عبدالعزيز أمزيان - أكواب الحياة في القسم المعنون " بي حِكَّةٌ في الجذور" من ديوان الشاعر شاهر خضرة (الجزء الأول من أعماله الشعرية)

شاهر خضرة، شاعر وكاتب من سوريا، خاض غمار الكتابة الشعرية منذ يفاعته، واقتحم معركة الحياة في مقتبل العمر، بجسارة، وشجاعة، وجرأة، وقوة، ورباطة جأش، عشق السفر حد الجنون، وهام بجغرافية الدول هيام المتيّمين الأبطال، وشغف بالمغامرات والترحال الدائم، بين حواضر العالم، مما جعل أصدقاءه يطلقون عليه" السندباد"، استقر به المطاف في الآونة الأخيرة بألمانيا.
صدرت للشاعر شاهر خضرةːعدة مجموعات شعرية بالفصحى منهاː"واضحا سلسا غامضا" 1999. "الإبحار والخوف" 1999." "الأرض ترفع ساقها" 2002." كتاب الأسماء"2003.
كما له مجموعة شعرية باللغة الدارجةː
"سونيتات شامية"2002.و"ذيب الشلايا" كتاب شعري يجمع الفصحى واللغة الدارجة2003.
" هذيان الجسد" بالفصحى 2005.
"مائيل في وحامه الكنعاني" 2007بالفصحى .
ثم الأعمال الشعرية بالفصحى في جزأينːالجزء الأول والجزء الثاني، في حلّة فخمة، قشيبة، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، سنة 2014. يتكوّن الجزء الأول من أربعمائة وأربع وعشرين صفحة، بينما يتكوّن الجزء الثاني من خمسمائة وست وثلاثين صفحة، عمل ضخم، وعالم شعري قائم الذات، ساحر بآفاقه الإيحائية، وفاتن بامتداداته التخيّلية.
وفي عام 2019 صدر له الجزء الثالث من أعماله الشعرية باللغة الدارجة بعنوان (فم آخر للماء) وقدّم له الشاعر الكبير أدونيس .
**
تصادفك الصفحة الأولى من الديوان (الجزء الأول من أعماله الشعرية) بصورة فوتوغرافية للشاعر شاهر، وهو في كامل ألقه، ومنتهى بهائه، يجلس باهتزاز نافذ، على فرع شجرة ضخمة، ذات أوراق خضراء، غامرة بالحياة، تراه يتأهّب، ليحلّق في هذا الوجود العريض، والمدى الممتد، بكل ما أوتي من قوة إلهام، وبكل ما جيء به من أثر وحي، عارم بالأسئلة، طافح بالإرادة ، مثخن بالسفر والحلم والمغامرة، في استكناه خبايا الأشياء من حوله، وسبر أغوار الموجودات المحيطة به... الصورة تحتل نصف مساحة الصفحة، بينما يوجد في النصف الأسفل منها، مقطع شعري، راسخ الدلالة، كأن الصورة هي العنوان ويوحيان بأنهما شعرياً لحمة واحدةː
كان الهواءُ يقول في أذنِ الصنوبرِː
أيُّ غصنٍ أسودٍهذا الغريب؟
هل جُمَّ يوماً ثم عادَ؟
وهل سيرجعُ في النسوغْ؟
من أيِّ ناحيةٍ سنبصرُ وجهَهُ ليكونَ أخضر؟
* *
هذي صنوبرةٌ أقلَّتْني إلى معراجها
ما ظلَّ جذرٌ في التراب
وفي ينابيع الشتاء
وما فتحنا ظلَّها
فسرائرُ الأبواب تحت رتاجها
وقراءةُ الأنوار غير سراجها.
في الصفحة الموالية كلمة قصيرة مقتبسة من المفكر العالمي، والشاعر الكوني أدونيس
" كل ما يقرأ ويفهم بسرعة، دون جهد عقلي، يستهلك بسرعة، أي يموت بسرعة.
لا يحيا الكتاب إلا بقدر ما يختزن قوة تظل تحرك قرَّاءَه، بحيث يرونه مختلفا كلما جدّدوا قراءته"
عندما تقرأ الأعمال الشعرية، وسأتوقف عند القسم المعنون بـ " بي حِكَّةٌ في الجذور" الذي يقع في ثلاث وتسعين صفحة، ويضمّ خمس عشرة قصيدة، تشعر أنك تقرأ لشاعر مختلف، وستحسُّ أنك تدخل عوالم فنية غنية، وأكوانا جمالية ثرّة، ستعلم لتوّك، أنك أنزلتَ حاجتَك بواد ذي زرع، و بحر ذي جواهر، ونهر ذي لآليء، ومروج ذي زنابق، ستبرق أمام ناظريك لغةٌ فنية فريدة، يعتصرها الشاعر من فكر زاخر، ويستقطرها من روح حاشدة، ستفيض اللغة بكؤوس المعنى الراجف، وسيطفح المعجم بأكواب الدلالة المزلزلː
الماء مبتدأُ العناصر كلها
صفة الأنوثة والذكورة فيه،
مكتفٍ في ذاته
رغم التسرُّب
دافئا في كل شيء.
إن قلت في التذكير ماء
أو قلت في التأنيث ماءة
لا فرق .ص 11 قصيدة (الماء في الماءة).
الشاعر خضرة صاحب نزعة ، وميل شديد إلى أن يبصر الأشياء بصرا قويا، ويراها على حقيقتها وجوهرها الأصليين، فهو لا يقنع بما يُتداول من تصورات، ولا ينساق مع ما يُروَّج من رؤى، بل دائم البحث والتغلغل في ماهيتها عن طريق الأسئلة الحارقة، والتنقيب المضني الذي لا يصالح، والنبش المرهق، الذي لا يهادنː
إن تجسَّدتُ فالنواةُ انفلاتْ
أأنا أنتَ؟
حَوَّموا حولنا في الصلاة
لم أشأ أن أقولː
إنني شاعر
فهل شبه للأنتَ؟
نظير أنت يزول. ص 22 و23 (قد سمع الطين).
كما أن الشاعر خضرة مولع بأن يفلسف الأشياء، ويمنحها بعدا عقليا، وهو بذلك يريد أن يصبغ على الحياة أبعادا جمالية، ويخلع عليها ألوانا فنية، تزعزع اليقينيات ، وتخلخل الساكنات، وتمنح الوجود معان أخرى، ومضامين جديدة، تنسجم مع رؤى الشاعر، وتتناغم مع تصوراته، التي تتسم بالشساعة، والعمق، والجاذبية، والانجذاب، والسحر، والبهاء، والسمو، والصفاء ː
صحوت دون أذرعٍ وروح
كأنني أُعجَنُ في السماء
بالطين والدماء
لعلني من ذلك المذبوح .ص 25 (قد سمع الطين).
والشاعر شاهر خضرة شغوف أيضا، بأن يطرق تيمات ذات جدّة وطرافة، ولا يقتصر هذا الأمر على البوح الشعري، والمكاشفة الذاتية، ولكن يتعداه إلى الحياة في واقعيتها المعيشة، وبعدها الحقيقي الملموس، إذ ترى شاهر خضرة، يعيش الشعر في الحياة، ويستلهم القول الإبداعي في اللحظات التي يجري فيها النبض والدم والوصل والاجتماعː
جاءني إبليس يرجوني
لأنضمَّ إليه
كنت مفتونا بنفسي
فتعاليتُ كقارورة خمرٍ
زبدا للوهلة الأولى، ويبقى لي نقائي
إن إبليس شبابٌ
ولكي تُغوى إلى الآخر ما بين يديه.
قل له يا سيدي الشيطانː كن لي امرأةً
فإذا قال أنا النارُ
فقلْː في جسدي بصقَتْ آلهةُ الماء سلاما
هكذا انضمَّ الى الماء ليَطَّفَّأَ بي
افهموني تفهموه. ص 35 (قد سمع الطين)
يسترفد الشاعر قاموسه من الوجود في اتساعه، ويمتح لغته من الحياة في امتدادها، الأرض بما فيها، والأفق بما لديه، لغة تجري بسلاسة، وتهب بتؤدة، لا احتباس يعتور مخارجها، ولا انقطاع يمنع جريانها، كأنها النهر الرقراق، والشلال المتدافعː
فأنا مضطلعٌ بالماء والصلصال
مذ آلهة العالم
حذو النعل بالنعل استكانتْ
لم يكن يقلقني غير عميً في صفير
الماء حولي
حيث فوضى البدء ...ص24 قصيدة (قد سمع الطين).
لغة شفيفة، جديدة مستحدثة، تنطوي على روح العصر، وتعبر عن الواقع الحالي، الذي يتسم بالتشظّي والتمزّق والانشطار ː
رائحا غاديا في مدى وحدتي
صاحبي في سرادق نفسيَ
ظِلٌّ
وخُطاً من ضجر.
دلَّني ذلك المنتظر
بالتواءاته
أين يكمن ...
.......ص 39 (انشطار)
وأنت تمضي قدما في القراءة، ستلمع في ذهنك هذه الأبراق من الأساليب الكثيرة، والجمل المتموجة، التي لا تستقر على نوع واحد، ولا تستكين إلى وتيرة ثابتة، كأنما هي تعكس طرس الحياة التي أدركها الشاعر، والتي شهدت انعطافات، وانعراجات، وبؤرا، وتبديلات، وجغرافيات متباعدة في الأمكنة، ومتنائية في الأزمنةː
قبل أن يكتنف الوعي مكان
لازمان حيث تلقائيَّتي
كانتِ العينان بابين
فإن يزدحم الإدراك في رأسي
أراني سادرا
حول ما يدفق كالريق بأنساغ اللسان
لست أدري
أنطافُ اللغة الجرداء ينمو؟ ص 36 قصيدة (نطاف).
" ويمكن وصفه- كما أشار إلى ذلك الكاتب الصحفي عماد رحمة / فلسطين- بالسندباد لكثرة ترحّله، كما يسافر بنا، من خلال قراءته، إلى عوالم متخيلة وكأنها حقيقية، وهو يقوم برحلات كونية معراجية، بل وإلى باطن الأرض أو إلى عالمها الداخلي" ما يعضد بالملموس هذه الالتماعات التي أشرنا إليها -سالفا- ليس في الأساليب فحسب، بل في كل الأدوات التعبيرية، التي يسخرها الشاعر للإفصاح عن رؤاه الفكرية، وتصوّراته الوجودية، وأكوانه الشعرية، التي تعكس خصب التجربة، وعشب المعرفة، وكلأ الثقافة، التي اكتسبها من وفرة السفر التي تهيّأت لديه، وبلغها من غزارة التنقل الذي أتيح له.
ستباغتك الصور الشعرية التي تغذَّت من هذا الرافد القوي، وتجذّرت من تجربة القراءة الكثيفة التي أدمنها الشاعر خضرة، منذ أن كان شابا غريرا، فأتت عميقة المعنى، شاسعة الدلالة، تركب خيالك، فتتراءى مراياها أسئلة وجودية، تبحر بك بعيدا في الأمداء، وتطوف بك في أقاصي النهاياتː
ما بيننا شوقُ العَمِيِّ إلى البصير
تَدَوَّرِي في جانحيَّ، لكِ
الحكايةُ كالسماء تجمَّعَتْ مرآتُها
القلبُ بحرٌ والنفاذُ من المداد
إلى دوائر قاف
هاءٌ كالشراع،
الشعرُ لي وأنا الصراط المستديرْ،
شمسٌ ولكنَّ الحليب صَبوحُها
بفمي الرضيع فهل لثدي الشمس
أشهى من لساني كي تنيرْ،
جفَّتْ صحائفُكم فإني بعد هذا
لن أرصِّفَ في المدى كينونتي، ص44 ص 45 قصيدة (مرقاة الكينونة).
صور ذات وقعٍ وصدىً على المتلقي، بما تنطوي عليه من دلالات إيحائية، تفي بالحاجة، وتكشف عن خيال خلّاق خصب، وحسٍّ فنّي مبتكر، يتجلّى في المكوّنات التي تتشكل منها الصورة، من تشبيه، واستعارة، ومجاز، وكناية، ترفع القول إلى مصاف الجمال والبهاء، وتسمو به إلى مراتب الحسن والملاحة، تثير دهشة المتلقّي، وتحرّك مشاعره، وتدعوه إلى إمعان الفكر، وتدقيق النظر، لالتقاط المضامين ، وإدراك الأبعاد التي ترمي إليها الصور الشعريةː
قيدٌ مشى بي في شعافٍ تحترقْ
فوق البحورْ
من فرط ما يتنهَّمُ الإنسانُ فيها
أو يمورْ
كسفينة العصيان
أو إيحاء شيطان غرِقْ
حتى غدوتُ رهين رأسي، والمدى
لشروق أيامي مطايا،
الجِنُّ تختلسُ الطواف بأصغرَيَّ
وتسْتَرِقْ. ص 61 ( مرقاة الكينونة).
يظل الشاعر شاهر خضرة ينبوعا رقراقا، وعينا سلسبيلا، له منحاه الفني الخاص به، الذي لا تخطئه عين، ومجراه الجمالي المميز، الذي لا تطفئ جذوته خبرة.
والجدير بالذكر أن الملمح اللافت في تجربة الشاعر خضرة، هو هذا النزوع الأصيل، إلى خلخلة كل ما هو مألوف من القول الشعري، والميل الفطري، إلى زعزعة كل ما هو معتاد من البوح الذاتي، بلغة شاسعة الدلالة، رحبة المعنى، وبمجاز بديع الخيال، بارع الصوغ، وبأسلوب متنوع ، زاخر الجمال، فائض السحر.
عبد العزيز أمزيان






23/12/2021



1640264691347.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى