خالد محمد مندور - كيف تعمل الرأسمالية المصرية.. عفريت الخصخصة...!

تتعالى الصيحات من الجانبين حول الخصخصة ، الجانب الداعي الى الخصخصة سواء اكان محليا أم دوليا يدعى ان الملكية الخاصة وادارتها اعلى كفاءة من إدارة الدولة وان دور الدولة يجب ان يقتصر على الإدارة الكلية للاقتصاد الذى لا يشمل الاستثمار المباشر الا في بعض القطاعات ذات الطبيعة الاقتصادية الاستراتيجية مثل الصناعات العسكرية ، والجانب الاخر يتحدث عن أن استثمارات الدولة هي ملك للشعب ولا يجب خصخصتها ويستدعى في ذلك اشباح الماضي الكئيبة في عمليات الخصخصة التي شابها الفساد الذى أكدته بعض الاحكام القضائية ولم يترتب عليها تطوير الطاقات الإنتاجية ان لم يترتب عليها تصفية هذه الطاقات وتغير طبيعتها مثل ما حدث مع شركة الغلايات التي تحولت أراضيها الى الاستثمار العقاري.
ولكن ما يغيب حقا عن هذا النقاش الأيديولوجي هو الدوافع الحقيقية خلفة، كما يغيب عنة امر اخر في منتهى الأهمية وهو انه لا يوجد شكل معين للملكية الا وكان معبرا عن مصالح اجتماعية وسلوك اقتصادي واجتماعي معين وشديد الارتباط بالوضع الجيوسياسي.
أن الخصخصة في حقيقتها هي عمل سياسي في المقام الأول وليس اقتصاديا، فالخصخصة الأولى في تاريخ بلادنا في تسعينات القرن الماضي لم تكن أبدا لدوافع اقتصادية، بل لدوافع سياسية لكي تضمن حسن سير وسلوك الدولة، التي كانت متمردة، وطرفا فاعلا في الكثير من الصراعات السياسية في المنطقة، خصخصة كانت جزءا من التسوية النهائية للصراع المسلح في المنطقة وخطوة كبرى لاستتباب الأمور بما يتلاءم مع المصالح الغربية.
ولنتوقف الان عند بعض التفاصيل ذات الدلالة
أولا كفاءة الإدارة
وإذا توقفنا عند وهم ان الرأسمالية الخاصة اعلى كفاءة في الإدارة عن رأسمالية الدولة لنتفحصه، الامر الذي يمكن التعرف علية من نتائج الإدارة الفعلية للاستثمارات الخاصة فان أحد اهم المصادر للتعرف على هذه الكفاءة هي بيانات البورصة الموثقة وكما تظهر في تقارير مراقبي الحسابات المستقلين.
وقبل البدء في مراجعة بيانات البورصة لابد أولا من الإشارة الى ان عدد الشركات المساهمة المسجلة بالبورصة المصرية، بالجدول الرئيسي، يدور حول الرقم مئتين من الشركات الخاصة سواء اكانت ملكيتها خاصة حقا وفعلا، اى ان حصص الغالبية فيها تعود الى الرأسمال الخاص، أم أن حصص الغالبية فيها تعود الى رأسمال الدولة الذي تتخفى ملكيتها خلف قانون الشركات المساهمة.
ان مئتان من الشركات المساهمة، تقريبا، من بين عدد يتجاوز الستة الاف شركة مساهمة مصرية مسجلة طبقا لبيانات التعداد الاقتصادي الأخير، موجودة بالبورصة، وهر رقم ذو دلالة يوضح مدى نقص نضج الرأسمالية المصرية بقطاعيها.
فما الذي توضحه بيانات البورصة عن عام 2020؟
من بين عدد 208 شركة مسجلة بالبورصة فان التقرير السنوي للبورصة يوضح ان عدد 50 شركة خاسرة، ولعل الأكثر أهمية هو التوقف عند ثلاثة انواع من الشركات الخاسرة، الشركات الكبيرة الحجم ثم الشركات التي تديرها إدارة اجنبية بحكم ان المالك هو راس المال الأجنبي بحصة اغلبية ثم شركات رأسمالية الدولة.
فما هي قيمة خسائر بعض الشركات الخاصة الكبيرة؟
شركة حديد عز تخسر 7.9 مليار جنية
وشركة القلعة تخسر 1.5 مليار جنية (احمد هيكل)
وشركة بلتون القابضة تخسر 91 مليون جنية
والعز الدخيلة تخسر 4.6 مليار جنية
وليسكو مصر تخسر 300 مليونا (عز)
جنوب الوادي للأسمنت تخسر 316 مليونا (راس مال عربي)
اوراسكوم للاستثمار تخسر 425 مليونا (نجيب ساويرس)
والملاحظ ان اهل الفصاحة، الأعلى صوتا في المطالبة بتوقف الدولة عن الاستثمار المباشر والاكتفاء بقيامها بدور المنظم، تخسر شركاتهم، نجيب ساويرس واحمد عز واحمد هيكل، وهي خسائر لا تتوقف عند العام محل الدراسة، بل تتكرر في العديد من السنوات السابقة.
شركات الملكية والإدارة الأجنبية
السويس للأسمنت تخسر 1.79 مليارا
اسمنت سيناء تخسر 446 مليونا
اسمنت طرة تخسر 617 مليونا
اى ان الجميع في الهم شرق، خسائر تعود لاستخدام تكنولوجيا متخلفة اقل كلفة، ولكن ذات كفاءة اقل اعتمادا على قلة أسعار عناصر الإنتاج مثل الغاز والمواد الخام وعندما تتغير الى الأعلى نتيجة لقرار الدولة يتعالى الصياح للعودة الى الماضي الذي لا يمكن العودة الية، في نفس الوقت الذى لا تقوم فيه هذه الشركات الدولية والمتخصصة بتطوير بنيتها الإنتاجية سواء في مصانعها التي أشاءتها ام بما قامت بشرائه فيتم اغلاق شركة طرة الاسمنت.
شركات رأسمالية الدولة
الحديد والصلب تخسر 982 مليونا
الصناعات الكيماوية كيما تخسر 1.35 مليارا
مصر للألمنيوم تخسر 1.67 مليارا
ان أسباب خسائر الشركات متعددة ومنها تخلف الادارة، والعجز عن تجديد الأصول، واستخدام تكنولوجيا متخلفة وللتغييرات في كلفة عوامل الإنتاج وفساد الإدارة وأخيرا التغييرات السوقية، أن سوء الإدارة ليس رهنا باستثمارات رأسمالية الدولة، بل تمتد لتشمل كافة قطاعات الرأسمالية، ولكنها تمثل تعبيرا عن تخلف الرأسمالية المصرية بقطاعيها وتحكم الطابع الشخصي في الإدارة.
وفيما يتعلق باستثمارات رأسمالية الدولة فبالرغم من تعديل قانون شركات قطاع الاعمال العام فما زالت سلطات السيد الوزير طاغية ولم يترتب على هذا التعديل خلق شركات مساهمة حقيقية تتحكم في امورها الجمعية العمومية.
ثانيا تراكم راس المال
ان متطلبات النمو الرأسمالي، او أي نوع من النمو، تتطلب تعبئة الفائض الاقتصادي، تعبئة لا تنطلق من الاعتبارات العاطفية او الأخلاقية او حتى الاعتبارات الوطنية بل هي ضرورة حياة لأى مجتمع رأسمالي وشرط لازم للديمومة لا يمكن تجنبه ، ولكن بعد سيادة راس المال على الصعيد العالمي فان افاق الاستثمار والشراكة قد فتحت على مصراعيها امام رأسمالية البلدان المتخلفة للمشاركة في السوق العالمي حتى ولو كانت على حساب المتطلبات الوطنية اذا استطاعت الى ذلك سبيلا.
لقد استطاع البعض من الرأسمالية المحلية تحقيق ذلك سواء بالاستثمار خارج البلاد مع استمرار مقر الشركة الام داخل البلاد، مثل السويدي والنساجون الشرقيون، وبعضها أسس شركات جديدة خارج البلاد نقلت اليها ملكيات الشركات المحلية العائدة لنفس المستثمرين واصبح وضع هذه الشركات القانوني وضع الشركات الأجنبية حيث تمتلك الحصص الحاكمة فيها شركات اجنبية (!) واصبح تصدير الأرباح يتمتع بشكل قانونيا كاملا ، في نفس الوقت الذى قامت فيه هذه الشركات القابضة ذات الجنسية الأجنبية بالاستثمار والشراكة خارج البلاد مثل مجموعات نجيب وناصف وسميح ساويرس وشركة القلعة لأحمد هيكل .
ولا يتوقف الامر عند هذه الأمثلة، بل قام البعض من كبار المستثمرين بالاستثمار خارج البلاد في البورصات العالمية مثل ال منصور.
لذلك لا نستطيع الحديث عن نهضة رأسمالية دون التحكم في توجهات استثمار راس المال الخاص بل والعام أيضا في اقتصاد لم يستطع ، بعد ، تعبئة الفائض الاقتصادي بما يصل به الى الحد الأدنى الضروري بما لا يقل عن 30% من الناتج المحلى الإجمالي مكتفيا بما لا يتجاوز 20% وبتعويض الفارق بالقروض الأجنبية او بالاستثمار الأجنبي المباشر في قطاعات إنتاجية بعينها ام غير المباشر في سندات واذون خزانة الدولة المصرية حيث أوضحت الدراسة التفصيلية ان المحصلة النهائية هي تصدير راس المال وبحيث أصبحت النتيجة النهائية للاستثمار الأجنبي سالبا وهو ما سنعود الية بشكل تفصيلي لاحقا.
ثالثا الطبيعة الطبقية لاستثمارات رأسمالية الدولة
ان طابع استثمارات الدولة لا يتم تحديده في الشكل القانوني للملكية بل في سياسات توزيع الفائض الاقتصادي الامر الذى كان موضع تحير كبير ما قبل 1970 في القرن الماضي وما زال محلا للاختلاف حتى الان برغم تبلور وجهات نظر حول رؤى مختلفة ليس هنا محلا لمناقشتها ، ولكن الامر الهام الذى يجب التوقف عنده هو ضرورة التساؤل حول طبيعة ملكية الدولة للاستثمارات وهل تقف خلفها مصالح طبقية مختلفة وبالذات في مجتمع مازال يجاهد للخروج من التخلف الإنتاجي والاجتماعي ومازالت الرأسمالية الخاصة ضعيفة واحيانا مندمجة مع الرأسمالية العالمية.
أن الإجابة عن هذا التساؤل هو مربط الفرس في فهم طبيعة التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
رابعا خصخصة ام لا خصخصة
كما سبق ان أوضحت في الكثير من الكتابات السابقة ان الخصخصة ليست قرارا اقتصاديا استجابة " للهري " الأيديولوجي الذي يخفى حقيقة المصالح الطبقية، بل هي قراري سياسي ينبع من سياسات استراتيجية لا تحدها الضرورات الاقتصادية، بل تشكل جزءا منها وقد تكون أهميتها النسبية محدودة.
ولذلك نجد الاختلافات والخلافات بين القوى الاجتماعية المختلفة وهو امر ليس جديدا، فالدولة المصرية لم تتوقف ابدا عن الاستثمار بشكل مباشر برغم سيادة نمط الخصخصة استجابة للضغوط الدولية والمحلية من بعض ممثلو من راس المال الخاص.
ولذلك فان منطلقات السياسات الاقتصادية الحالية للدولة المصرية هي منطلقات سياسية تدرك ضرورة توسيع استثمارات الدولة وشموليتها برغم اعتراضات البعض من الرأسمالية المحلية وحذر المؤسسات والقوى الدولية، ولذلك فان توجهات الدولة الحالية في الخصخصة المحدودة لبعض الأصول بطرح نسب صغيرة منها مثل نسبة 5% من الشركة الشرقية للدخان ونسبة 10% من شركة أبوقير للأسمدة مع استمرار سياستها في قبول الشراكة مع راس المال الخاص والأجنبي في بعض الاستثمارات الجديدة مثل مصانع السكر الجديدة في السويس والمنيا وتوسعات مصفاة مسطرد ، هي إجراءات ما زالت ليست واسعة ولن يتحدد ديمومتها وتوسعها الا بالسياسة.
ويبدو اننا في مواجهة التناقض القديم الجديد بين توجهات الدولة الناصرية في بداية عهدها حتى عام 1960 والتناقضات الحالية، التي تتم في ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية مختلفة، لا تقودنا الى استنتاجات سياسية منطلقة من تصور التطابق، وهو تصور بليد لن يقود الا الى فهم مغلوط لطبيعة التغييرات الجارية وما يرتبط بها من صراعات واختلافات معلنة ام غير معلنة، وسط واقع جيوسياسي دولي مختلف.
اعتقد انى بالتوضيحات السابقة قد أوضحت وجهة نظري حول الخصخصة، ولكن الأكثر أهمية هو تتبع التغييرات السياسة والاقتصادية المتسارعة للوصول الى فهم حقيقي يتجاوز الديماغوجية وعبادة اصنام الماضي.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى