصول الدين النصية الثابتة- من الإسهامات الحضارية للأمم المعاصرة – ومنها الامم الغربية – "

الارتباط بين استمرار التجديد والوعد الالهى باستخلاف الامه فى المنظور التنبؤى الاسلامى: وهناك ارتباط وثيق بين التجديد والاستخلاف فى المنظور التنبؤى الاسلامى، فقد أشارت النصوص القطعية التى يستند اليها الى استمرار التجديد " كما فى حديث التجديد " ، كما أشارت الى الوعد الالهى باستخلاف الامه - فى حال التزامها بشروطه - " كما فى قوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ...)(النور:55)". وشروط الاستخلاف نوعين :

شروط نصية مطلقة :تشمل كل مكان(فهى تتصل بأمها التكليف "الامه الاسلاميه" باممها وشعوبها التكوينية المتعددة)، و كل زمان(الماضى والحاضر والمستقبل) . وتتمثل في المفاهيم والقيم والقواعد الكلية ، التي مصدرها النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة .

شروط اجتهادية مقيدة : وهى مقصورة على مكان معين (امه تكوين معينه الامه العربيه المسلمه بشعوبها المتعددة مثلا )، وزمان معين (الحاضر مثلا). وتتمثل فى الحلول النظريه للمشاكل المشتركه، التى يطرحها الواقع المعين مكانا وزمانا ( مثلا الحرية والعدالة الاجتماعية و الوحدة والتجديد "الجمع بين الأصالة والمعاصرة " – على وجه لا يتناقض مع أصول الدين النصية الثابتة ، وباعتبارها قيم حث عليها الاسلام). وهذا النوع من أنواع شروط الاستخلاف يندرج تحت اطار التجديد.

اقسام التجديد ومراحل التغيير:وللتجديد قسمين أساسيين:

القسم الأول : وهو قسم نظرى مجاله فروع الدين النظريه، وهو الاجتهاد اى وضع الحلول النظرية للمشاكل التى يطرحها واقع معين زمانا ومكانا، مقيدا بالقواعد المطلقة التى مصدرها الوحى، والتى تحدد نمط الفكر اللازم لوضع هذه الحلول . وقد ميز العلماء بين المجتهد المقيد والمجتهد المطلق، والفارق بينهما هو فارق فى الشمول بين التجديد فى فرع واحد من فروع الدين او اكثر من فرع، والمجتهد المطلق هو المجدد. وهو القسم الأصلي للتجديد .

القسم الثانى: وهو قسم عملى، مجاله فروع الدين العمليه، وهو تنفيذ الحلول السابقه فى الواقع بالعمل ،مقيدا بالقواعد المطلقة التي مصدرها الوحى ، والتى تحدد اسلوب العمل اللازم لتنفيذ هذه الحلول. وهو قسم تبعى للتجديد ، لان وضع الحل "النظرى" سابق على تنفيذه "العملى" .

وهناك ارتباط بين اقسام التجديد ومراحل التغيير فى منهج التغيير الاسلامى - والتى تمثل أيضا مراحل الانتقال بواقع المسلمين من ثنائية الاستكبار – الاستضعاف الى الاستخلاف بالعاده المتعدده"السياسيه، الاقتصاديه، الاجتماعيه، الحضارية.." .

المرحلة الأولى"الاستطاعة": هي مرحله الانتقال مما هو كائن، إلى ما هو ممكن ، والتي يمكن التعبير عنها بمصطلح الاستطاعة ، ومن أدلتها: تقرير النصوص لقواعد متعددة منها قاعدة الاستطاعة (فَاتّقُوا ْاللّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). ولهذه المرحلة مستويان :

مستوى أصلى: هو مستواها الاعتقادى"الفكري" . ويأخذ فيها التجديد شكل نظرى " متصل بقسمه الاول " مضمونه الاجتهاد فى وضع الحلول النظرية للمشاكل التي يطرحها واقع الأمة المعاصر ، والتى هى فى ذات الوقت غايات للاراده الشعبيه للامه ، وشروط مقيدة اجتهادية للاستخلاف.

مستوى فرعى: هو مستواها العملي"التطبيقي". وياخذ فيها التجديد شكل عملى"متصل بقسمه الثانى" مضمونه تنفيذ ما هو ممكن من هذه الحلول النظريه، فى الواقع العملي للأمة ، بأساليب سلمية وشكل تدريجي.

المرحلة الثانية " العزم ":هي مرحله الانتقال مما هو ممكن إلى ما ينبغي أن يكون ، ويمكن التعبير عنها بمصطلح العزم ، و من أدلتها مفهوم العزم الذي يرتبط بما ينبغي أن يكون كما في قوله ( وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ )( الشورى: 43 ) ، وهذه المرحلة لها مستويان :

مستوى أصلى : هو مستواها العملي"التطبيقي" . وياخذ فيها التجديد شكل عملى" متصل بقسمه الثانى" مضمونه إكمال التنفيذ العملى لكل هذه الحلول النظرية فى واقع الأمة.

مستوى فرعي: هو مستواها الاعتقادي"الفكري". وفيها يأخذ التجديد شكل نظرى " متصل بقسمه الاول" مضمونه الاجتهاد العلمي فى وضع حلول نظرية جديده، للمشاكل الجديدة التي سيطرحها الواقع العملي للامه، بعد حل المشاكل السابقة.


د. صبرى محمد خليل / أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه فى جامعه الخرطوم

[email protected]

للاطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زيارة المواقع التالية:
1- الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات الموقع الرسمي للدكتور صبري محمد خليل خيري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى