بسم الله الرحمن الرحيم
باب ما جاء في وصف النّساء
المرأة بين معاوية وصعصعة
قال معاوية لصعصعة: أيّ النّساء أحبّ إليك؟ قال: المواتية لك فيما تهوى. قال: فأيّهن أبغض إليك؟ قال: أبعدهنّ لما ترضى. قال معاوية: هذا النّقد العاجل. فقال صعصعة: بالميزان العادل.
وقال معاوية: ما رأيت نهماً في النّساء إلاّ عرف ذلك في وجهها.
قضاء عمر في المرأة
شكت امرأةٌ إلى زوجها قلّة إتيانه إليها، فقال لها: أنا وأنت على قضاء عمر. قالت: قضى عمر أنّ الرّجل إذا أتى امرأته في كلّ طهرٍ فقد أدّى حقّها.
الشّرّ مجلبةٌ للجّماع
وقع بين امرأةٍ وزوجها شرٌّ فجعل يكثر عليها بالجّماع، فقالت له: أبعدك الله!
اقتلها وعليّ إثمها
جاء رجلٌ إلى علي، رضي الله عنه، فقال له: إنّ لي امرأةً كلّما غشيتها تقول قتلتني. فقال: اقتلها وعليّ إثمها.
غدرت به زوجته فقتلها
غزا ابن هبيرة الغسّاني الحارث بن عمر فلم يصبه في منزله، فأخرج ما وجد له، واستاق امرأته فأصابها في الطّريق، وكانت من الجمال في نهايةٍ، فأعجبت به، فقالت: له أنج فوالله لكأنّي به يتبعك كأنّه بعيرٌ أكل مراراً. فبلغ الخبر الحارث فأقبل يتبعه حتّى لحقه فقتله، وأخذ ما كان معه، وأخذ امرأته. فقال له: هل أصابك؟ فقالت: نعم، والله ما اشتملت النّساء على مثله قط. فلطمها ثمّ أمر بها فوثّقت بين فرسين ثمّ أحضرهما حتى تقطّعت. ثمّ أنشأ:
كلّ أنثى وإن بدا لك منها ... آية الودّ حبّها خيتعور
إنّ من غرّه النّساء بودٍّ ... بعد هذا لجاهلٌ مغرور
رأي الحكماء وغيرهم في المرأة
قال بعض الحكماء: لم تنه قط امرأةٌ عن شيءٍ إلاّ فعلته. للغنوي:
إنّ النّساء متى ينهين عن خلقٍ ... فإنّه واقعٌ لابدّ مفعول
ولغيره:
لا تأمن الأنثى حبتك بودها ... إنّ النساء ودادهنّ مقسّم
اليوم عندك دلّها وحديثها ... وغداً لغيرك كفّها والمعصم
رأي أعرابيٍّ في النّساء
سئل أعرابيٌّ عن النّساء، وكان ذا همٍّ بهنّ، فقال: أفضل النّساء أطولهنّ إذا قامت، وأعظمهنّ إذا قعدت، وأصدقهنّ إذا قالت، التي إذا ضحكت تبسّمت، وإذا جوّدت؛ التي تطيع زوجها، وتلزم بيتها؛ العزيزة في قومها، الذّليلة في نفسها، الولود، التي كلّ أمرها محمود.
الذّنب يساوي الطّلاق
طلّق رجلٌ امرأته، فقالت له: أبعد صحبةً خمسين سنةً قال: ما لك عندنا ذنبٌ غيره؟.
رأي عبد الملك في الجّواري
قال عبد الملك بن مروان: من أراد أن يتّخذ جاريةً للمتعة، فليتّخذها بربريّةً ومن أراد للولد فليتّخذها فارسيّةً؛ ومن أرادها للخدمة فليتّخذها روميّةً.
الأصمعي وبنات العم
ّ
قال الأصمعي: بنات العمّ أصبر، والغرائب أنجب. وما ضرب رؤوس الأبطال كابن عجميّة.
أعوذ بعدلك يا أمير المؤمنين
من جور مروان
ذكر أنّ معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يومٍ بمجلسٍ كان له بدمشق على قارعة الطّريق، وكان المجلس مفتّح الجوانب لدخول النّسيم، فبينما هو على فراشه وأهل مملكته بين يديه، إذ نظر إلى رجلٍ يمشي نحوه وهو يسرع في مشيته راجلاً حافياً، وكان ذلك اليوم شديد الحرّ، فتأمّله معاوية ثمّ قال لجلسائه: لم يخلق الله ممّن أحتاج إلى نفسه في مثل هذا اليوم. ثمّ قال: يا غلام سر إليه واكشف عن حاله وقصّته فوالله لئن كان فقيراً لأغنينّه، ولئن كان شاكياً لأنصفنّه، ولئن كان مظلوماً لأنصرنّه، ولئن كان غنياً لأفقرنّه. فخرج إليه الرسول متلقياً فسلّم عليه فردّ عليه السّلام. ثمّ قال له: ممّن الرّجل؟ قال: سيّدي أنا رجلٌ أعرابيٌّ من بني عذرة، أقبلت إلى أمير المؤمنين مشتكياً إليه بظلامةٍ نزلت بي من بعض عمّاله. فقال له الرّسول: أصبحت يا أعرابي؟ ثمّ سار به حتّى وقف بين يديه فسلّم عليه بالخلافة ثمّ أنشأ يقول:
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضل ... ويا ذا النّدى والجود والنّابل الجزل
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مذهبي ... فيا غيث لا تقطع رجائي من العدل
وجد لي بإنصافٍ من الجّائر الذي ... شواني شيّاً كان أيسره قتلي
سباني سعدى وانبرى لخصومتي ... وجار ولم يعدل، وأغصبني أهلي
قصدت لأرجو نفعه فأثابني ... بسجنٍ وأنواع العذاب مع الكبل
وهمّ بقتلي غير أن منيّتي ... تأبّت، ولم أستكمل الرّزق من أجلي
أغثني جزاك الله عنّي جنّةً ... فقد طار من وجدٍ بسعدى لها عقلي
فلمّا فرغ من شعره قال له معاوية: يا إعرابي إنّي أراك تشتكي عاملاً من عمّالنا ولم تسمعه لنا! قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وهو والله ابن عمّك مروان بن الحكم عامل المدينة. قال معاوية: وما قصّتك معه يا أعرابي. قال: أصلح الله الأمير، كانت لي بنت عمٍّ خطبتها إلى أبيها فزوّجني منها. وكنت كلفاً بها لما كانت فيه من كمال جمالها وعقلها والقرابة. فبقيت معها يا أمير المؤمنين، في أصلح حالٍ وأنعم بالٍ، مسروراً زماناً، قرير العين. وكانت لي صرمةً من إبلٍ وشويهات، فكنت أعولها ونفسي بها. فدارت عليها أقضية الله وحوادث الدّهر، فوقع فيها داءٌ فذهبت بقدرة الله. فبقيت لا أملك شيئاً، وصرت مهيناً مفكّراً، قد ذهب عقلي، وساءت حالي، وصرت ثقلاً على وجه الأرض. فلمّا بلغ ذلك أباها حال بيني وبينها، وأنكرني، وجحدني، وطردني، ودفعها عنّي. فلم أدر لنفسي بحيلةٍ ولا نصرةٍ. فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم مشتكياً بعمّي، فبعث إليه، فلمّا وقف بين يديه، قال له مروان: يا أيّها الرّجل لم حلت بين ابن أخيك وزوجته؟ قال: أصلح الله الأمير، ليس له عندي زوجة ولا زوجته من ابنتي قط. قلت أنا: أصلح الله الأمير، أنا راضٍ بالجّارية، فإن رأى الأمير أن يبعث إليها ويسمع منها ما تقول؟ فبعث إليها فأتت الجّارية مسرعةً، فلمّا وقفت بين يديه ونظر إليها وإلى حسنها وقعت منه موقع الإعجاب والاستحسان، فصار لي، يا أمير المؤمنين خصماً وانتهرني، وأمر بي إلى السّجن. فبقيت كأني خررت من السّماء في مكانٍ سحيقٍ، ثمّ قال لأبي بعدي: هل لك أن تزوّجها منّي، وأنقدك ألف دينارٍ، وأزيدك أنت عشرة آلاف درهمٍ تنتفع بها، وأنا أضمن طلاقها؟ قال له أبوها: إن أنت فعلت ذلك زوّجتها منك.
فلمّا كان من الغد بعث إليّ، فلمّا أدخلت عليه نظر إليّ كالأسد الغضبان، فقال لي: يا أعرابي طلّق سعدى. قلت: لا أفعل. فأمر بضربي ثم ردّني إلى السّجن، فلمّا كان في اليوم الثّاني قال: عليّ بالأعرابي. فلمّا وقفت بين يديه، قال: طلّق سعدى. فقلت: لا أفعل. فسلّط عليّ يا أمير المؤمنين خدّامه فضربوني ضرباً لا يقدر أحدٌ على وصفه، ثمّ أمر بي إلى السّجن؛ فلمّا كان في اليوم الثّالث قال: عليّ بالإعرابي، فلمّا وقفت بين يديه قال: عليّ بالسّيف والنّطع وأحضر السيّاف، ثمّ قال: يا أعرابي، وجلالة ربّي، وكرامة والدي، لئن لم تطلّق سعدى لأفرّقنّ بين جسدك وموضع لسانك.
فخشيت على نفسي القتل فطلّقتها طلقةً واحدةً على طلاق السّنّة، ثمّ أمر بي إلى السّجن فحبسني فيه حتّى تمّت عدّتها ثمّ تزوّجها، فبنى بها، ثمّ أطلقني. فأتيتك مستغيثاً قد رجوت عدلك وإنصافك، فارحمني يا أمير المؤمنين. فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجهدني الأرق، وأذابني القلق، وبقيت في حبّها بلا عقلٍ، ثمّ انتحب حتىّ كادت نفسه تفيض. ثمّ أنشأ يقول:
في القلب منّي نارٌ ... والنّار فيه الدّمار
والجّسم منّي سقيمٌ ... فيه الطّبيب يحار
والعين تهطل دمعاً ... فدمعها مدرار
حملت منه عظيماً ... فما عليه اصطبار
فليس ليلي ليلٌ ... ولا نهاري نهار
فارحم كئيباً حزيناً ... فؤاده مستطار
اردد عليّ سعادي ... يثيبك الجبّار
ثمّ خرّ مغشيّاً عليه بين يدي أمير المؤمنين كأنّه قد صعق به قال: وكان في ذلك الوقت معاوية متكّئاً، فلمّا نظر إليه قد خرّ بين يديه قام ثمّ جلس، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. اعتدى والله مروان بن الحكم ضراراً في حدود الدّين، وإحساراً في حرم المسلمين: ثمّ قال: والله يا أعرابي لقد أتيتني بحديثٍ ما سمعت بمثله. ثمّ قال: يا غلام عليّ بداوةٍ وقرطاسٍ فكتب إلى مروان: أمّا بعد، فإنّه بلغني عنك أنّك اعتديت على رعيّتك في بعض حدود الدّين، وانتهكت حرمةً لرجلٍ من المسلمين. وإنّما ينبغي لمن كان والياً على كورةٍ أو إقليمٍ أن يغضّ بصره وشهواته، ويزجر نفسه عن لذّاته. وإنّما الوالي كالرّاعي لغنمةٍ، فإذا رفق به بقيت معه، وإذا كان لها ذئباً فمن يحوطها بعده. ثمّ كتب بهذه الأبيات:
ولّيت، ويحك أمراً لست تحكمه ... فاستغفر الله من فعل امرئٍ زاني
قد كنت عندي ذا عقلٍ وذا أدبٍ ... مع القراطيس تمثالاً وفرقان
حتّى أتانا الفتى العذريّ منتحباً ... يشكو إلينا ببثٍّ ثمّ أحزان
أعطي الإله يميناً لا أكفّرها ... حقّاً وأبرأ من ديني ودياني
إن أنت خالفتني فيما كتبت به ... لأجعلنّك لحماً بين عقباني
طلّق سعاد وعجّلها مجهّزةً ... مع الكميت، ومع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بلّغت في بشرٍ ... ولا كفعلك حقاً فعل إنسان
فاختر لنفسك إمّا أن تجود بها ... أو أن تلاقي المنايا بين أكفان
ثمّ ختم الكتاب. وقال: عليّ بنصر بن ذبيان والكميت صاحبيّ البريد. فلمّا وقفا بين يده قال: اخرجا بهذا الكتاب إلى مروان بن الحكم ولا تضعاه إلاّّ بيده. قال فخرجا بالكتاب حتّى وردا به عليه، فسلّما ثمّ ناولاه الكتاب. فجعل مروان يقرأه ويردّده، ثمّ قام ودخل على سعدى وهو باكٍ، فلمّا نظرت إليه قالت له: سيّدي ما الذي يبكيك؟ قال كتاب أمير المؤمنين، ورد عليّ في أمرك يأمرني فيه أن أطلّقك وأجهّزك وأبعث بك إليه. وكنت أودّ أن يتركني معك حولين ثمّ يقتلني، فكان ذلك أحبّ إليّ. فطلّقها وجهّزها ثمّ كتب إلى معاوية بهذه الأبيات:
لا تعجلنّ أمير المؤمنين فقد ... أوفي بنذرك في رفقٍ وإحسان
وما ركبت حراماً حين أعجبني ... فكيف أدعى باسم الخائن الزاني
أعذر فإنّك لو أبصرتها لجرت ... منك الأماقي على أمثال إنسان
فسوف يأتيك شمسٌ لا يعادلها ... عند الخليفة إنسٌ لا ولا جان
لولا الخليفة ما طلّقتها أبداً ... حتّى أضمّنّ في لحدٍ وأكفان
على سعادٍ سلامٌ من فتىً قلقٍ ... حتّى خلّفته بأوصابٍ وأحزان
ثمّ دفعه إليهما، ودفع الجّارية على الصّفة التي حدّث له. فلمّا وردا على معاوية فكّ كتابه وقرأ أبياته ثمّ قال: والله لقد أحسن في هذه الأبيات، ولقد أساء إلى نفسه. ثمّ أمر بالجّارية فأدخلت إليه، فإذا بجاريةٍ رعبوبةٍ لا تبقي لناظرها عقلاً من حسنها وكمالها. فعجب معاوية من حسنها ثمّ تحوّل إلى جلسائه وقال: والله إنّ هذه الجّارية لكاملة الخلق فلئن كملت لها النّعمة مع حسن الصّفة، لقد كملت النّعمة لمالكها. فاستنطقها، فإذا هي أفصح نساء العرب. ثمّ قال: عليّ بالأعرابي.
فلمّا وقف بين يديه، قال له معاوية: هل لك عنها من سلوٍ، وأعوّضك عنها ثلاث جوارٍ أبكارٍ مع كلّ جاريةٍ منهنٍ ألف درهمٍ، على كلّ واحدةٍ منهنّ عشر خلعٍ من الخزّ والدّيباج والحرير والكتّان، وأجري عليك وعليهنّ ما يجري على المسلمين، وأجعل لك ولهنّ حظاً من الصّلات والنّفقات؟ فلما أتمّ معاوية كلامه غشي على الأعرابيّ وشهق شهقةً ظنّ معاوية أنّه قد مات منها. فلّما أفاق قال له معاوية: ما بالك يا أعرابي؟ قال: شرّ بالٍ، وأسوأ حالٍ، أعوذ بعد لك يا أمير المؤمنين من جور مروان. ثمّ أنشأ يقول:
لا تجعلني هداك الله من ملكٍ ... كالمستجير من الرّمضاء بالنّار
أردد سعاد على حرّان مكتئبٍ ... يمسي ويصبح في همٍّ وتذكار
قد شفّته قلقٌ ما مثله قلقٌ ... وأسعر القلب منه أيّ إسعار
والله والله لا أنسى محبّتها ... حتّى أغيّب في قبري وأحجاري
كيف السّلوّ وقد هام الفؤاد بها ... فإن فعلت فإني غير كفّار
فأجمل بفضلك وافعل فعل ذي كرمٍ ... لا فعل غيرك، فعل اللؤم والعار
ثمّ قال: والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتني كلّ ما احتوته الخلافة ما رضيت به دون سعدى. ولقد صدق مجنون بني عامر حيث يقول:
أبى القلب إلاّ حبّ ليل وبغّضت ... إليّ نساءٌ ما لهن ذنوب
وما هي إلاّ أن أراها فجاءةً ... فأبهت حتّى لا أكاد أجيب
فلمّا فرغ من شعره، قال له معاوية: يا أعرابي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: إنك مقرٌّ عندنا أنّك قد طلّقتها، وقد بانت منك ومن مروان، ولكن نخيّرها بيننا. قال: ذاك إليك، يا أمير المؤمنين. فتحوّل معاوية نحوها ثمّ قال لها: يا سعدى أيّنا أحبّ إليك: أمير المؤمنين في عزّه وشرفه وقصوره، أو مروان في غصبه واعتدائه، أو هذا الأعرابي في جوعه وأطماره؟ فأشارت الجّارية نحو ابن عمّها الأعرابي، ثمّ أنشأت تقول:
هذا وإن كان في جوعٍ وأطمار ... أعزّ عندي من أهلي ومن جاري
وصاحب التّاج أو مروان عامله ... وكلّ ذي درهمٍ منهم ودينار
ثمّ قالت: لست، والله، يا أمير المؤمنين لحدثان الزمان بخاذلته، ولقد كانت لي معه صحبة جميلة، وأنا أحقّ من صبر معه على السّرّاء والضّرّاء، وعلى الشّدّة والرّخاء، وعلى العافية والبلاء، وعلى القسم الذي كتب الله لي معه. فعجب معاوية ومن معه من جلسائه من عقلها وكمالها ومروءتها وأمر لها بعشرة آلاف درهمٍ وألحقها في صدقات بيت المسلمين.
؟الذي جاء شرٌّ من الذي مرّ
قال أبو الخطّاب: كان عندنا رجلٌ أحدبٌ فسقط في بئرٍ فذهبت حدبته وصار آدراً فدخل عليه جيرانه يهنّئونه فقال: الذي جاء شرٌّ من الذي مرّ.
؟أعرابيٌّ يصف رجلاً جميلاً
ذكر أعرابيٌّ رجلاً جميلاً فقال: والله لو أبصرته العيدان لتحرّكت أوتارها، ولو رأته عاتق الخدر لطار خمارها.
وقال بعض الأعراب:
ماذا تظنّ سليمي إن ألمّ بنا ... مرجّل الرّأس ذو بردين مزّاح
خرٌّ عمامته، حلوٌ فكاهته ... في كفّه من رقى إبليس مفتاح
؟رأي عائشة في خطيبة الرّسول
صلّى الله عليه وسلّم
يروى، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خطب امرأةً من كلبٍ فبعث عائشة رضي الله عنها تنظر إليها، فقال لها: " كيف رأيتها " ؟ قالت: ما رأيت طائلاً. قال: " لقد رأيت طائلاً، ولقد رأيت حالاً تجدينها حتى اقشعرّت كل شعرةٍ فيك " . فقالت: وما دونك سترٌ يا رسول الله.
يرى صورته في وجه قتادة
ويروى عن حيّان بن عمير أنّه قال دخلت على قتادة بن ملحان فمرّ رجلٌ في أقصى الدّار فرأيت صورته في وجه قتادة، وذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، مسح وجهه.
ذو النّسب والحسب قريبٌ من الله
وعن عون بن عبد الله، أنّه قال: من كان في صورةٍ حسنةٍ، ونسبٍ، وحسبٍ، ووسّع عليه في الرّزق، كان من خلصاء الله.
إشراق الوجه يجلو البصر
ويروى عن عائشة، رضي الله عنها، أنّها قالت: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عز وجل، فإن كانوا في القراءة سواء، فأصبحهم وجهاً. وعن ابن عباس أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " النّظر إلى الوجه يجلو البصر؛ والنّظر إلى الوجه القبيح يورث الفلج " .
جمال الوجه فتنةٌ لعباد الله
قال حليّلان المغنّي: دخلت دار هارون الرّشيد فإذا أنا بجاريةٍ خماسيّةٍ، أحسن النّاس وجهاً، على يدها سطران مكتوبان بالغالية، فقرأتهما فإذا هما ممّا عمل في طران الله، فتنة لعباد الله وقال بعضهم: سمعت يحيى بن سفيان يقول: رأيت بمصر جاريةً بيعت بألف دينارٍ، فما رأيت وجهاً قط أحسن من وجهها صلّى الله عليها. قال: فقلت له يا أبا زكريّا، مثلك يقول هذا مع ورعك وفقهك؟ فقال: وما تنكر عليّ من ذلك؟ صلّى الله عليها وعلى كلّ مليحٍ: يا ابن أخي الصّلاة رحمة.
غدرت بزوجها وخانته
قال: خرج شامة بن لؤي بن غالب من مكّة حتّى نزل بعمان على رجلٍ من الأزد.
وكان شامة بن لؤي من أجمل خلق الله، فقراه وبات عنده. فلما أصبح قعد يستنّ فنظرت إليه زوجة الأزدي فأعجبها، فلمّا رمى، مضت إلى سواكه فأخذتها فمصّتها، فنظر إليها زوجها، فحلب ناقةً وجعل في اللبن سمّاً وقدّمه إلى شامة، فغمزته المرأة، فأراق اللبن وخرج يسير. فبينما هو في موضعٍ يقال له خرق الجّميلة أهوت ناقته في عرفجة؟ فانتشلها وفيها أفعى فنهشت مشفريها فحكتها على ساق شامة فمات. فقالت الأزد:
إذا ناقتي حلّت بليلٍ ففارقت ... جملة لمّا أنبتّ منها قرينها
فقلت لها حثّي قليلاً فإنني ... وإيّاك نخفي عبرةً سترينها
غدرت بنا بعد الصّفاء وخنتنا ... وشرّ مصافي خلّةٍ من يخونها
الصّبا تبلسم قلب المحزون
قال سليمان بن أبي سمخ تزوّج رجلٌ من تهامة امرأةً من نجدٍ فلمّا نقلها إليه، قالت له: ما فعلت ريحٌ من نجد كانت تأتينا يقال لها الصبا ما رأيتها ههنا؟ فقال: يحجزها عنّا هذان الجّبلان. فأنشأت تقول:
أيا جبلي نعمان بالله خلّيا ... نسيم الصّبا يخلص إليّ نسيمها
فإنّ الصّبا ريحٌ إذا ما تنفّست ... على قلب محزونٍ تجلّت همومها
أجد بردها أو يشف منّي حرارةً ... على كبدٍ لم يبق إلا صميمها
فرّقهما الفقر وجمعهما معاوية
قال الزّبير حدثني أبي، قال: كان عندنا بالمدينة رجلٌ من قريش كانت له امرأة تعجبه ويعجبها، وكانت تحول بينه وبين طلب الرّزق، وكلّ ذلك يحتمله لشدّة محبّته إيّاها فلمّا ساءت حاله وكثر دينه قال:
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكى الفقر أو لام الصّديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلاًّ وأوشكت ... قلوب ذوي القربى له أن تنكّرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسارٍ أو تموت فتعذرا
ولا ترض من عيشٍ بدونٍ ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا
وما طالب الحاجات من حيث يبتغي ... من النّاس إلاّ من أجدّ وشمّرا
فلّما أصبح قال لامرأته: أنا، والله أحبّك، ولا صبر لي على ما نحن فيه من ضيق العيش، فجهّزيني. فجهّزته، فخرج حتّى قدم على معاوية بن أبي سفيان فقام بين الصّفّين، فأخبره بحاله، وأنشده الشّعر. فرقّ له، وأمر له بألف دينارٍ وقال له: لقد دلّني حالك على محبّتك لأهلك وكراهيّتك لفراقهم فخذ وانصرف إليهم فأخذها وانصرف راجعاً.
ألا أيّها الغيران
وأنشد الزّبير بن بكار: لجميل بن معمر:
لئن كان في حبّ الحبيب حبيبه ... حدودٌ لقد حلّت علي حدود
ألا أيّها الغيران بي أن أحبّها ... بسخطك ينمو حبّها ويزيد
فلو متّ كان الموت يخلف للهوى ... لها في فؤادي الوجد وهو جديد
وتحسب نسوانٌ إذا جئت زائراً ... بثينة أنّي بعضهّن أريد
فتخبركم عنّا جنوبٌ مضلّةٌ ... وتخبرنا هتف العشيّ برود
إذا بلغتكم حاجةٌ رجعت لنا ... إليكم بأخرى مثلها فيعود
يا حبّذا أمّ الوليد
وأنشد أيضاً لجميل بن معمر العذري:
تمتّعت منكم يا بثين بنظرةٍ ... على عجل والنّاعجات وقوف
فيا حبّذا أمّ الوليد ومربعٌ ... لنا ولها بالمنحنى ومصيف
بثنتان يسترن الوشاح عليهما ... وبطن كطيّ السّابريّ لطيف
أتصرم حبلي يا جميل؟
وأنشداه في مثل ذلك أيضاً:
بثينة قالت يا جميل وسوّدت ... مجال القذى منها بثينة بالكحل
أتصرم حبلي يا جميل وقادني ... إليك الهوى قيد الجنيبة بالحبل
وقالت لقينا ما لقيت من الهوى ... ما مسّ رأس من دهانٍ ولا غسل
أنت طالق
قال عليّ بن المغيرة كانت زينب بنت يوسف بن الحكم بن أبي عقيل أخت الحجّاج بن يوسف لأبيه وأمّها الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعودٍ الثّقفي عند المغيرة بن شعبة فرآها يوماً تتخلّل بكرةً فقال لها أنت طالقٌ والله لئن كان هذا من غذاءٍ لقد جشعت ونهمت، وإن كان من عشاءٍ لقد أنتنت وقذرت، فقالت قبّح الله الذواق والمطلاق ولا يبعد الله، والله ما هو الذي ظننت، ولكنّه استمسك بين أسناني شظيّة من السّواك.
وكان سبب قول النّميري فيها: إنّ أباها يوسف بن الحكم مرض، وكان يزيد معاوية قد ولاّه صدقات الطّائف وأرض الشّراة، فنذرت إن الله عافاه أن تمشي إلى الكعبة معتمرةً من الطّائف، وبين الطّائف ومكّة يومان وليلتان، فمشت ذلك في اثنين وأربعين يوماً، وكانت جميلةً وسيمةً فلقيها النّميري، وهو محمّد بن عبد الله بن نميرٍ الثّقفي، ببطن نعمان فقال:
تضوّع مسكاً بطن نعمان إذ مشت ... به زينبٌ في نسوةٍ عطرات
تهادين ما بين المحصب من منى ... وأقبلن لا شعثاً ولا غبرات
مررن بفخٍّ رائحاتٍ عشيّةً ... يلبّين للرّحمن مؤتجرات
لها أرج بالعنبر الورد فاغم ... تطلّع رياه من الفترات
يخبّئن أطراف البنان من التّقى ... ويمشين شطر الليل معتمرات
وليست كأخرى أوسعت جنب درعها ... وأبدت بنان الكفّ للجّمرات
ومالت تراءى من بعيدٍ فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفات
تقسّمن لبّي يوم نعمان إنّني ... بليت بطرفٍ فاتك اللّحظات
يظاهرن أستاراً ودوراً كثيرةً ... ويقطعن دور اللهو بالحجرات
ولمّا رأت ركب النّميري أعرضت ... وكنّ من أن تلقينه حذرات
دعت نسوةً شمّ العرانين كالدّما ... أوانس ملء العين كالظّبيات
فأبدين لمّا قمن يحجبن زينبا ... بطوناً لطاف الطّيّ مضطمرات
قلت: يعافير الظّباء تناولت ... يناع غصون الورد مهتصرات
فلم ترعيني مثل ركبٍ رأيته ... خرجن من التّعمير معتمرات
وكدت اشتياقاً نحوها وصبابةً ... تقطّع نفسي إثرها حسرات
وغادرت من وجدي بزينب غمرةً ... من الحبّ إنّ الحبّ ذو غمرات
وظل صحابي يظهرون ملامتي ... على لوعة الأشواق والزّفرات
فراجعت نفسي والحفيظة إنّما ... بللت رداء العصب بالعبرات
وقد كان في عصياني النّفس زاجرٌ ... لذي عبرةٍ لو كنّ معتبرات
زينب سبب نفي النّميري وعذابه
قال مسلم بن جندب الهلالي كنت مع عبد الله بن الزّبير بنعمان وغلام ينشد خلفه، وهو يشتمه أقبح الشّتم. فقلت له: ما هذا؟ فقال: دعه فإني تشبّبت بأخت هذا الحجّاج بن يوسف. فلمّا قتل الحجّاج عبد الله بن الزّبير دعا النّاس إلى البيعة، فتأخر محمّد حتّى قام في آخر النّاس ولم يجد من الحضور بدّاً. فلمّا دنا منه قال: أمحمّدٌ؟ قال نعم: قال: أنشدني ما قلت. فأنشدته قصيدتي هذه فقال: لولا أن يقول قائلٌ لضربت عنقك، أنج لا نجوت ولا تعد فقال: لا تعرضت لاسم زينب ما بقيت.
قال: ولما خاف النّميري من الحجّاج عاذ بأبيه يوسف بن الحكم. فلمّا أرسل عبد الملك الحجّاج لقتال ابن الزّبير، قام إليه يوسف بن الحكم وقال له: يا أمير المؤمنين إنّ فتىً منّا ذكر زينب بما يذكر به العربيّ ابنة عمّه، وقد علمت أنّ هذا لم يزل يتقلّب عليه. قال عبد الملك: أليس النّميري؟ قال: بلى، قد سمعت شعره فما سمعت مكروهاً ثمّ أقبل على الحجّاج وقال: لا تعرض له.
ويقال إنّ عبد الملك لمّا بلغه شعر النّميري كتب إلى الحجّاج: قد بلغني ما كان من قول النّميري، فلا تدنه فتقطعه، ولا تقصه فتغره. ولكن أهمله واله عنه. فلم يهجه الحجّاج ومن قوله فيها:
تشتو بمكّة نعمة ... ومصيفها بالطّائف
أكرم بتلك مواقفا ... وبزينب من واقف
ومن شعره فيها أيضاً:
وما أنس من شيءٍ، فلا أنس شاديا ... بمكّة مكحولاً أسيلاً مدامعه
تشرّبه لون الزّرافي في بياضه ... أو الزّعفران خالط المسك أدرعه
ترك زوجته وتعلّق بأروى وقسطا
قال الزّبير بن بكار: حكى الحسن بن علي مولى بني أميّة قال: خرجت إلى الشّام فلمّا كنت بالسّمهاة ودنا الليل رفع لي قصرٌ فأهويت إليه،فإذا أنا بامرأةٍ لم أر قط مثلها حسناً وجمالاً. فسلّمت، فردت عليّ السّلام، قالت: ممّن أنت؟ قلت: من بني أميّة. قالت: مرحباً بك، أنزل، فأنا امرأةٌ من أهلك. فأنزلتني أحسن منزلٍ وبتّ أحسن مبيتٍ.
فلمّا أصبحت قالت: إنّ لي إليك حاجة. قلت ما هي؟ فأشارت إلى ديرٍ، وقالت: إنّ في ذلك الدّير ابن عمّي، وهو زوجي، وقد غلبت عليه نصرانيّةٌ في ذلك الدّير، فتمضي إليه وتعظه. فخرجت حتّى انتهيت إلى الدّير، فإذا برجلٍ في فنائه من أحسن الرّجال وأجملهم. فسلّمت عليه، فردّ وسأل. فأخبرته من أنا، وأين بتّ، وما قالت المرأة. فقال: صدقت، أنا رجلٌ من أهلك من أهل الحارث بن الحكم. ثمّ صاح: يا قسطا. فخرجت إليه نصرانيّةٌ عليها ثياب حبرات وزنانير ما رأيت قبلها ولا بعدها أحسن منها. فقال: هذه قسطا، وتلك أروى، وأنا الذي أقول:
وبدّلت قسطا بعد أروى وحبّها ... كذاك لعمري يذهب الحبّ بالحبّ
وما هي أما ذكرها بنبطيّةٍ ... كبدر الدّجى أوفى على غصنٍ رطب
شاطرته مالها ولم تدعه للسّفر
قال الزّبير بن بكار: حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز قال كانت بنت أبي عبيدة بن المنذر بن الزّبير عند أبي بكر بن عبد الرّحمن من محرمه وكان يخدمها وكانت ذات مالٍ، ولا مال له. وكانت تضنّ عنه، فخرج يريد الشّام بطلب الرّزق، فلمّا كان ببعض الطّريق رجع فمرّ بجلسائه بالمصلّى فقالوا: زاد خير. ثمّ دخل عليها فقالت له: أبخيرٍ رجعت؟ فقال لها:
بينما نحن من بلاكث فالقا ... ع سراعا، والعيش تهوي هويّا،
خطرت خطرةً على القلب من ذكراك وهناً، فما استطاع مضيّا
قلت: لبّيك، إذ دعاني لك الشّو ... ق وللحاديين حبّ المطيّا
قالت له: لا جرم والله لأشاطرنّك مالي فشاطرته إيّاه ولم تدعه للسّفر بعد.
منازل الأحبّة الخالية تثير الشّوق
روى إبراهيم بن حسن بن يزيد، عن شيخٍ من ساكني العقيق قال: إنّي لواقفٌ بالعقيق، وقد جاء الحاج، إذ طلعت امرأة على راحلة وحولها نسوة، فنظرنا إليها، فأعجبتنا حالها. فلمّا كانت حذاء قصر سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، عدلت إلينا، ونحن ننظر. فنزلت قصراً من تلك القصور فأقامت فيه ساعةً ثمّ خرجت، فركبت ومضت، وإنّ عينيها لتنقطان دموعاً. فقلت: لأنظر ما صنعت هذه المرأة؟ فدخلت القصر، فإذا كتاب يواجهني في الجّدار، فقرأته فإذا هو:
أليس كفى حزناً لذي الشّوق أن يرى، ... منازل من يهوى معطلةً قفرا؟
بلى، إنّ ذا الشّوق الموكّل بالهوى، ... يزيد اشتياقاً كلّما حاول الصّبرا
وتحته مكتوبٌ: وكتبته آمنة بنت عمر بن عبد العزيز. وكان سفيان بن عاصم زوجها فتوفّي عنها.
شكت إلى الله عقوق أبنائها
ذكروا عن عائشة، رضي الله عنها، أنّها لمّا قدمت البصرة خطبت وبحضرتها الأحنف بن قيس وموسى بن طلحة ورجالٌ من وجوه العرب، فقالت بعقب ذلك: إنّي أتيت أطلب بدم الإمام المذكور برمّته الحرمات الأربع. فمن ردّنا عنه بحقٍّ قبلناه، ومن ردّنا عنه بباطلٍ قاتلناه. فربّما نصر الظالم على المظلوم والعاقبة للمتّقين.
قال لها موسى بن طلحة: قد فهمنا كلامك، فما الأرق حرمات؟ فقالت: حرمة الشّهر، وحرمة البلد، وحرمة الإمامة، وحرمة الختونة، لا يصلح إمراء بعده أبداً. فقال لها الأحنف رحمه الله: إني سائلك ومغلظٌ لك في المسألة فلا تجدين عليّ. أعندك عهدٌ من رسول الله في خروجك هذا؟ قالت: لا. قال لها: أفعندك عهدٌ من رسول الله أنّك معصومةٌ من الخطأ؟ قالت: لا. قال لها: صدقت، أن الله رضي لك المدينة فأبيت إلاّ البصرة، وأمرك بلزوم بيت نبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم فنزلت بين الحرسة الضّبي. ألا تخبريني يا أمّ المؤمنين أللحرب قدمت أم للصّلح؟ قالت: بل للصّلح، فقال لها: والله لو قدمت وما بينهم إلاّ الخفق بالنّعال والقذف بالحصبا، ما اصطلحوا على يديك، فكيف والسّيوف على عواتقهم؟ قالت: لقد استغرق حكم الأحنف هجاه أياي، إلى الله أشكون عقوق أبنائي.
أقنعوه فعفا الحجّاج عنهم
ذكروا، أنّه لما قتل الحجّاج عبد الرّحمن بن الأشعث، وأسر من معه، أمر بضرب رقابهم. فقال رجلٌ منهم: أيّها الأمير إنّي أتيت إليك بشيءٍ. قال: وما هو؟ قال: إنّي كنت جالساً يوماً عند عبد الرّحمن فأخذ في عرضك، فناضلته عنك. قال: ومن يشهد لك بذلك؟ فقال رجلٌ من الجّماعة يشهد له بما قال فقال: اتركوه. ثمّ قال للرّجل: أفلا كنت مثله؟ قال له: بغضي فيك لم يدعني أتكلّم فيك بمثل ذلك. فقال: واتركوا هذا لصدقه. ثمّ قام رجلٌ آخر فقال: أيّها الأمير لئن كنّا أسأنا في الخطأ لما أحسنت في العفو. فقال الحجّاج: أفٍّ لهذه الجّيف، أما والله لو كان فيكم من يتكلّم والله ما قتل منكم أحد.
باب يذكر فيه من صيّره العشق إلى الأخلاط والجّنون
خبر فورك المجنون
قال بعضهم: مررت بفورك المجنون وقد أتاه أهله بطبيبٍ، يقال له عبد العزيز، ليعالجه. فسملت وقلت: ما خبرك يا أبا محمّد؟ فقال: خبري والله مع هؤلاء المجانين ظريفٌ. أنا عاشقٌ وهم يظنّون بي جنّة وقد أتوني بهذا الطّبيب ليعالجني. ثمّ أنشأ يقول:
أتوني بالطّبيب فعالجوني ... على أن قيل مجنونٌ غريب
طبيب الأجر فيه عساه يوماً ... من الأيّام يعقل أو يتوب
وما صدقوا الفتى محوي قلبي ... أجلّ من أن يعالجه الطّبيب
وما بي جنّةٌ لكنّ قلبي ... به داءٌ تموت به القلوب
وما عبد العزيز طبيب قلبي ... ولكنّ الطبيب هو الحبيب
خبر المجنون أبي عبد الله
وقال آخر: مررت بمجنونٍ بيده قصبةٌ وفيها عذبةٌ، وهو يقول:
إذا ما رايةٌ رفعت بنجدٍ ... تلقّاها عرابة باليمين
قال فأخذت بيد الغلام الذي كان يتعشّقه فوقفت بين يديه، فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال في ساعةٍ بديهةٍ:
أصبحت منك على شفا جرفٍ ... متعرّضاً لموارد التّلف
وأراك نحوي غير ما ثقةٍ ... متحرّفاً من غير منحرف
يا من أطال بصدّه أسفي ... كلفي عليك أشدّ من أسفي
فورك في جماعة من الصّبيان
وقال بعضهم: اجتزت بفورك المجنون وهو في جماعةٍ من الصّبيان راكبٌ قصبةً، وهو يقول: من كان عاشقاً منكم فيقف في الميمنة، ومن كان معشوقاً فليقف في الميسرة. ووقف هو في القلب، ففكّر وقال:
إلى من أشتكيك إلى من ... إلى كم ترى في قصّتي غير محسن
إلى كم يدوم الهجر والعتب بيننا ... سألتك بالرّحمن ألاّ رحمتني
فيا لائمي في أحمد لو رأيته ... لما لمتني في حبّه، وعذرتني
أتعجب أن قالوا بفورك جنّة ... بنفسي ومالي من هواه أجنني
ثمّ قال: احملوا على بركة الله. فحملت الميمنة على الميسرة، وأخذ كل عاشقٍ معشوقه.
قال ولقيته في يوم خميسٍ في جماعةٍ من الصّبيان، منصرفاً. من تشييع غلامٍ كان يحبّه، وهو يحدّثهم ويلطم خده ويقول: ما أحرّ الفراق؟ فقلت: يا أبا محمّد، من أين أقبلت؟ قال: من تشييع الحجّاج. وبكى، وقال:
هم رحلوا يوم الخميس عشيّةً ... فودّعتهم لمّا استقلّوا وودعوا
فلمّا تولوا ولّت النّفس معهم، ... فقلت: ارجعي قالت: إلى أين أرجع؟
إلى جسدٍ ما فيه لحمٌ ولا دم ... ولا فيه إلا أعظم تتقعقع
وكذّبت فيك الطّرف، والطّرف صادقٌ ... وأسمعت أذني فيك ما ليس أسمع
أخبار علويّة المجنون
قال الحسن بن رفاعة: رأيت علويّة المجنون يوماً وفي عنقه حبلٌ والصّبيان يجرّونه، فلمّا رآني قال: يا أبا عليٍّ بماذا يعذّب الله أهل الجّرائم يوم القيامة؟ قلت: بأشدّ العذاب. قال: فأنا، والله، في أشدّ من عذابه. لو عذّب الله أهل جهنّم بالحبّ والهجر والرّقباء لكان أشدّ عليهم، ثمّ قال:
انظر إلى ما صنع الحبّ ... لم يبق لي جسمٌ ولا قلب
أنحل جسمي حبّ من لم يزل ... من شأنه الهجران والعتب
ما كان أغناني عن حبّ من ... من دونه الأستار والحجب
قال: وحضرته وقد أتوه بطبيبٍ يعالجه، والطّبيب يعاتبه ويقول له: لو تركتني لعالجتك ورجوت أن تبرأ، فقال في ذلك:
أنا منك أعلم أيها المتكلّم ... ما بي أجلّ من الجّنون وأعظم
أنا عاشقٌ، فإن استطعت لعاشقٍ ... برأً مننت به وأنت محكّم
هيهات، أنت لغير ما بي عالمٌ ... وسواك، بالدّاء الذي بي أعلم
دائي دسيسٌ، قد تضمّنه ال ... هوى، تحت الجّوانح ناره تتضّرم
خبر بعض المجانين
قال: ومررت ببعض المجانين وهو جالسٌ وحده متفكّراً، فقلت: ما خبرك؟ قال:
أقول بأعلى الصّوت ما بي جنّة ... وما بي إلا حبّ من ليس ينصف
وما بي جنونٌ غير أنّ بليّتي ... إذا انكشفت منه أرقّ وألطف
بنفسي وأهلي، من أرى الموت جهرةً، ... إذا ما بدا منه البنان المطرّف
شعر فورك في غلامه غلب
قال: وكان فورك يتعشّق غلاماً يسمى غلباً فأتاه بعض إخوانه فقال: إنّي خارج نحو غلب، فهل من حاجةٍ؟ فقال:
نعم أوصيك إن أبصرت غلبًا ... فقبّل وجنتيه وإن تأبّى
وقل هذي وصية مستهامٍ ... إليك قتلته شغفاً وحبّا
وصف ظبية بالعفاف فأكرم
ودخل مهدي على بعض ولاة اليمامة، فسأله الوالي عن مجلسه مع ظبية، واستنشده ما قال فيها من الشّعر. وكان ابن ظبية حاضراً، فأنشده مهديّ بيتين يصفها فيهما بالعفاف. فقام ابنها فنزع عن نفسه جبّة خزٍّ ووشاحاً ألقاهما على مهدي لمّا وصف أمّه بالعفاف.
القيطنون ونكاح الفتيات
قال أحمد بن يحيى: كان القيطنون متملّكاً على أهل المدينة. وكان قد سامهم خسفاً، وشرط عليهم أنّه لا تدخل امرأة على زوجها حتّى يبدأ بها. فزوّج مالك بن عجلان الخزرجي أخته. فلما جهّزها وأراد إهداءها إلى زوجها، وهو قاعدٌ في مجلس الخزرج، إذا خرجت أخته على الحيّ سافرةً. فغضب مالك، ووثب إليها ليتناولها بالسّيف، وقال لها: فضحتني، ونكّست رأسي، وأغضضت بصري. فقالت له: الذي تريد بي أنت شر من هذا وأقبح وأفضح. إن كنت تهديني إلى غير بعلي فيصيبني، فهذا شرٌّ من خروجي سافرةً حاسرةً! فقال مالك: صدقت، وأبيك.
وسكت عنها، فلمّا رجعت إلى خدرها دخل إليها، فقال لها: هل فيك من خير؟ فقالت: أيّ خيرٍ عند امرأةٍ إلاّ أن تناك؟ فقال لها اكتمي ما أريده. قالت: نعم. فشرح لها ما عزم عليه. فلمّا أمست أتتها رسل القيطنون ليأتوه بها، فلبست وتعطّرت وتحلّت، ولبس معها وتعطّر واشتمل على السّيف ومضى معها في جملة نسائها إلى قصر القيطنون. فلمّا خلا بها في مشربة له، ودنا منها تنحّى نساؤها عنها إلاّ مالك وحده، فقال القيطنون: بحقّ التّوراة ألا أمهلتني ساعةً حتّى ترجع نفسي فيها إليّ، وتركت أختي هذه تؤانسني عندك، فإنّي ألفتها من بين أهلي؟ فقال: نعم. فلمّا هدأت ساعةً. قال: تقدّمي إلى فراشك حتى ألحقك. فقام القيطنون إلى باب مشربته فأغلقه، وأتى فراشه. وكشف مالك عن السّيف ثمّ ضربه به حتّى برد. فاجتمع الحيان من الأوس والخزرج فسوّدوه على أنفسهم، وملّكوه، إذ أراحهم من عار الدّهر. وذلّت اليهود بعد ذلك فلم ترفع رأساً.
خبر سلامة الزّرقاء
مع عبد الرّحمن بن أبي عمّار
قال الزّبير بن بكار: كان عبد الرّحمن بن أبي عمّار من عبّاد أهل مكّة، فسمي القسّ من عبادته. فمرّ ذات يومٍ بدار سهل بن عبد الرّحمن بن عوف مولى سلامة الزّرقاء، وهي تغنّي، فسمع غناءها، فبلغ منه كلّ مبلغ، فرآه مولاها وتبيّن ما لحقه، فقال له: هل لك أن تدخل إليها وتسمع منها؟ فامتنع وأبى، فقال له: أنا أقعدك في موضعٍ تسمع من غنائها ولا تراها ولا تراك. ولم يزل به حتّى دخل وسمع غناءها، فأعجبه، فقال له: هل لك أن أخرجها لك؟ فامتنع بعض الامتناع، ثمّ أجابه. فأخرجها إليه، وأقعدها بين يديه، وغنّته، فشغف بها، وشغفت به. وكان أديباً ظريفاً. واشتهر أمره معها بمكّة حتّى سمّوها سلامة القسّ.
وخلا معها يوماً، فقالت له: أنا، والله، أحبّك فقال له: أنا، والله، كذلك. قالت له: أحبّ أن أضع فمك على فمي. قال: وأنا، والله. قالت: فما يمنعك من ذلك، فوالله إنّ الموضع لخالٍ؟ فقال لها: ويحك، إنّي سمعت الله عزّ وجل يقول في كتابه: " الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتّقين " . وأنا أكره أن تكون خلّة ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة. ثمّ نهض وعيناه تذرفان من حبّها وعاد إلى الطّريقة التي كان عليها من النّسك والعبادة. وكان يمرّ في بعض الأيّام ببابها فيرسل إليها بالسّلام فيقال له: أدخل فيأبى. وقال فيها أشعاراً كثيرةً، وغنّته بها. فمنها:
إنّ التي طرقتك بين ركائب ... تمشي بمزهرها وأنت حرام
باتت تعلّلنا، وتحسب أنّنا، ... في ذاك أيقاظ ونحن نيام
حتّى إذا سطع الصّبح لناظرٍ ... فإذا الذي ما بيننا أحلام
قد كنت أعذل في السّفاهة أهلها ... فاعجب بما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنّما ... طرق الضّلالة والهدى أقسام
وفيها قوله:
على سلاّمة القلب السّلام ... تحية من زيارته لمام
أحبّ لقاءها، وألوم نفسي، ... كأنّ لقاءها شيءٌ حرام
إذا ما حنّ مزهرها إليها ... وحنّت نحوه، أذن الكرام
فمدّوا نحوها الأعناق حتّى ... كأنّهم وما ناموا نيام
وله فيها أشعار كثيرة تركت ذكرها ها هنا لأنّها مستقصاةٌ من أخبارها في كتاب طبقات المغنّين.
عبد الملك بين عزّة وبثينة
قال: وفدت عزّة وبثينة على عبد الملك بن مروان فلمّا دخلتا عليه انحرف إلى عزّة، وقال لها: أنت عزّة كثير؟ قالت: لست لكثير بعزّة ولكنّي أمّ بكرٍ الضّمريّة. قال أتروين قول كثيرٍ فيك؟
لقد زعمت أني تغيّرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيّر
تغيّر جسمي والخليقة كالتي ... عهدت، ولم يخبر بسرّك مخبر
قالت: لست أروي هذا، ولكنّي أروي غيره حيث يقول:
كأنّي أنادي صخرةً حين أعرضت ... من الصّمّ لو يمشي بها العصم زلّت
صفوحاً فما تلقاك إلاّ بحيلةٍ ... فمن ملّ منها ذلك الوصف ملّت
ثمّ عطف على بثينة فقال لها: ما رأى جميل حين لهج بذكرك بين النّساء كلّهن؟ قالت: الذي رأى فيك النّاس حين جعلوك خليفة من بين رجال العالمين. فضحك حتّى بدت سنٌّ له سوداء، كان يخفيها، وأجزل جائزتهما وقضى حوائجهما.
تغيّر العادات بالنسبة لعلاقة الرّجل بالفتاة
وقال محمّد بن يحيى المدني: سمعت عطاء يقول: كان الرّجل يحبّ الفتاة فيطوف بدارها حولاً كاملاً يفرح إن رأى مرآها، وإن ظفر منها بمجلسٍ تشاكيا وتناشدا الأشعار. فاليوم يشير إليها، وتشير إليه، فإذا التقيا لم يشكوا حبّاً، ولم ينشدا شعراً. وقام إليها كأنّه أشهد على نكاحها أبا هريرة وأصحابه.
هل قبلة المشتاق جناح
وحكى أبو الحسن المدايني قال: هوى بعض المسلمين جاريةً بمكّة فأرادها، فامتنعت عليه. فأنشدها:
سألت الفتى المكّيّ هل في تزاورٍ ... وقبلة مشتاق الفؤاد، جناح؟
فقال: معاذ الله أن يذهب الهوى ... تلاصق أكبادٍ بهنّ جراح
فقالت له: بالله، إنّك سمعته وسألته فأجابك بهذا الجّواب؟ قال: نعم. فزارته وجعلت تقول: إيّاك أن تتعدى ما أمرك به عطاء.
الحسنات يذهبن السيّئات
وروى عبد الرحمن بن نافع، أنّ أبا هريرة سئل عن قول الله عز وجل " الذين يجتنبون كبائر الأثم والفواحش إلا اللمم " . فقال: هي النظرة والغمزة والقبلة. وقال مجاهد: هو الرّجل يلمّ بالذّنب مرّةً ثمّ لا يعود، وبإسنادٍ عن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أنّ رجلاً جاء إليه فقال له: إنّي أخذت امرأةً في البستان فأصبت منها كلّ شيءٍ، إلاّ أنّي لم أنكحها فاصنع ما شئت؟ فسكت عنه، صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا ذهب، دعاه فقرأه عليه " أقم الصّلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إنّ الحسنات يذهبن السيئات " الآية.
ما كنت تصنع لو ظفرت بمن تهوى
؟
قيل لأعرابيٍّ: ما كنت تصنع لو ظفرت بمن تهوى؟ قال: كنت أمتّع عيني في وجهها، وقلبي من حديثها، وأستر منها ما لا يحبّه الله ولا يرضى بكشفه إلا عند حلّه. قيل: فإن خفت أن لا تجتمعا بعد ذلك؟ قال: أكل قلبي إلى حبّها، ولا أصير بقبيح ذلك الفعل إلى نقض عهدها.
سبعة يظلّهم الله بظلّه
ويروى عن أبي هريرة، عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: " سبعةٌ يظلّهم الله بظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: إمامٌ عادلٌ، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبه متعلّقٌ بالمسجد حتّى يعود إليه، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرّقا عليه، ورجلٌ طلبته ذات منصبٍ وجمالٍ فقال إنّي أخاف الله، ورجلٌ تصدّق بصدقه فلم تعلم شماله ما تسرّ يمينه، ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه " .
الزّبّاء وعمر بن أبي ربيعة
وعن عبد الملك بن قريب الأصمعي قال: بصرت الزّبّاء بعمر بن أبي ربيعة، وهو يطوف بالبيت، فتنكّرت له وفي كفّها خلوقٌ، فمسحته بثوبه، فقال:
أدخل الله ربّ موسى وعيسى ... جنّة الخلد من ملاني خلوقا
مسحت كفها بجيب قميصي ... حين طفنا بالبيت مسحاً رقيقا
لو تجازى القلوب بالودّ أمسى ... قلبها مائلاً إلينا شفيقا
فنظر إليه عبد الله بن عمر في تلك الحالة ينشد الأبيات، فقال: ما هذا زي المحرم وما يحلّ للمحرم أن يقول مثل هذا القول في هذا الموضع فقال: يا أبا عبد الرّحمن قد سمعت منّي ما سمعت، فوربّ هذه البنية، ما حللت إزاري على حرامٍ قط.
ليلى الأخيليّة والحجّاج
قال الهيثم بن عدي دخلت ليلى بنت عبد الله الأخيلية على الحجّاج وعنده وجوه النّاس وأشرافهم. فاستأذنته في الإنشاد، فأذن لها، فأنشدته قصيدةً مدحته بها. فلمّا فرغت من إنشادها، قال الحجّاج لجلسائه: أتدرون من هذه الجّارية؟ قالوا: لا نعلم، أصلح الله الأمير، ولكنّا لم نر امرأةً أكمل منها كمالاً، ولا أجمل منها جمالاً، ولا أطلق لساناً، ولا أبين بياناً، فمن هي؟ قال: هذه هي ليلى الأخيلية صاحبة توبة بن الحمير الذي يقول فيها:
نأتك بليلى دارها لا تزورها ... وشطّ نواها واستمرّ مريرها
ثمّ قال لها: يا ليلى ما الذي رابه من سفورك حيث يقول:
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
قالت: أصلح الله الأمير، لم يرني قط إلا متبرقعةً وكان أرسل إليّ رسولاً أنّه يلمّ بنا، ففطن الحيّ لرسوله، فأعدّوا له وكمنوا، وفطنت لذلك، فلم يلبث أن جاء، فألقيت، برقعي وسفرت له، فلمّا رأى ذلك أنكره وعرف الشّرّ، فلم يزد أن سلّم عليّ وسأل عن حالي وانصرف راجعاً. فقال الحجّاج لها: لله درّك فهل كانت بينكما ريبة؟ قالت: لا، والذي أسأله أن يصلحك إلى أن قال مرةً قولاً ظننت أنّه خضع لبعض الأمر، فقلت له مسرعةً هذا الشعر. وأنشأت وهي تقول:
وذي حاجةٍ قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحبٌ وخليل
فلا، والذي أسأله صلاحك، ما كلّمني بشيءٍ بعدها استربته حتّى فرّق الدّهر بيني وبينه.
العفاف أيّام زمان
قال أبو عثمان: قد ترى الأعرابيّ، وظاهره ظاهر الجّفاء، فما هو إلاّ أن يعشق حتّى تجده أرقّ من الماء، وألطف من الهواء. ومع ذلك يلقى أحدهم عشيقته فيترشّفها ويعانقها من دون الثّياب ويمنعه التّكرّم ويحجزه الورع عن وطئتها وإن أمكنته. قال ابن هرمة.
ولربّ لذّة ليلةٍ قد نلتها ... وحرامها لحلالها مدفوع
ويقتصرون على الحديث والقبل واللمس.
للعشيق من حبيبته نصفها الأعلى
قال العتيبي: قيل لبعض الأعراب، ما الذي ينال أحدكم من عشيقته إذا خلا بها؟ قال اللمس والقبل والحديث. قال فهل يطؤها؟ قال: بأبي أنت وأمّي ليس هذا عاشقاً هذا طالب ولد.
قال: وكان الشّرط بين العاشق ومعشوقه إذا خلوا أن يكون له نصفها الأعلى من سرّتها إلى قمّة رأسها يصنع فيها ما شاء، ولبعلها من سرّتها إلى أخمصها. وأنشد ابن الأعرابيّ في مثل ذلك:
فللخلّ شطرٌ مطلقٌ من عقاله ... وللبعل شطرٌ ما يرام منيع
وأنشد أبو عمرو بن العلاء في نحوه:
لها نصفان من حلٍ وبلٍ ... ونصف كالبحيرة ما يهاج
يقول نصفها الأعلى لعشيقها طلقٌ، ونصفها الآخر عليه كالبحيرة - فإنّها كانت في الجّاهلية حراماً لا تهاج ولا تركب ولا تمنع من كلأ ولا ماء - وأنشد الأصمعي لبعض ظرفاء العرب يخاطب بعل عشيقته:
فهل لك في البدال أبا زنيم ... وأقنع بالأكارع والعجوب
قال إبراهيم بن بشارة النّاظم: قد يمكن الرجل أن يحتجز عن ذلك ما دام ليس له هنالك إلاّ الحديث والقبلة، فأمّا إذا ترشّفها وعانقها من دون ثيابها فلا بد أن ينعظ وينشط وإذا أنعظ وهو في الإزار معها انتقض العزم، كما قال عبد الرّحمن بن أمّ الحكم:
وكأس ترى بين الإناء وبينها ... قذى العين قد نازعت أم أبان
ترى شاربيها حين يعترونها ... يميلا أحياناً ويعتدلان
فما ظنّ ذا الواشي بأبيض ماجدٍ ... وبيضاء خودٍ حين يلتقيان
دعتني أخا أمّ عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان
دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعل الأخوان
عادات أهل طبرستان في الزّواج
وقد ذكرنا: أنّ أهل طبرستان لا تتزوّج الجّارية منهم حتّى يستظهر بها حولاً كاملاً محرّماً ثمّ يقدم بها فيخطبها إلى أهلها ثم يتزوّج بها، ويزعمون مع ذلك أنّهم يجدونها بكراً، وقد عانقها في إزارٍ واحدٍ سنةً تامةً وهو لا يستظهر بها، ويحتمل وحشة الاغتراب، وانقطاع الأسباب إلاّ من عشق غالب. ولا يجوز أن تؤاتيه الجّارية إلا وبها شبه الذي به. وإنّ من أعجب العجب أن يمكثا متعانقين في لحافٍ واحدٍ ثمّ يحتجزان عن الزّنا تكرّماً وتحرّجاً! وهذا التّكرّم عند علوج طبرستان من العجائب.
العقلاء والمجانين
ومن قول سهيل بن هارون: ثلاثةٌ من المجانين وإن كانوا عقلاء: الغضبان، والعزبان، والسّكران. فقال له أبو عبيد الله الخليع: والمنعظ يا أبو عمرو؟ فقال: والمنعظ. وضحك وأنشد:
وما شرّ الثّلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا
فقيد ثقيف عاشق زوجة أخيه
قال الأصمعي: كان فتىً من ثقيفٍ شديد الحياء، كريماً أديباً، فبينا هو جالس، إذ مرّت به امرأةٌ من أجمل النّساء فلم يتمالك أن قام من الحياء من مجلسه ليعلم من هي، وأين تريد. وقد كلف بها واشتدّ عشقه لها، فاتّبعها حتى دخل منزل أخيه فإذا هي امرأته، فضاق به الأمر ولم يدر ما يصنع، وكتم شأنه، وجعل ما به يزداد كل يومٍ حتّى نحل جسمه، فأنكر شأنه أخوه وأهله وسألوه عمّا به. فلم يخبرهم بشيءٍ من أمره. فدعا أخوه الأطبّاء فعالجوه فلم يغنوا عنه شيئاً، فلمّا أعياهم ما به، وزاد سقمه، سلّمه أخوه إلى الحارث بن كلدة وكان من أطبّاء العرب فنظر إليه الحارث فلم يرى به داءٌ ينكر، غير أنّه ظنّ أنّه عاشق. فخلا به الحارث فسأله، فأبى أن يقرّ له بشيءٍ. فلمّا أعيا الحارث جعل يسأل عن أسمائهم وأسماء نسائهم، والفتى ملقىً بين يديه، كلّما سمّيت امرأةٌ منهم نظر الحارث وجه المريض حتّى جاء اسم امرأة أخيه فارتاح وتنفّس، واغرورقت عيناه بالدّموع. فعلم الحارث أمره، وقال لأخيه: إذهب فجئني بجميع أهليكم، ولا يتخلّف عنّي منهم امرأةً ولا رجلاً، فإنّي قد وقعت على دائه.
فخرج أخوه حتّى أتى أهله، فجميعهم في منزل ونقل الحارث المريض إليهم، وقال: لا يغيبنّ عنه امراةٌ ولا رجلٌ. فلمّا نظر الرّجل إلى امرأة أخيه خفّ عنه بعض ما كان يجده. فعرف الحارث ذلك منه، فأمر بشاةٍ فذبحت، وأخرج كبدها فوضعها على النّار، ثمّ أطعمه منها فأكل ثمّ مزج له شربةً خفيفةً فسقاه، وفعل به ذلك أيّاماً يزيده في كلّ يومٍ شيئاً قليلاً في مطعمه ومشربه. فحسنت حاله، ورجع إليه بعض جسمه.
فلمّا رأى الحارث أنّه قوي بعض القوّة صنع له طعاماً وهيّأ له شراباً ثمّ أحضر الفتى وأخاه فطعما وشربا، وأمر الحارث أخاه أن ينصرف وقام هو ووكّل هو بالفتى من يسقيه ويغنيه، وقال: احفظ حديثه، وكلّ ما يتكلّم به، وحدّثه كلّ حديثٍ تعرفه في العشق وأخبار العشّاق، وأشعارهم. فلمّا أخذ الشّراب في الفتى تغنّى:
أهل ودّّي، ألا سلموا ... وقفوا كي تكلّموا:
أخذ الحيّ حظّهم ... من فؤادي وأنعم
فهمومي كثيرةٌ، ... وفؤادي متيّم
وأخو الحبّ جسمه ... أبد الدّهر يسقم.
فلمّا أصبح الحارث، دعا الموكّل بالفتى فسأله، فعرّفه بكلّ شيءٍ، فحدّثه وأنشد الأبيات التي تغنّى بها. فدعا أخاه فعرّفه إنّه عاشقٌ لامرأته. فقال له: يا أخي أنا أنزل لك عنها وتتزوّجها. فلمّا سمعه الفتى استحيا وخرج هارباً على وجهه، فلم يقفوا له على خبرٍ إلى اليوم فسمّي فقيد ثقيف.
من يفعل مثقال ذرّةٍ خيراً يره
وروى نافع مولى ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " بينا ثلاثة نفرٍ يمشون إذ أخذهم المطر فأووا إلى غارٍ في جبل. فانحطّ عليهم من الجبل صخرةٌ فانطبقت عليهم، وقال بعضهم: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحةً، فادعوا الله بها. فدعوا الله، تبارك وتعالى، فقال أحدهم: اللهمّ إنّك تعلم أنّه كان لي أبوان شيخان كبيران، وامرأةٌ وصبيان، فكنت أرعى عليهم فإذا رحت إليهم حلبت، وبدأت بوالديّ أسقيهما قبل بنيّ. وإنّي لم آت يوماً حتّى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، فجعلوا يتضاغون تحت قدمي، فلم يزل ذلك دأبهم حتّى طلع الفجر. فإن كنت تعلم إنّي فعلت ذلك إبتغاء وجهك، فأفرج عنّا فرجةً نرى منها السّماء. ففرّج الله له فرجةً.
وقال الآخر: اللهمّ إنّك تعلم إنّه كانت لي إبنة عمٍّ فأحببتها كأشدّ ما يحبّ الرّجال النّساء، فطلبت إليها نفسها فأبت حتّى آتيها بمائة دينارٍ، فسعيت حتّى جمعت مائة دينارٍ فجئتها بها، فلمّا قعدت بين رجليها، قالت: يا عبد الله، اتّق الله ولا تفضّنّ الخاتم إلا بحقه. فقمت عنها فإن كنت تعلم إنّي فعلت ذلك إبتغاء وجه ربّك، فأفرج عنّا فرجةً من السّماء. ففرّج الله جلّ ثناؤه فرجةً.
وقال الآخر: اللهمّ إنّك تعلم أنّي استأجرت أجيراً فلمّا قضى عمله، قال: أعطني حقّي. فأعرضت عنه وتركته، ثمّ اشتريت بحقّه بقراً وراعياً لها فجاءني بعد حين، فقال لي: اتّق الله ولا تظلمني، وأعطني حقّي. فقلت له: إذهب إلى تلك البقر وراعيها. فأخذها وذهب، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ابتغاء وجهك، فأفرج لنا ما بقي. ففرّجها الله عنهم. "
هذا طالب ولد
قال الأصمعي: قلت لأعرابيّةٍ من بني عذرة: أنتم أكثر النّاس عشقاً فما تعدّون العشق فيكم؟ قالت: الغمزة والقبلة والضمّة. ثمّ قالت:
ما الحبّ إلا قبلةٌ، ... وغمز كف، وعضد.
ما الحبّ إلا هكذا، ... إن نكح الحبّ فسد.
ثمّ قالت: وأنتم يا حضر، كيف تعدّون العشق فيكم؟ قلت: يقعد بين رجليها ويجهد نفسه. فقالت: يا ابن أخي، ما هذا عاشقاً هذا طالب ولد.
السّبيل لدخول المرأة إلى الجنّة
وروي عن عبد الرّحمن بن عوف، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: " إذا صلّت المرأة خمسها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، دخلت الجّنّة.
راودته عن نفسها فأبى
عرض الحجّاج سجنه يوماً، فأتي برجلٍ فقال له: ما كان جرمك؟ قال: أصلح الله الأمير، أخذني العسس وأنا مخبرك بخبري، فإن يكن الكذب ينجي فالصّدق أولى بالنّجاة. فقال: ما قصّتك؟ قال: كنت أخاً لرجلٍ فضرب الأمير عليه العبث إلى خراسان، فكانت إمرأته تجد بي وأنا لا أشعر، فبعثت إليّ يوماً رسولاً قد جاء كتاب صاحبك فهلمّ لتقرأه. فمضيت إليها، فجعلت تشغلني بالحديث حتّى صلّينا العشاء، ثمّ أظهرت لي ما في نفسها، ودعتني إلى السّوء، فأبيت ذلك. فقالت: والله لئن لم تفعل لأصيحنّ ولأقولنّ أنّك لص. فلمّا أبيت عليها صرخت فخرجت هارباً. وكان القتل أهون عليّ من خيانة أخي. فلقيني عسس الأمير فأخذوني. وأنا أقول متمثّلاً:
ربّ بيضاء ذات دلٍّ وحسن ... قد دعتني لوصلها فأبيت
لم يكن شأني العفاف ولكن ... كنت ندمان زوجها فاستحيت
فعرف صدق حديثه وأمر بإطلاقه.
يعاملها بما يرضي الرّب
قيل لبعض الأعراب، وقد طال عشقه لجاريةٍ: ما أنت صانعٌ لو ظفرت بها ولا يراكما غير الله؟ قال: إذا، والله لا أجعله أهون النّاظرين، لكنّي أفعل بها ما أفعل بحضرة أهلها، حديثٌ يطول، ولحظٌ كليل وترك ما يكره الرّبّ، وينقطع به الحبّ.
ردّ الجّارية ولك الجّنّة
قال محمّد بن عبيد الزّاهد: كانت عندي جاريةٌ فبعتها، فتبعتها نفسي، فسرت إلى مولاها مع جماعة إخوانه، فسألوه أن يقيلني ويربح عليّ ما شاء، فأبى، فانصرفت من عنده مهموماً مغموماً، فبتّ ساهراً لا أدري ما أصنع، فلمّا رأيت ما بي من الجّهد، كتبت اسمها في راحتي، واستقبلت القبلة. فكلّ ما طرقني طارق من ذكرها رفعت يدي إلى السّماء وقلت: يا سيّدي هذه قصّتي. حتّى إذا كان في السّحر من اليوم الثّاني، إذ أنا برجلٍ يدقّ الباب، فقلت: من هذا: أنا مولى الجّارية. ففتحت، وإذا بها. فقال: خذها بارك الله لك فيها! فقلت: خذ مالك والرّبح. فقال: ما كنت لآخذ ديناراً ولا درهماً. قلت فلم ذلك؟ قال: أتاني الليلة في منامي آتٍ فقال: ردّ الجّارية على ابن عبيد الله، ولك الجنّة.
جود عبد الله بن جعفر
وكان عبد الرّحمن بن أبي عمّار فقيه أهل الحجاز قد مرّ بنخّاسٍ معه فتيات، فنظر إليهنّ، فتعلّق بواحدةٍ منهنّ، فاشتد ّوجده بها، واشتهر بذكرها، حتّى أتى إليه عطاء ومجاهد يعذلونه. فلم يكن جوابه إلاّ أن قال:
يلومونني فيك أقوامٌ أجالسهم ... فما أبالي أطال اللوم أم قصرا
فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر فخرج حاجّاً بسببه، وبعث إلى مولى الجّارية واشتراها منه بأربعين ألفاً، وأمر قيّمة جواريه فحلّتها وزيّنتها. وبلغ النّاس قدومه، فدخلوا إليه للسّلام عليه وفيهم عبد الرّحمن بن عمّار. فلمّا أراد الشّخوص استجلسه، فقال له: ما فعل حبّ فلانة؟ قال: مشوب اللحم و الدّم والمخّ والعظم والعصب. وأمر الجّارية فأخرجت إليه، وقال: هي هذه؟ قال: نعم، أصلحك الله. قال: إنّما اشتريتها لك، فوالله ما دنوت منها، فشأنك بها، فهي لك مباركة. وأمر له بمائة درهمٍ، وقال له: خذ هذا المال لئلّا تهتمّ بها وتهتمّ بك. قال، فبكى عبد الرّحمن فرحاً وقال: يا أهل البيت قد خصّكم الله بأشرف ما خصّ به أحداً من صلب آدم، فلتهنئكم هذه النّعمة، وبارك لكم فيها. فكان هذا الفعل بعض ما اشتهر به عبد الله بن جعفر من الجّود.
الزّنا أنواع
وقيل لأعرابيٍّ: أتعرف الزّنا، قال: وكيف لا. قيل: فما هو؟ قال: مصّ الرّيقة، ولثم العشيقة، والأخذ من الحديث بنصيب. قيل: ما هكذا نعدّه فينا! قال: فما تعدّونه؟ قيل: النّقّ الشديد أن تجمع بين الرّكبة والوريد، وصوتٌ يوقظ النّوام، وفعلٌ يوجب كثيراً من الآثام. قال: لله ما يفعل هذا العدوّ البعيد، فكيف الصّديق الودود.
أخبار أهل العفاف
وقيل لآخر: ما كنت صانعاً لو ظفرت بمن تهوى؟ قال: كنت أطيع الحبّ في لثامها، وأعصي الشّيطان في آثامها، ولا أفسد بضع عشرة سنين فيما يبقى ذميماً عاره، وينشر قبيح أخباره في ساعةٍ تفقد لذّتها. إنّي إذاً لئيمٌ، ولم يلدني كريمٌ.
الحبّ ما لا يغضب الرّب
وقيل لآخر: ما أنت صانعٌ إن ظفرت بمن تحب؟ قال: أحلل ما يشتمل عليه الخمار وأحرّم ما كتمه الإزار، وأزجر الحبّ عمّا يغضب الرّب.
ليلى وقيس بن الملوّح
وقيل لليلى هذا قيسٌ مات لما به من عشقك. قالت: ولقد خفت والله أن أموت بذلك منه. قيل لها: فما عندك حيلةٌ تخفّف ما به؟ قالت: صبري، وصبره، أو يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
عفراء وعروة بن حزام
وقيل لعفراء، وقد بلغها ما نزل بعروة، فكادت تبوح بسرّها فقيل لها: أما عندك له حيلةٌ تخفّف ما به؟ فقالت: والله، لأنا أسرّ بذلك وأشوق إليه منه، ولكن لا سبيل إلى احتمال العار، ودخول النّار.
ميّة وذو الرّمّة
وقيل لميّة، بعد موت قابوس: ما كان يضرّك لو أمتعته بوجهك قبل موته؟ قالت: منعني من ذلك خوف العار، وشماتة الجّار. ولقد كان بقلبي منه أكثر ممّا كان بقلبه، غير أنّي وجدت ستره أبقى لنا لما في الصّدر من المودّة، وأحمد للعافية.
الأمر ما تصفون، ولكن...
وقيل لابنة ملكٍ من ملوك الفرس، وقد أجهدها عشق رجلٍ من أساورة أبيها: لو روّحت عن قلبك بالاجتماع معه، كفّ ذلك من وجدك. قالت: إنّ الأمر على ما تصفون، ولكن ما عذري إذ هتكت ستري، وأظهرت أمري، عند من لا يلزمه عاري، ويرغمه اشتهاري، والله لا كان هذا أبداً.
عفراء بنت أحمر والحارث بن الشّريد
وحكى السّريّ بن المطّلب قال: كان الحارث بن الشّريد يعشق عفراء بنت أحمر. فلمّا عيل صبره كتب إليها:
صبرت على كتمان حبّك برهةً ... وبي منك في الأحشاء أصدق شاهد
هو الموت إن لم يأتني منك رقعةٌ ... تقوم لقلبي في مقام العوائد
فلمّا وصلت الرّقعة كتبت إليه:
كفيت الذي تخشى وصرت إلى المنى ... ونلت الذي تهوى برغم الحواسد
فوالله لولا أن يقال تظنناّ ... بي السّوء، ما جانبت فعل العوائد
فلمّا وصلت الرّقعة إليه وضعها على وجهه، فلمّا شمّ رائحة يدها شهق شهقةّ فقضى نحبه. فقيل لعفراء ما كان يضرّك لو روّحت عن قلبه وأجبته بزورة؟ قالت: منعني من ذاك قولكنّ عفراء قد صبت إلى الحرث! فوالله لأقتلنّ نفسي من حيث لا يعلم بي أحد إلا الله. فلحقت به سريعاً.
أسماء بنت عبد الله وكامل بن الرّضين
قال العتبي: عشق كامل بن الرّضين أسماء بنت عبد الله بن مسافر الثقيفة، وهي ابنة عمّه، فلم يزل به العشق حتّى صار كالشّن البالي. فلمّا اشتدّ ما به، شكا أبوه إلى أبيها فزوّجها له، فحمل إلى دارها وفيه رمق، فلمّا دخل الدّار، قال: أوأنا بموضعٍ تسمع أسماء كلامي؟ قيل: نعم. فشهق شهقةّ قضى مكانه. فقيل لها: يا أسماء قد مات بغصّة. قالت: والله لأموتنّ بمثلها، ولقد كنت على زيارته قادرة فمنعني قبح ذكر الرّيبة، وسماجة الغيبة. وسقطت بالمرض، فلمّا اشتدّ بها، قالت لأخصّ نسائها: صوّري لي صورته، فإنّي أحبّ أن أزوره قبل موتي. ففعلت. فلمّا رأت الصّورة اعتنقتها وشهقت شهقةً قضت نحبها. فدفنت مع الفتى في قبرٍ واحدٍ.
وكتب على قبرهما:
بنفسي هما ما متّعا بهواهما ... على الدّهر حتّى غيّبا في المقابر
أقاما على غير التزاور برهةً ... فلمّا أصيبا قرّبا بالتزاور
فيا حسن قبرٍ زار قبراً يحبّه ... ويا زورةً جاءت بريب المقادر
أوصاف الهوى
العشق لسعةٌ من جنون
قال العتبي: قال أعرابيٌّ: إن لم يكن العشق ضرباً من السّحر إنّه لسعةٌ من الجّنون.
الهوى والطّلول
وسئلت أعرابيّةٌ عن الهوى، فقالت: هو الهوان غلطٌ باسمه، وإنّما يعرف ما نقول من أبكته المعارف والطّلول.
الهوى والنّار
وسئلت أعرابيّةٌ عن صفة الهوى، فقالت:
الحبّ أوّله ميلٌ تهيم به ... نفس المحبّ فيلقى الموت كاللعب
يكون مبدؤه من نظرةٍ عرضت ... أو مزحةٍ أشعلت في القلب كاللهب
كالنّار مبدؤها من قدحةٍ، فإذا ... تضرّمت أحرقت مستجمع الحطب
وأنشد لأبي جعفر الطّربخيّ:
ليس خطب الهوى بخطبٍ يسيرٍ ... لاينبّئك عنه مثل خبير
ليس أمر الهوى يدبّر بالرّأ ... ي ولا بالقياس والتّفكير
إنّما الحبّ والهوى خطراتٍ ... محدثات الأمور بعد الأمور
الهوى والبلاء
وقال أعرابيٌّ: إنّ الصّبر على الهوى أشدّ من الصّبر على البلاء، كما أنّ الصّبر على المحبوب أشدّ من الصّبر على المكروه.
الهوى والطّبيب
وليم بعض الحكماء على الهوى، فقال: لو كان لذي هوىً اختيارٌ لاختار أن لا هوىً. وأنشد لمجنون ليلى:
أصلّي فلا أدري إذا ما ذكرتها ... أثنتين صلّيت الضّحى أم ثمانيا
أراني إذا صلّيت أقبلت نحوها ... بوجهي وإن كان المصلّى ورائيا
وما بي إشراكٌ ولكنّ حبّها ... وعظم الجوى أعيا الطّبيب المداويا
الهوى والموت
وأنشد لأبي العتاهية:
لا بارك الله فيمن كان يخبرني ... أنّ المحبّين في لهوٍ ولذّات
لموتةٌ تأخذ الإنسان واحدةً ... خيرٌ له من لقاء الموت مرّات
الهوى وأغصانه
وأنشد لأعرابيٍّ:
وللحبّ أغصانٌ تراها نضيرةً ... وفي طعمها للعاشقين ذعاف
رأيت المنايا في عيون أوانسٍ ... تقتّلن أرواحاً وهنّ ضعاف
الهوى المتجدّد
وأنشد:
رأيت الحبّ نيراناً تلظّى ... قلوب العاشقين لها وقود
فلو كانت، إذا فنيت تقضّت ... ولكن مثل ما كانت تعود
كأهل النّار إذ فنيت جلودٌ ... أعيد من الشّقاء لهم جلود
سكينة بنت الحسين وعروة بن أذينة
وركبت سكينة بنت الحسين بن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنهم مع جواريها، فمرّت بعروة بن أذينة الليثي، وهو في فناء قصر ابن عتبة، فقالت لجواريها: من الشّيخ؟ فقلن لها : عروة. فعدلت إليه فقالت له: يا أبا عامر، تزعم أنّك لم تعشق قط وأنت تقول؟:
قالت: وأبثثتها وجدي فبحت به؛ ... قد كنت عندي تحت السّتر فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: ... غطّي هواك وما ألقى على بصري.
كلّ ما ترى حواليّ من جوارٍ أحرارٍ إن كان خرج الكلام من قلبٍ سليمٍ.
أهل الدّعاوي الباطلة
وأمّا أهل الدّعاوي الباطلة، التي ليست أجسامهم بناحلة، ولا ألوانه بحائلة، ولا عقوله بذاهبة، فهم عند ذوي الفراسة، يكذبون، وعند ذوي الظّرف محرومون. فمن ذلك ما روى العبّاس بن الأحنف، قال: بينما أنا أطوف، إذ بثلاث جوارٍ أترابٍ، فلمّا أبصرنني، قلن هذا العبّاس. ودنت إليّ إحداهنّ، فقالت: يا عبّاس أنت القائل؟:
ماذا لقيت من الهوى وعذابه ... طلعت عليّ بليّةٌ من بابه
قلت: نعم. قالت: كذبت يا ابن الفاعلة، لو كنت كذلك كنت أنا. ثمّ كشفت عن أضاجع معراة من اللحم، فأنشأت تقول:
ولمّا شكوت الحبّ، قالت: كذبتني، ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا!
فلا حبّ حتّى يلزق الجلد بالحشا ... وتخرس حتّى لا تجيب المناديا.
أحبّ قلبي وما درى بدني
ومن ذلك، ما روي عن إبراهيم بن المهدي قال: دخل عليّ المأمون فقال: بالله يا عم، هل عشقت قط؟ فقلت: نعم. يا أمير المؤمنين، وأنا السّاعة عاشقٌ. قال: وأنت على هذه الجثّة والجسم الكبير عاشق؟ فأنشأ يقول:
لأنّه أصفرٌ منخول ... وجه الذي يعشق معروف
إلى أن قال:
ليس كمن تلقاه ذا ... جثّةٍ كأنّه للذّبح معلوف
فأجابه إبراهيم:
وقائلٍ لست بالمحبّ ولو ... كنت محبّاً لذبت مذ زمن
أحبّ قلبي، وما درى بدني، ... ولو درى، ما أقام في السّمن
وهذان قد ادّعيا المحبّة ففضحهما شاهد النّظر ولم يجز إدّعاؤهما على ذوي المعرفة والنّظر. وقول إبراهيم أحبّ قلبي وما درى بدني من كثرة المحال أن يتعلّق القلب لسببٍ فيسلم الجسم منه على حالٍ، ولكنّه لاستحيائه من ادّعائه اعتذر، فقبح في اعتذاره. وأنشدني بعض المشايخ:
وقائلةٍ: ما بال جسمك لا يرى ... سقيماّ وأجسام المحبّين تسقم؟
فقلت لها: قلبي بحبّك لم يبح ... لجسمي، فجسمي بالهوى ليس يعلم!
والعرب تمدح أهل النّحول، وتذمّ أهل السّمن والجسوم، وتنفيهم عن الأدب، و تنسب أهل النّحول إلى المعرفة وحسن البيان، وأهل السّمن إلى الغباوة وبعد الأذهان.
البطنة تذهب الفطنة
زعموا أن من غلب عليه البلغم غلظ جسمه، وكبر شحمه، وزاد لحمه، وقلّ فهمه، وطال نسيانه، وتعقّد لسانه، لغلبة البلغم على قلبه والرّطوبة على لبّه. ومن كان أغلب مزاجه المرة جفّ جسمه، وقلّ لحمه، وصحّ ذهنه، ودقّ فهمه. وأنّه يستدلّ بها على أحسن أدب ذوي الألباب، وصحّة أذهان ذوي الآداب. لا تكاد تخطي به الفراسة، ولا تكذب فيه الدّلالة لما أخبرتك من غلبة أحد المزاجين على صاحبه واستقراره في مركبه. وربّما أنجب السّمن، وخاب الهزال. ولا يكون ذلك إلا في الفرد النّادر من الرّجال ومن أمثلة العرب في ذلك: " البطنة تذهب الفطنة. "
المغنّية محبوبة والمتوكّل
قال عليّ بن الجّهم: لمّا أفضت الخلافة إلى جعفر المتوكّل على الله، أهدي إليه ابن طاهر من خراسان هديّةً جليلةً فيها جوارٍ، منهنّ جاريةٌ يقال لها محبوبة كانت قد نشأت بالطّائف، وكان لها مولىً قد عنى بها، فبرعت في فنون الأدب، وأجادت الشّعر. وكانت راويةً ظريفةً، مجيدةً للغناء. فقربت من قلب المتوكّل. وغلبت عليه. قال: فخرج عليّ يوماً، وقال لي: يا علي، دخلت السّاعة على قينة وقد كتبت بالمسك على خدّها جعفراً، فما رأيت أحسن منه، فافعل فيه السّاعة شعراً. فأخذت الدّواة والقرطاس، فانقفل عليّ، حتّى كأنّي ما عملت بيتاً قط فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أذنت لمحبوبة أن تقول شيئاً عسى أن ينفتح لي. فأمرها، فقالت مسرعةً، وأخذت العود فجسته، وصاغت لحناً، واندفعت وغنّت:
وكاتبةٍ بالمسك في الخدّ جعفراً، ... بنفسي خطّ المسك، من حيث أثرّا
لئن أودعت سطراً من المسك خدّها، ... لقد أودعت قلبي من الشّوق أسطرا.
فاعجب لمملوكٍ يظلّ مليكه ... مطيعاً له فيما أسرّ وأجهرا
قال عليّ: وغضب عليها مرّة، وكان لا يصبر عنها، فأمر جواري القصر أن لا تكلّمها واحدةً منهنّ. فكانت في حجرتها أيّاماً، وقد تنغّص عيشه لفراقها، فبكرت عليه يوماً، فقال: يا علي. قلت لبّيك يا أمير المؤمنين. قال: رأيت الليلة في منامي كأنّي رضيت عن محبوبة فصالحتها وصالحتني. فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين، أقرّ الله عينك وسرّك. إنّما هي عبيدتك، والسّخط والرّضا بيدك، فوالله، إنّا لفي حديثنا إذ جاءت وصيفةً، فقالت: يا أمير المؤمنين سمعت صوت عودٍ من غرفة محبوبة. قال: فقم بنا يا عليّ ننظر ما تصنع، فنهضنا حتّى أتينا حجرتها، فإذا هي تضرب العود وتغنّي:
أدور في القصر، لا أرى أحداً ... أشكو إليه، ولا يكلّمني
كأنّني قد أتيت معصيةً، ... ليست لها توبةٌ تخلّصني.
فهل شفيعٍ لنا، إلى ملكٍ، ... قد زارني في الكرى فصالحني،
حتّى إذا ما الصّباح لاح لنا، ... عاد إلى هجره فصادمني.
قال: فصاح أمير المؤمنين، وصحت معه. فتلقته وأكّبت على رجله تقبّلها، فقال: ما هذا؟ فقلت: يا مولاي رأيت في ليلتي هذه كأنّك صالحتني، فتعلّلت بما سمعت. قال: فأنا والله قد رأيت مثل ذلك. وقال: يا عليّ أرأيت أعجب من هذا وكيف اتّفق ورجعنا إلى الموضع الذي كنّا فيه. واصطلح. وما زالت تغنّيه هذه الأبيات يومنا ذلك. وازدادت حظوتها عنده حتّى كان من أمره ما كان. فتفرّقت جواريه، فصارت محبوبة إلى الوصيف الكبير، فما زالت باكيةً حزينةً، فدعاها يوماً مع من صار إليه من جواري المتوكّل فأمرهنّ فغنّين. ثمّ أمرها فاستعفته فأبى، فقلن لها: لو كان في حزننا فرحٌ لطال حزننا معك. وجيء بعودٍ فغنّت به:
أيّ عيشٍ يلذّ لي ... لا أرى فيه جعفرا
كلّ من كان ذا ضناً ... وسقامٍ فقد برا
غير محبوبة التي ... ترى الموت يشترى
من أحاديث بني عذرة
ومن ذلك ما حكى جميلٌ بن معمر العذري: أنّه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا جميل حدّثني ببعض أحاديث بني عذرة. فإنّه بلغني إنّهم أصحاب أدبٍ وغزلٍ. قال: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمك أنّ آل بثينة انتجعوا عن حيّهم، فوجدوا النّجعة بموضع نازح فظعنوا، فخرجت أريدهم، فبينما أنا أسير إذ غلطت الطّريق وأجنّني الليل فلاحت لي نارٌ، فقصدها حتّى وردت على راعٍ في أصل جبل قد انحنى عنه إلى كهفٍ فيه، فسلّمت، فردّ عليّ السّلام، وقال: أظنّك قد غلطت الطّريق؟ فقلت: أجل. فقال: انزل وبت الليلة فإذا أصبحت وقفت على القصد فنزلت فرحب بي وأكرمني وذبح شاة، وأجّج ناره، وجعل يشوي ويلقي بين يدي، ويحدّثني في خلال ذلك. ثمّ قام بإزارٍ كان معه فوضع به جانب الخبا ومهّد لي محلّاً خالياً فنمت.
فلمّا كان في الليل سمعته يبكي إلى شخصٍ كان معه، فأرقت له ليلتي. فلمّا أصبحت طلبت الإذن فأبى، وقال: الضّيافة ثلاث. فجلست وسألته عن اسمه ونسبه وحاله، فانتسب فإذا هو من بني عذرة، من أشرفهم. فقلت: وما الذي جاء بك إلى هذا؟ فأخبرني أنّه كان يهوى ابنة عمٍّ له، وأنّه خطبها من أبيها فأبى أن يزوّجها إيّاها لقلّة ذات يده، وأنّه تزوّجها رجلٌ من بني كلاب وخرج بها عن الحي، وأسكنها في موضعه. وأنّه رضي أن يكون لزوجها راعياً حتّى تأتيه ابنة عمّه فيراها. وأقبل يشكو قديم عشقه لها، وصبابته بها حتّى أتى المساء، وحان وقت مجيئها. فجعل يتقلقل ويقوم ويقعد، ثمّ وثب قائماً على قدميه، وأنشأ يقول:
ما بال ميّة لا تأتي كعادتها ... أعاجها طربٌ أو صدّها شغل
لكنّ قلبي عنكم ليس يشغله ... حتّى الممات وما لي غيركم أمل
لو تعلمين الذي بي من فراقكم ... لما اعتذرت، ولا طابت لك العلل
نفسي فداؤك، قد أحللت بي سقماً ... تكاد من حرّه الأعضاء تنفصل
لو أنّ ما بي من سقمٍ على جبلٍ ... لزال وانهدّ من أركانه الجبل
ثمّ قال لي: اجلس، يا أخا بني عذرة، حتّى أكشف خبر ابنة عمّي. ثمّ مضى فغاب عن بصري، فلم ألبث أن أقبل وعلى يديه محمول، وقد علا شهيقه ونحيبه، فقال: يا أخي هذه ابنة عمّي أرادت زيارتي فاعترضها الأسد فأكلها. ثمّ وضعها بين يديّ، وقال: على رسلك، حتّى أعود إليك. فغاب عن نظري فأبطأ، حتّى آيست من رجوعه، فلم ألبث أن أقبل ورأس الأسد على يديه فوضعه ثمّ، قال: يا أخي إنّك ستراني ميّتاً فاعمد إليّ وإلى ابنة عمّي فأدرجنا في كفنٍ واحدٍ، وأدفنّا في قبرٍٍ واحدٍ، واكتب على قبرنا هذين البيتين:
كنّا على ظهرها والعيش في مهلٍ ... والشّمل يجمعنا والدّار والوطن
ففرّق الدّهر بالتّصريف إلفتنا ... فصار يجمعنا في بطنها الكفن
وردّ الغنم إلى صاحبها، وأعلمه بقصّتها.
ثمّ عمد إلى خناقٍ وطرحه في عنقه، فناشدته الله لا تفعل، فأبى وخنق نفسه حتّى مات. فلمّا أصبحت كفّنتهما ودفنتهما وكتبت الشّعر كما أمر، ورددت الغنم إلى صاحبها وأعلمته بقصّتهما، فحزن حزناً خفت عليه الهلاك أسفاً على ما فرّط من عدم اجتماعهما.
طعم العشق
وقد روي عن محمّد بن جعفر بن الزّبير، قال: كنّا عند عروة بن الزّبير وعنده رجلٌ من بني عذرة. فقال له: يا عذري بلغني أنّ فيكم رقّةً وغزلاً فأخبرني ببعض ذلك؟ فقال: لقد خلف في الحيّ ثلاثين مريضاً ما بهم داءٌ إلاّ الحب قد خامر قلوبهم وأنّ فيه من المرارة والنّكد والكمد ما هو مستعذبٌ عند أربابه، مستحسنٌ عند أصحابه، حلوٌ لا تعدّ له حلاوةٌ، ومرٌّ لا تعدّ له مرارةٌ. قال الكميت بن زيد في ذلك:
الحبّ فيه حلاوةٌ ومرارةٌ ... سائلٌ بذلك من تطعّم أو ذق
ما ذاق بؤس معيشةٍ ونعيمها ... فيما مضى أحدٌ إذا لم يعشق
وقال آخر:
يا أيّها الرّجل المعذّب بالهوى ... إنّي بأحوال الهوى لعليم
الحبّ صاحبه يبيت مسهّداً ... فيطير منه فؤاده ويهيم
والحبّ داءٌ قد تضمّنه الحشا ... بين الجوانح والضّلوع مقيم
والحبّ لا يخفى وإن أخفيته ... إنّ البكاء على الحبيب يدوم
والحبّ فيه حلاوةٌ ومرارةٌ ... والحبّ فيه شقاوةٌ ونعيم
والحبّ أهون ما يكون مبرّحٌ ... والحبّ أصغر ما يكون عظيم
وأنشدني أحمد بن يحيى:
سلني عن الحبّ يا من ليس يعلمه ... ما أطيب الحبّ لولا أنّه نكد
طعمان حلوٌ ومرٌّ ليس يعدله ... في حلق ذائقه مرٌّ ولا شهد
وأنشد أبو الطّيّب:
سلني عن الحبّ يا من ليس يعلمه ... عندي من الحبّ إن ساءلتني خبر
إنّي امرؤٌ بالهوى ما زلت مشتهراً ... لاقيت فيه الذي لم يلقه بشر
الحبّ أوّله عذبٌ مذاقته ... لكنّ آخره التّنغيص والكدر
عروة بن حزام يموت ملوّعاً
وذكر ابن عتيق، قال: بينما أنا أسير في أرض بني عذرة، إذ أنا ببيتٍ جديدٍ، فدنوت منه، فإذا بعجوزٍ تعلّل شابّاً قد نهكته العلّة، وبانت عليه الذّلّة. فسألتها عن خبره، فقالت: هذا عروة بن حزام. فدنوت منه، فسمعته يقول:
من كان من إخواننا باكياً لغدٍ ... فاليوم، أنّي أراني اليوم مقبوضا
فقلت: أنت عروة بن حزام؟ قال: نعم، الذي أقول:
جعلت لعرّاف اليمامة حكمه ... وعرّاف نجدٍ إن هما شفياني
فقالا: نعم، تشفى من الدّاء كلّه. ... وقاما مع العوّاد يبتدراني.
فما تركا من سلوةٍ يعلمانها، ... ولا شربةٍ إلاّ وقد سقياني.
فقال: شفاك الله، والله مالنا، ... بما حملت منك الضّلوع، يدان
فويلي على عفراء ويلاً كأنّه ... على النّحر والأحشاء حدّ سنان،
فعفراء أصفى النّاس عندي مودّةً ... وعفراء عندي المعرض المتواني.
ثمّ شهق شهقةً توهّمت أنّها غشية فتنحّيت عنه، ودنت العجوز فوجدته قد قضى نحبه. فما برحنا حتّى دفنّاه.
لا ذنب على أهل الهوى
وبلغ العشق أيضاً مجنون عامر إلى ما ذكرناه في موضعه. قال بعضهم: سمعت أعرابيّةً تطوف وهي تقول اللهمّ مالك يوم القضا، وخالق الأرض والسّماء، ارحم أهل الهوى، وأنقذهم من عظيم البلا، فإنّك تسمع النّجوى، قريبٌ لمن دعا. ثمّ أنشأت تقول:
يا ربّ إنّك ذو منٍّ وذو سعةٍ ... دارك بعافيةٍ منك المحبّينا
الذّاكرين الهوى من بعد ما رقدوا ... حتّى نراهم على الأيدي مكبّينا
فقلت لها: يا هذه أيقال هذا في الطّواف؟ فقالت: إليك عنّي، لا يرهقك الحبّ. فقلت: وما الحبّ؟ فقالت: جلّ أن يخفى، ودقّ على أن يرى: له كمونٌ ككمون النّار في الحجر، إن قدحته أروى، وإن تركته توارى. قال: فتبعتها حتّى عرفت منزلها، فلمّا كان من غدٍ جاء مطرٌ شديدٌ فمررت ببابها وهي قاعدةٌ مع أترابٍ لها، وهنّ يقلن لها: أضرّ بنا المطر، ولولا ذاك لخرجنا إلى الطّواف فأنشأت تقول:
قالوا أضرّ بنا السّحاب بقطره ... لمّا رأزها بعبرتي تحكي،
لا تعجبوا ممّا ترون، فإنّما ... تلك السّماء لرحمتي تبكي.
وقد زعم قومٌ أنّه لا ذنب على أهل الهوى، ولا وزر على ذوي الضّنا. إنّ خطاياهم تنمحي عنهم لطول بلائهم، وكثرة شقائهم،ولما يلقون من القلق، ويعانون من الأرق.
لو أدرك عمر عفراء وعروة لجمعهما
أبو الحسن الميداني عن الأصمعيّ قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: لو أدركت عفراء وعروة، لجمعت بينهما.
العرجيّ المحتال
قال الزّبير بن بكار: كان العرجيّ وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، يعشق أمّ الأوقص المخزومي القاضي، وهي امرأةٌ من بني تميم، فكان يتعرّض لها، فإذا رأته رمت بنفسها وتستّرت منه. فمرّ بها يوماً وهي في بعض نسوةٍ وهنّ يتحدّثن، فعرفها فأحبّ أن يراها عن قربٍ، فعدل عنها ولقي أعرابيّا راكباً معه لبنٌ رطبٌ، فدفع دابّته وثيابه وأخذ قعوده ولبنه، ولبس ثيابه، ثمّ أقبل على النّسوة. فصحن يا أعرابيّ: عندك لبن؟ قال: نعم ومال إليهنّ، وجلس يتأمّل التّميميّة وينظر أحياناً إلى الأرض كأنّه يطلب شيئاً. وهنّ يشربن من اللبن، فقالت له امرأةٌ منهنّ: أيّ شيءٍ تطلب يا أعرابيّ أضاع منك في الأرض؟ قال: نعم قلبي: فلمّا سمعت التّميميّة كلامه نظرت إليه، وكان أزرق، فعرفته، وقالت: ابن عمر، وربّ الكعبة. ووثبت فسترها نساؤها، وقلن له انصرف عنّا، لا حاجة لنا إلى لبنك. فمضى منصرفاً.
أهل العشق صحيح مساكين
قال العتبيّ: سمعت أعرابيّةً تقول: مسكين العاشق، كلّ شيءٍ عدوّه: هبوب الرّيح تقلقه، ولمعان البرق يؤرقه، ورسوم الدّيار تحرقه، والعذل يؤلمه، والتّذكير يسقمه. إذا دنا الليل منه هرب النّوم عنه، ولقد تداويت بالقرب والبعد فما أنجح فيه دواء. ولقد أحسن الذي يقول:
بكلٍّ تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أنّ قلب الدّار خيرٌ من البعد
داؤهما دواؤهما
وقال أعرابيٌّ: إنّ لي عيناً دموعاً، وقلباً مروّعاً، فماذا يصنع كلّ واحدٍ منهما بصاحبه مع أنّ داؤهما دواؤهما، وسقمهما شفاؤهما.
البعيدة القريبة
وذكر أعرابيٌّ وجده بامرأةٍ فقال: ما ازدادت منّي بعداً إلاّ ازددت بها قرباً.
بعدها دهرٌ والسّاعة شهرٌ
وذكر أعرابيٌّ امرأةً كان يواصلها في شبابه، فقال: ما كانت أيّامي معها إلاّ كأباهيم القطا قصرا، ثمّ طالت بعدها شوقاً إليها، وأسفاً عليها، فاليوم بعدها دهر، والسّاعة شهر.
رعت لعيسى الود
ّ
قال أبو بكر بن دريد: كانت امرأةٌ من لخمٍ يقال لها سعدى تهوى ابن عمٍّ لها، يقال له عيسى. فلمّا خشي أهلها الفضيحة قالوا لها: إن نطقت فيه بشعرٍ قطعنا لسانك. فعندها قالت:
خليليّ إن أصعدتما أو هبطتما ... بلاداً هوى نفسي بها فأذكرانيا
ولا تدعا إن لامني ثمّ لائمٌ ... على سخط الواشين أن تعذرانيا
فقد شفّ جسمي بعد طول تجلّدي ... أحاديث عن عيسى تشيب النّواصيا
سأرعى لعيسى الودّ ما هبت الصّبا ... وإن قطعوا في ذاك عمداً لسانيا.
الطّلاق بين سعة الثّقبة وسرعة الإنزال
طلّق أعرابيٌّ امرأته: فقالت: لم طلّقتني؟ فقال: لأنّك واسعة الثّقبة، حديدة الرّكبة خفيفة الوثبة. فقالت له: وأنت سريع الإراقة، بطيء الأفافة، ثقيلٌ بين اليدين، خفيفٌ بين الرّجلين.
لبنى وقيس بن ذريح
وطلّق قيس بن ذريحٍ امرأته لبنى فندم على ذلك، وقال:
فواكبدي على تسريح لبنى ... فكان فراق لبنى كالخداع
تكنّفني الوشاة فأزعجوني ... فيا للنّاس للواشي المطاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على أمرٍ وليس بمستطاع
كمغبونٍ يعضّ على يديه ... تبيّن غبنه بعد البياع
الحجّاج وابنة عبد الله بن جعفر
وتزوّج الحجّاج ابنة عبد الله بن جعفر، فلمّا دخلت عليه نظر إليها وعبرتها تجود على خدّها، فقال لها: بأبي وأمّي، ممّ تبكين؟ فقالت: من شرفٍ اتّضع، ومن ضعةٍ شرفت. فلمّا كتب إليها عبد الملك بن مروان بطلاقها، قال لها: إنّ أمير المؤمنين امرني بطلاقك. قالت: هو والله أبرّ بي ممّن زوّجك إباي. فلمّا مات أبوها لم تبك عليه، فقيل لها في ذلك، فقالت: والله أنّ الحزن ليبعثني، وإنّ الغيظ ليصمتني.
زينب بنت مرّة والمغيرة
وكانت زينب بنت مرّة عند ابن تميم لها يقال له المغيرة فجرى بينهما عتاب فطلّقها ثلاثاً فقالت:
يا أيّها الرّاكب الغادي مطيّته ... عرج أبثّك عن بعض الذي أجدّ
ما عالج النّاس من وجدٍ ومن كمد ... إلاّ وجدت به فوق الذي وجدوا
حسبي رضاه، وإنّي في مسرّته ... وودّه آخر الأيّام اجتهد.
الإثم لها في الآخرة
كانت عند رجل امرأةٌ يقال لها أم مالك وكان بها معجباً. فأقسمت عليه أمّه أن يطلّقها، فذهب عقله، ونحل جسمه. فحضره الموت، فدخلت عليه أم مالك تعوده، فلمّا ولّت قال لأمّه: يا عجوز ليهنك فقد ابنك في الدّنيا، والإثم لك في الآخرة. ثمّ أنشأ أن يقول:
لنا حاجةٌ في آل مروان دونها ... من النّفر الغرّ الوجوه قبيل
فمت كمداً إنّ كان يومك قد أتى ... أو اصبر على ما خلّيت فقليل
فلمّا خرجت عنه، فاضت نفسه. وما وصلت إلى منزلها حتّى سقطت ميّتة.
ولات ساعة مندم
ٍ
قال إبراهيم بن عقبة: طلّق أعرابيٌّ امرأته وحمله على ذلك عقله فندم. وأنشأ يقول:
إذا ذكرت ليلى ترقرق دمعه ... كأن لم تكن عينٌ بها قبل قرّت
وإنّ ثلاثاً منك لو تعلمينه ... دنت دون حلو العيش حتّى أمرّت
راودها عن نفسها ثمّ تزوّجها
أبو العيناء، عن أبي حمزة الغسّاني قال: نزل أعرابيٌّ من بني أسد ببيت أعرابيّةٍ من بني تميم ضيفاً، فأتته بقرىً حاضرٍ، وماءٍ باردٍ. فجعل ينظر إليها من وراء السّتر، ثمّ راودها عن نفسها، فقالت له: يا هذا أما يقرّعك الإسلام والكرم؟ كل، وإن أردت غير ذلك فارتحل. فقال لها: زوّجيني إذاً نفسك. فقالت له: الأولياء يزوّجونك. فخاف أن لا يزوّجوه للعداوة بين الحيّين، فانتسب إلى بني عذرة فزوّجوه فأقام عندهم زماناً. ثمّ علموا أنّه أسدي فقالوا له: والله إنّك لكفءٌ كريمٌ، ولكن نكره أن تنكح فينا وأنت حربٌ لنا، فحل عن صاحبتنا. وكان يحبّها حبّاً شديداً فطلّقها، وقال:
أحبّك يا عم حبّ الحياة ... ونيل المنى وبلوغ الظّفر
ويعجبني منك عند الّلقاء، ... حياء الكلام، وموت النّظر
ونائي الجبين، شديد البياض، ... كثيف الجوانب، مثل القمر.
له وهجٌ كضرام الحريق، ... يكاد يمزّق جلد الذّكر
قال أبو ذكوان: لم تقل العرب فيما يريده الرّجال من النّساء أحسن من هذا.
عرضوا عليه زواج البصريّة فأبى
قال: خرج محمّد بن المشيري الخارجي إلى البصرة في طلب ميراثٍ له، وبها نفرٌ من قومه. فأقام بها حولاً ينشدهم ويحدّثهم. وكانت امرأةٌ منهم ذات جمالٍ ومالٍ لا يطمع فيها أحد. فقالوا له: يا أبا سلمان هل لك في امرأةٍ منّا، سيّدةٌ في قومها جمالاً وعقلاً، وعفافاً، ورأياً، قد سمعت بمقدمك، فذكرت لها، فزعمت أنّك طلّقت زوجتك التي خلّفتها في بلدك فرغبت فيك، فإن أحببت أقمت عندنا فيما ترى من طيّب بلادنا وربعنا، وعلينا صداقك، وما تحتاج إليه؟ فأقبلوا به وأدبرّوا واجتهدوا فأبى عليهم، وقال في ذلك:
أسائلٌ بالعراق فراق سعدٍ ... ولا تبدي ولا يراها الفراق
لئن ربح الفراق لهجر سعدى ... عليّ أشدّ ما ربح الفراق
إذا عدلوا أقول لهم: لسعدى ... خلائقٌ لا يحلّ لها الطّلاق
حرامٌ أن يقول نساء قومٍ ... تركتك أو تحدث بي الفراق
أهكذا تجازى النّساء؟!
سمعت أعرابيّةٌ تقول لزوجها: يا مفلس، يا قرنان، فقال لها: إن كان ما ذكرت حقاً فواحدةٌ من الله، وأخرى منك، يا زانية، وأنت طالقٌ ثلاثاً.
حرها واسع
خاصمت امرأةٌ زوجها، فطلّقها فقالت له: يا هذا، لم طلّقتني وقد كنت لك ناصحةً، وعليك شفيقةً، وما فيّ عيبٌ إلاّ ضيقٌ بجبهتي؟ فقال لها زوجها: لو كان الضّيق في حرك ما طلّقتك أبداً! .
الأهوازيّة أشدّ ذكاءً
كانت لرجلٍ في الأهواز ضيعةٌ بالبصرة، وكان يتعاهدها في حين الانتفاع بالثّمار. فتزوّج بها امرأةً، وانتهى الخبر إلى امرأته الأهوازيّة فاستخرقت كتاباً على لسان بعض إخوانه بالبصرة يعزيه في البصريّة و يقول: إلحق المال الذي خلّفت ولا تتأخّر. وأعطت الكتاب لبعض الملّاحين وجعلت له جعلاً. فلمّا وصل الكتاب إلى زوجها وجد لموتها وجداً عظيماً، وقال للأهوازيّة: أصلحي لي سفرتي، فإنّي راكبٌ إلى البصرة. ففعلت، فلمّا أصبح الغد ركب فرسه، وأعطته السّفرة، ثمّ قبضت على عنان فرسه وقالت له: ما تكثر اختلافك إلى البصرة إلاّ ولك بها امرأةً تزوّجتها؟ فقال لها: والله مالي بالبصرة امرأةٌ. للذي وقف عليه من الكتاب. فقالت له: لست أدري ما تقول؛ وإنّما تحلف وتقول أيّ امرأةٍ لي غيرك طالقٌ ثلاثاً بقول جميع المسلمين؟ فللذي وقف عليه الرّجل من موت البصريّة قال في نفسه: تلك ماتت، فلم أغير صدر هذه: فقال لها: كلّ امرأةٍ لي غيرك في جميع الأقاليم فهي طالقٌ ثلاثاً بقول جميع المسلمين. فقالت له: لا تتعبن فقد طلّقت الحبيبة. فندم الرّجل، وأسقط ما في يديه.
شعر قيسٍ بعد زواج ليلى
ولمّا تزوّجت ليلى صاحبة قيس بن الملوّح، هام على وجهه مع الوحش، وكان يقول:
لها في سواد القلب تسعة أسهمٍ ... وللنّاس في ذاك المكان عشير
ولست بمحصٍ حبّ ليلى لسائلٍ ... من النّاس إلاّ من يقول كثير.
وتنشر نفسي بعد موتي لذكرها، ... فموت نفسي مرّةُ ونشور.
أتاني بعد ظهر الغيب أن قد تزوّجت، ... فكادت بي الأرض البراح تمور
فقلت، وقد أيقنت أن ليس بيننا ... تلاقٍ، وعيني بالدّموع تفور:
لئن كان تبدي برد إيمانها العلى ... لأفقر منّي أنّني لفقير.
فما أسرع الأخبار أن قد تزوّجت، ... فهل يأتينني بالطّلاق. تشير؟
أيريده فحلاً لبناته
حكى إبراهيم بن محمّد بن عرفة قال: كانت أمّ عبد الملك بن سعيدٍ بن خالدٍ بن عمرو، عند الوليد بن يزيد بن عبد الملك. فمرض سعيدٌ، وهو بالبادية، فعاده، فدخل عليه وعنده أختها سلمى، فستروها، فرأى منها لمحةً ثمّ قامت، فرأى طولها فطلّق أختها وخطبها، فلم يزوّجه إيّاها وكانت أختها أمّ عثمان عند هشامٍ بن عبد الملك، فبعث إلى أبيها: إيّاك أن تزوّج الوليد، تريده أن تتّخذه فحلاً لبناتك يطلّق واحدةً ويتزوّج أخرى؟ فأبى أن يزوّجه. فقال الوليد: العجب من سعيدٍ، خطبت إليه فردّني، ولو قد مات هشامٌ واستخلفت لزوّجنيها، فإن زوّجتها فهي طالق، وإن كنت أهواها. وقد ذكرنا حديثه مستقصىً في موضعه من هذا الكتاب.
هي طالقٌ ألف مرّة
خاصمت امرأةٌ زوجها إلى المطّلب بن حبط المخزومي قاضي المدينة، وكانت قالت له: أسأت إليّ وأوجعتني، ووالله ما أستطيع، فإنّ بنتك تمسي من الجوع والجهد وما أقمن إلاّّ على الوطن. فقال: أنت طالقٌ إن كان لا يقمن إلاّّ على الوطن! فأخبرت القاضي بما قالت، وبما قال. فقال القاضي: بطلب المقادير، وربّ الكعبة، إنّ الأيّل ليكون بالمكان الجدب الخسيس المرعى فتقيم فيه بحبّ الوطن. فقال الزّوج: كأنّ المسألة، أصلح الله القاضي، أشكلت عليك هي طالقٌ ألف مرّة.
طلّقها وندم
وطلّق عليٌّ بن منظور امرأته فندم عليها ندماً شديداً، فقال:
ما للطّلاق فقدته ... وفقدت عاقبة الطّلاق
طلّقت خير خليلةٍ ... تحت السّموات الطّباق
وأحبّت امرأة الأعرابيّ أن تفارقه فقال:
تمنّين الطّلاق وأنت منّي ... بعيشٍ مثل مشرفة الجمال
أحبّ إليه ليلةً طلّق فيها نساؤه
قال خالد بن صفوان: ما بتّ ليلةً أحبّ إليّ من ليلةٍ طلّقت فيها نسائي، فأرجع والسّتور قد هتكت ومتاع البيت قد نقل. فبعثت إليّ بنتي سليلة فيها طعامٌ، وبعثت الأخرى إليّ بفراشٍ أنام عليه.
أو ضيق الفرج أو الطّلاق
وقيل لامرأةٍ كانت تطلّق كثيراً: ما لك تطلّقين أبداً؟ قالت: يريدون الضّيق، ضيّق الله عليهم قبورهم.
طلّقها ثلاثاً
وقال أعرابيٌّ لامرأته:
أنوّهت باسمي في العالمين ... وأفنيت عمري عاماً فعاما
فأنت الطّلاق وأنت الطّلا ... ق وأنت الطّلاق ثلاثاً توأما
حلاوة الجماع
عن عروة بن الزّبير، عن عائشة، رضي الله عنها: أنّ امرأة رفاعة أتت إلى النّبيّ، صلّى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إنّ رفاعة طلّقني، فبتّ طلاقي، وإنّي تزوّجت بعده بعبد الرّحمن بن الزّبير وما معه إلاّ مثل هدبة الثّوب، فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا، حتّى تذوقي عسيلة الزّوج الثّاني ويذوق عسيلتك.
طلّقها عدد شعر مؤخّرتها
دخل مدنيٌّ البصرة، فزوّج فيها امرأةً: ثمّ حصل بينهما شرٌّ، فقال لها: أنت طالقٌ عدد شعر أسّتك. فقالت: قاتلكم الله يا أهل المدينة تسرّعون الطّلاق وتؤثرون الخلاق.
يلتمسون الضّيق ضيّق الله عليهم
قال عبد الرّحمن بن حسّان بن ثابت لعطاءٍ بن صيفيّ الثّقفيّ: لو أصبت ركوةً مملوءةً خمراً بالبقيع ما كنت صانعاً بها؟ قال: أفرّقها في بني النّجّار فإنّها لا تعدوهم. ولكن أخبرني، أيّهما أكبر جدّك ثابت أم جدّتك فريعة؟ قال لا أدري. قال عطاء: الفريعة كانت أكبر، وقد تزوّجتها قبله أربعة أزواجٍ كلّهم يلقاها بمثل ذراع البكر ثمّ يطلّقها. فقيل لها: يا فريعة، لم تطلّقين وأنت بمثل هذا الجمال؟ قالت: يلتمسون الضّيق، ضيّق الله عليهم.
مكابدة العفّة ايسر من الاحتيال
وطلّق أعرابيٌّ زوجته، فقيل له: ألا تتزوّج بعدها؟ فقال: مكابدة العفّة، أيسر من الاحتيال بمصلحة العيال.
ضرط فسخرت منه فطلّقها
تزوّج الفضل بن قطن الحارثيّ ابنة المهلّب بن أبي صفرة. فجلس معها يشرب، فأراد الافتخار عليها فقال:
إن كنت ساقيةً يوماً على كرمٍ ... كأس المدام فأسقيها بني قطن
ثمّ إنّه تحرّك فضرط. فقالت: وأسقي هذه بني قطن أيضاً؟ فخجل وقال: إذهبي فأنت طالق.
طلّقها فتزوّجت رجلاً دميماً
وطلّق عطيّة بن أشجع محجوبة بنت عبد الله، امرأته فزوّجت رجلاً دميماً فقال في ذلك:
لعمري أبي سلمى، ولست بشامتٍ ... بسلمى، فقد أمست بها النّعل زلّت.
وليس لمغفورٌ لسلمى ذنوبها ... وإن هي صامت كلّ يومٍ وصلّت،
ولو ركبت ما حرّم الله لم يكن ... بأعظم عند الله ممّا استحلت؟
الكاذبة الفاجرة الضّارطة
كانت لبعض الصّالحين امرأةً تبغضه، فكان إذا نهاها عن أمرٍ دعت الله أن يريحها منه، وأن يعجّل طلاقها، فأضجرته يوماً فطلّقها، فسجدت لله شكراّ، فقال الرّجل: اللهمّ إنّها وضعت إليك فما ّكاذباً، ووجهاً وقاحاً، ورفعت أستاً مجاهرةً بالفحشاء فاجرةً. فوثب سنور في البيت فأفزعها، فضرطت، فقال: الحمد لله الذي سهّل فرقتك وعجّل فضيحتك.
باب ما جاء في الغيرة
يروى عن عروة بن الزّبير، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت سمعت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقول وهو على المنبر: " لا شيء أغير من الله. " وعن عبد الله بن مسعودٍ أنّه قال: أنّ الله ليغار للمسلم فليغر وعنه، وعن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: " ليس شيءٌ أغير من الله ، من أجل ذلك حرّم الفواحش. " وعن كعب بن مالك أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قال: " الغيرة، غيرتان: فغيرةٌ يحبّها الله، وغيرةٌ يكرهها الله " . قلنا يا رسول الله، ما الغيرة التي يحبّها الله، قال: " أن يغار أن يأتي معاصي الله، وينتهك محارمه " . قلنا وما الغيرة التي يكرهه: قال " أن يغار أحدكم في غير كنهه. " وعن عبد الملك بن عمير بن عبد الله بن بكار أنّه قال: " الغيرة غيرتان: غيرةٌ يصلحها بها الرّجل أهله، وغيرةٌ تدخله النّار " .
ويروى: أنّ سارة كانت تحبّ إبراهيم خليل الرّحمن. فمكثت معه دهراً لا ترزق ولداً، فلمّا رأت ذلك وهبت له هاجر، وكانت أمةً لها قبطيّةً، فولدت لإبراهيم إسماعيل، صلّى الله عليهما، فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها، وعتبت على هاجر. فحلفت لتقطعنّ عضواّ من أعضائها فقال لها إبراهيم، صلّى الله على نبينا وعليه: هل لك أن تبري يمينك؟ قالت: كيف أصنع؟ قال: أثقبي أذنيها وخصّفيها. والخصف هو الخياطة. ففعلت ذلك بها، فوضعت في أذني هاجر قرطين فازدادت حسناً. فقال سارة: إنّي إنّما زدتها جمالاً: فلم تتركه على كونها معه. ووجد بها إبراهيم وجداً شديداً، فنقلها إلى مكّة وكان يزورها في كلّ وقتٍ من الشّام لشغفه بها، وقلّة صبره عنها.
الكلام عن بعد ممنوع
وعن ابن أبي مليكة: أنّ ابن عمرو سمع امرأته تكلّم امرأةً من وراء جدار، بينها وبينها قرابةً لا يعلمها ابن عمرو، قال: فجمع لها جرائد ثمّ أتى فضربها بها.
عادةٌ غير مستحسنةٍ
وعن علقمة: أنّ معاذ بن جبل كان يأكل تفّاحةً ومعه امرأته فدخل علها غلامٌ، فناولته أمرأته تفّاحةً قد أكلت منها فأوجعها ضرباً.
غيرة المرأة على قدر لذّتها
وقال بعضهم: لذّة المرأة على قدر شهوتها، وغيرتها على قدر لذّتها. واستدل بإفراط غيرتها على إفراط حرصها. وهذا القول خطأ قد علمنا أنّ الرّجل أشدّ غيرةً على المرأة من المرأة على الرّجل. وربّما كان الذي يبدو من المرأة عند تسرّي زوجها بالسّراري وتزويجه المهيرات، وحين تراه مع بعضهنّ توهيماً للفعل أنّ ذلك من الطّربة والكراهة المشاركة فيه. وبعض ذلك يكون من طريق الألفة والنّفاسة به، وليس شكل ما تلقى المرأة إذا رأت فراشها، من شكل ما يلقى الرّجل إذا رأى على فراش امرأته رجلاً. لأنّ المرأة قد عاينت أنّ الرّجل له أربع نسوةٍ وألف جاريةٍ يطؤهنّ بملك اليمين، لما أحلّه الله في الشّريعة. وكذلك غيرة فحول الحيوان على إناثها، لأنّ فحل الحيوان يقاتل دونها كلّ فحلٍ يعرض لها حتّى تصير إلى الغالب. قال الرّاجز.
يغار والغيرة في خلق الذّكر والأمم تختلف في الغيرة. فمن الصّقالبة ناسٌ لا يتزوّجون من قربٍ منهم في النّسب ولا الدّار. وإذا مات البعل خنقت المرأة نفسها أسفاً عليه.
والمرأة في الهند إذا مات زوجها وأرادوا حرقه، جاءت ليحرقوها معه.
والدّيلميّ يخرج من الدّيلم إلى حدود ما بين دار الإسلام والدّيلم، ومعه امرأته وإخوانه وعمّاته فيبيعهنّ صفقةً واحدةً، ويسلّمهنّ إلى المبتاع، لا تدمع عينه ولا عينٌ واحدةٍ من عياله.
تكرّم طبرستان من العجائب
وأهل طبرستان لا يتزوّج الرّجل الجارية منهنّ حتّى يستبطن بها حولاً محرّماً ثمّ يقدم بها فيخطبها إلى أهلها ويتزوّجها، ثمّ يزعمون مع ذلك أنّه يجدها بكراً، وقد عانقها في إزارٍ واحدٍ سنةً كاملةً وهو لا يستبطن بها، ويحتمل وحشة الاغتراب، وانقطاع الأسباب. وإنّ من أعجب العجب أن يمكثا متعانقين في لحافٍ واحدٍ يحتجران عن ألّذ الأمور تكرّماً. وهذا التّكرّم عند علوج طبرستان من العجائب.
ثلاث خصالٍ من السّؤدد
قال معاوية، رضي الله عنه: ثلاث خصالٍ من السّؤدد، الصّلع، واندماج البطن، وترك الإفراط في الغيرة.
غيرة قيس بن زهير
ولمّا نزل قيس بن زهير ببعض العرب قال لهم: أنّي غيورٌ، وأنا فخورٌ، وأنا أنفٌ، ولكن لا أغار حتّى أرى، ولا أفخر حتّى افعل، ولا آنف حتّى أضام. فعابوه بقوله لا أغار حتّى أرى ويظنّ به إنّما عني رؤية السّبب لا رؤية المرافقة.
وعابوا معاوية أيضاً بقوله هذا ونسبوه إلى قلّة الغيرة وما أرى في قوله وترك الإفراط في الغيرة عيباً لأنّ الإفراط المجاوز للحقّ ولمقدار المصلحة وظلم الخليلة العفيفة والحرمة الكريمة غير لائقٍ.
وعاب النّاس قول هدبة بن خشرم حيث يقول:
فلا تنكحي إن فرّق الدّهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا
فهذا يأمرها بتزويج الأنزع القليل شعر القفا والوجه.
ولا أرى فيه عيباً أيضاً لأنّ إنّما قال ذلك ليذكّرها جمال نفسه ليزهدها في غيره.
عبد الملك يعيب قولاً على نصيب
وأمّا قول نصيبٍ:
أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ... فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي
فإنّي لم أجد له تأويلاً. وعاب ذلك عليه عبد الملك بن مروان، وقال لجلسائه: أو لو كنتم قائلين هذا البيت ما كنتم تقولون؟ قالوا: لا ندري، فكيف كان أمير المؤمنين قائلاً: قال: كان يقول:
أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي خلّةٍ بعدي
بعض عادات العرب
وكان الرّجل من العرب إذا خرج مسافراً بدأ بالشّجرة يعقد خيطاً على ساقها أو على غصنً من أغصانها، فإذا رجع إلى أهله بدا إلى الشّجرة فنظر إلى الخيط، فإن كان منحلّاً حكم أنّ امرأته خانته، وإن كان على حاله حكم أنّها حفظته.
وأنشد أبو زيدٍ النحويّ:
هل ينفعك اليوم إن همت بهم ... كثرة ما توصي وتعفي والرّتم
والرّتم اسمٌ للخيط الذي يعقد في الخنصر لتذكّر الحاجة.
وكان معاوية بن أبي سفيان يتمثّل بقول الشّاعر:
ومراكبٍ رجع السّلام بكفّه ... ومودّعٍ لم يستطع تسليما
الغيور المتمطّق
وقال آخر:
وأضحى الغيور، أرغم الله أنفه، ... على ملتقانا قائماً يتمطّق
وقد مدّ شدقيه من الغيظ والأذى ... كما مدّ شدقيه الحمار المحنّق
الغيور في نظر الرّاعي
وقال الرّاعي:
وظلّ الغيور آرضاً ببنانه ... كما عضّ برذون على الفاس جامح
لقد رابني أنّ الغيور يودّني ... وأنّ نداماي الكهول الجحاجح
وصدّ ذوات الظّعن عنّي وقد رأت ... كلامي لمراء السّنا الطّوامح؟
ابن الدّمينة وخميص الحشا
وقال عبد الله بن الدّمينة:
ولمّا لحقنا بالحمول، ودوننا ... خميص الحشا تؤذي القميص عواتقه،
عرضنا، فسلمنا، فسلم كارهاً ... علينا، وتبريحٍ من الغيظ خانقه.
فرافقته مقدار ميلٍ وليتني، ... على زعمه، ما دمت حيّاً أرافقه
الدّارميّ لا يفارق عرسه
وقال مسكين الدّارميّ:
وإنّي امرؤٌ لا ألقى إلاّ قاعداً ... إلى جنب عرسي لا أفارقها شبرا
ولا مقسمٌ لا تبرح الدّهر بيتها ... ليجعلها قبل الممات لها قبرا.
إذا هي لم تحصن أمام قناعها، ... فليس بمنجيها بنأيٍ له قصرا،
ولا حاملي ظنّي، ولا قول قائلٍ ... على غيرها، حتّى أحيط بها خبرا.
فهبني امرأً راعيت ما دمت شاهداً ... فكيف إذا ما سرت عن بيتها شهرا؟
وقال مسكين أيضاً:
ألا أيّها الغائر المستشيط، ... على ما تغار إذا لم تغر؟
تعار على النّاس أن ينظروا! ... وهل يغبن للحاصنات النّظر؟
فما خير عرسٍ إذا خفتها ... وبتّ عليها شديد الحذر؟!
تكاد تصفّق أضلاعه ... إذا ما رأى زائراً أو زفر.
فمن ذا يراعي له عرسه ... إذا ضمّه، والمطيّ، السّفر؟
شعراء ماتوا قتلا
ً
وثلاثةٌ من شعراء أولاد العجم ممّن كان مشتهراً بالقول مذكوراً، بالشّعر بالبادية، كلّهم قتلوا منهم: وضّاح اليمن، ويسار الكواعب، وسحيم عبد بني الحسحاس. وإنّما قتلوا كفّاً عن أولئك النّساء، وحفظاً لهنّ، حين رأوا التعرّض، وشنعة تلك الأشعار لا يشغلهم عنها إلاّ قتلهم مخافة أن يكون ذلك القتل يحقّق المقالة القبيحة. ألا ترى أنّ الحجّاج بن يوسف في عتوّه لم يتعرّض لابن نميرٍ في تشبّهه بزينب أخته مخافة أن يكون ذلك سبباً للخوض في ذكرها. فيزيد زائدٌ، ويكثر مكثّرٌ. وكذلك معاوية بن أبي سفيان لم يعترض لعبد الرّحمن بن حسّان بن ثابت وكان يتشبّب بابنته، حتّى قال:
ثمّ حاضرتها إلى القبّة الخضراء ... نمشي في مرمرٍ مسنون
شعر سحيمٍ الإباحيّ
ومن أحقّ بالقتل من سحيم عبد بني الحسحاس؟ حيث يقول:
وبتنا وسادانا إلى علجانةٍ ... وحقفٍ تهاداه الرّياح تهاديا
توسّدني كفّاً وتثني بمعصمٍ ... عليّ، ونحوي رجلها من ورائيا
وهبّت شمالٌ آخر الليل قرّةً ... ولا ثوب إلاّ درعها وردائيا
فما زال ثوبي طيّباً من نسيمها ... إلى الحول حتّى أنهج الثّوب باليا
ومرّوا به ليقتلوه على الذي اتّهم بها، فضحكت، فقال:
فإن تضحكي منّي فيا ربّ ليلةٍ، ... تركتك فيها كالقباء المفرج
كاد يقتلها عقيل المرّي
وحكى العتبيّ، قال: سمع عقيل بن علقمة المرّي بنتاً له ضحكت، فشهقت في آخر ضحكها. فأخذ السّيف وحمل عليها وهو يقول:
فرقت، أنّي رجلٌ فروقٌ، ... من ضحكةٍ آخرها شهيق
قال: فنادت يا أخوتاه! فبادروا فحالوا بينه وبينها.
عقيل وابنته الجرباء
وحكى أبو حاتم السّجستاني عن الأصمعي، قال: كان عقيل بن علقمة غيوراً، وكان الخلفاء يصاهرونه، وكانت له ابنةٌ يقال لها الجرباء. فكان إذا خرج إلى الشّام خرج بها لفرط غيرته. فخرج بها مرّةً وبابنٍ يقال له عميس، فلمّا كانوا بدير سعدٍ قال عقيل:
قضت وطراً من دير سعدٍ وربّما ... غلا غرضٌ ناطحته بالجماجم
ثمّ قال لابنه أجز يا عميس. فقال:
فأصبحن بالموماة يحملن فتيةً ... نشاوي من الإدلاج، ميل العمائم
ثمّ قال لابنته: أجيزي، يا جرباء. فقالت:
كأنّ الكرى أسقاهم صرّ خدية ... عقارٌ تمشّت في المطا والقوائم.
فقال لها: وما يدريك أنت ما نعت الخمر؟ هذه صفةٌ من قد شربها.
وأخذ السّوط فأهوى نحوها، وجاء عميس فحال بينه وبينها، فضربه فأوجعه فرماه عميس بسهمٍ، فشكّ فخذيه فبرك، فمضوا وتركوه حتّى إذا بلغوا أداني المياه منهم، قالوا: اللهمّ أسقطنا جزوراً لنا. فأدركوه وخذوا معكم الماء. ففعلوا، فإذا عقيلٌ بارك وهو يقول:
أنّ ابني زملاني بالدّم ... من يلق أبطال الرّجال يكلم
ومن يكن درءٌ به يقوم ... شنشنةً أعرفها من أخزم
ثمّ زوّجها يزيد بن عبد الملك. وقد ذكرنا خبره في ما مضى.
مقدّمات الغيرة
قال: وممّا يحدث الهوى في قلوب النّساء لغير أزواجهنّ، ويدعوهنّ إلى الحرص على الرّجال، والطّلب لهنّ أمورٌ منها: أن يظهر لها زوجها شدّة الحذر عليها، والاحتفاظ بها، والغيرة في غير موضعها. أو يكون الرّجل منهمكاً في الفساد، مظاهراً لها بالزّنا. فإنّ ذلك ممّا يغريها من طلب الرّجال، والحرص عليهم. كما قال الشّاعر:
ما أحسن الغيرة في حينها، ... وأقبح الغيرة في كلّ حين.
من لم يزل متّهماً عرسه ... متّبعاً فيها لرجم الظّنون،
أوشك أن يغريها بالذي ... يخاف، أو ينصبها للعيون.
حسبك من تحصينها ضمّها ... منك إلى عرضٍ نقيٍّ ودين
لا تطلع منك على ريبةٍ ... فيتّبع المقرون حبل القرين
عبد الله بن رواحة وزوجته
ذكر الشّعبيّ إنّ عبد الله بن رواحة أصاب جاريةً له، فسمعت به امرأته، فأخذت شفرةً فأتته حين قام وقالت له: أفعلتها يا ابن رواحة؟ فقال: ما فعلت شيئاً. فقالت: لتقرأن قرآناً، وإلاّ بعجتك بها. قال: ففكّرت في قراءة القرآن وأنا جنب فهبت ذلك، وهي امرأةٌ غيراء في يدها شفرةً لا آمن أن تأتي بما قالت. فقلت:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا أنشقّ معروفٌ من الصّبح ساطع
أرانا الهدى، بعد العمى، فقلوبنا ... به موقناتٌ، أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه، ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
قال: فألقت السّكّين من يدها، وقالت: آمنت بالله، وكذّبت البصر. قال: فأتيت النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته بذلك، فضحك وأعجبه ما صنعت.
المصيبة في معاتبة المرأة الرّجل
وكان بعض العلماء لشدّة شهوة الباه في قلوب النّساء، وتمكّنه فيهنّ، وشدّة غيرته، يقول: ليس المصيبة في معاتبة الرّجل المرأة، إنّما المصيبة في معاتبتها إيّاه. فإنّها إن نظرت إليه ووقع بقلبها موقع حظوةٍ لم يلبث أن تصير في يده، وتبعث الرّسائل والأشعار والتّحف.
يخاف عليها من عينيها
قال إسحاق: رأيت رجلاً بطريق مكّة، تعادله في المحمل جاريةٌ قد شدّ عينيها والغطا مكشوف، ووجها بادٍ، فقلت له في ذلك. فقال: إنّما أخاف عليها من عينيها، لا من عيون النّاس.
سعيد بن سليمان والإنكشاف
قال سعيد بن سليمان لئن يرى حرمتي ألف رجلٍ على حالٍ يكشف منها، ولا تراهم، أحبّ إليّ من أن ترى حرمتي رجلاً واحداً غير منكشف.
حتّى على العميان
واستأذن ابن أمّ مكتومٍ عل رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وعنده امرأتان من نسائه، فقال لهما: " قوما وأدخلا البيت. " فقالتا: يا رسول الله، هو أعمى، فقال: " أفعمياوان أنتما؟. "
باب تابعٌ لما قبله
وبالرّجال أعظم حاجةٍ إلى أن يعرفوه ويقفوا عليه، وهو الاحتراس من أن يلقى الخبر السّابق إلى السّمع لأنّه إذا ألقي دخل ذلك الخبر السّابق إلى مقرّه دخولاً سهلاً وصادف موضعاً وطيئاً، وطبيعةً قابلةً. ومتى صادف القلب كذلك رسخ رسوخاً لا حيلة في إزالته. ومتى ألقي إلى الفتيات شيءٌ من أمور الفتيان في وقت الغرارة وعند غلبة الطّبيعة وشباب الشّهوة، وعند قلّة الشّواغل، قوي استحكامه، وصعبت إزالته. وكذلك متى ألقي إلى الفتيان شيءٌ من أمورهنّ وهناك سكر الشّباب. فكذلك يكون حالهم، وإنّ الشّياطين ليخلو أحدهم بالغلام الغرير فيقول له لا يكن الغلام فتىً أبداً حتّى يصادف فتىً. فما الماء البارد العذب بأسرع في طباع العطشان من كلمته إذا كان الغلام أدنى هوىً في الفتوّة. وكذلك إذا خلت العجوز بالجارية الحديثة.
وقيل لابنة الحسن: لم زنيت بعبدك ولم تزن بحرٍّ، وما أغراك به؟ قالت: طول السّواد، وقرب الوساد. ولو أنّ قبح النّاس وجهاً، وأخبثه نفراً، وأسقطهم همّةً، قال: لامرأةٍ قد تمكن كلامها وأعطته سمعها: والله يا سيّدتي ويا مولاتي، لقد أتعبت قلبي، وأرقت عيني، وشغلتني عن مهمّ أمري، فما أعقل أهلاً ولا مالاً ولا ولداً. لنقض طباعها، وفتح عقدها ولو كانت أبرع الخلق جمالاً، وأكملهم كمالاً. وإنّما قال عمر رضي الله عنه: أضربوهنّ بالعري لأنّ الثّياب هي الدّاعية إلى الخروج من الأعراس، والقيام في المناجاة، والظّهور في الأعياد. فمتى كثر خروجها لم يعدمها أن ترى من هو من شكل طبعها، ولو كان بعلها أتمّ حسناً والذي رأت أنقض حسناً، لكانت بما لا تملكه أطرف ممّا تملكه. وكانت ممّا لم تملّه وتستكثر منه أشدّ الوجد وهي به أشدّ استقبالاً. كما قال:
وللعين ملعى في البلاد ولم يقد ... هوى النّفس شيئاً كاقتياد الطّرائف
يجوّعهنّ حتّى لا يأشرن
وقيل لعقيل بن علقمة: أما تخاف على بناتك وقد عنسن ولم تزوّجهنّ؟ قال: كلّا، أجوّعهنّ فلا يأشرن، وأعرّيهنّ فلا ينظرن. فوافقت إحدى كلمتيه قول النّبي صلّى الله عليه وسّلم، ووافقت الأخرى قول عمر رضي الله عنه. فإنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: " الصّوم وجاء. " وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: أضربوهنّ بالعري.قال:
هارون البردعي والعطّار
وكان هارون بن عبد الله البردعيّ يقول لأهله: محرّمٌ عليك إن نظرت إلى سائلٍ يقف ببابك، وسمعت حلاوة نغمه. وكان ينهي الباعة إذا دخلوا سكنه عن النّداء على بضائعهم. ورأيته مرّةً يضرب عطّاراً سمعه يترنّم بوصف العطر وكان ينفق بضاعته حسن صوته، فيقول: العود المطريّ، والمحلب واللبان والمسك والعنبر. ويردّد ذلك بصوته فيرجّعه.
فكان النّساء يستمعن إليه ويشرفن من المطالع ويتبعن الأبواب حتّى تصل عيونهنّ إلى النّظر إليه لو أراد الجماع لكفتهن الآذان وربما اشترين منه ما لا يحتجن إليه. قال: فقلت له: يا أبا وائل، فإنّك قد انعم الله بشيءٍ كنت تمنعه! قال: جعلت فداك، إنّما أمنع منعي لنفسي لئلاّ يسمعه من في منزلي. فإنّ النّساء أسرع شيءٍ ذهاب قلوبٍ إلى النّغمة الحسنة، فإن كان معه حسن وجهٍ برئت المرأة من الله أن لم تحتل في صرف قلبه إليها، ويصير الزّوج قوّاداً. قلت: لا، ولا كلّ هذا! قال: فأسألك ألا سألته أن يستعمل هذا الكلام مرّةً أو مرّتين أو ثلاثاً في غير هذه السّكّة. فذبنا به إلى غيرها وجعل العطّار ينادي فما أتمّ الثّالثة حتّى تحرّكت أكتافي له طرباً وجعلت لا أمرّ ولا آجي لمّا سكرت من حسن صوته. فقال: كيف تراه؟ قلت: أراه يستولي على قلوب الرّجال. قال: فكم قلب الرّجل على ترك التّهتك من قلب المرأة؟ هذا إذا كانت بلغت من السّنّ مبلغاً ونقضت شهوتها فأمّا إذا كانت شابّةً ولها فضل جمالٍ، ومعها شدّة شهوةٍ، وكثرة لذّةٍ، وهي ذات حاجة، وخالية الذّرع من الفكرة في المعاش، وخالية القلب، وقد أمنت ضرب الزّوج وتطليقه، وغيرة الأخ، وقلّة صيانة الأب، وأصابت من يشجّعها على فعلها، ويفتح لها أبواب نظرتها، ويسعى لها في طلب الصّدّيق، ويحرّضها على التّهتّك، وقد قرب منها الصّوت، وخلت من الرّقيب، ولم يكن لها في الأرض أشرافٌ، ولا أهل عفافٍ، فما يمرق السّهم من الرّمية كمروق هذه إلى الباطل.
شيئان لا تؤمن عليهما المرأة
وكانت هند بنت المهلّب من عقلاء النّساء وكانت تقول: شيئان لا تؤمن عليهما المرأة: الرّجال، والطّيب.
سوء الظّنّ من شدّة الحبّ
وأنشد إسحاق بن إبراهيم:
وإنّي بها في كلّ حالٍ لواثقٌ ... ولكنّ سوء الظنّ من شدّة الحبّ
لا تأمننّ النّساء
وأنشد آخر:
لا تأمننّ على النّساء ولو أخاً، ... ما في الرّجال على النّساء أمين
كلّ الرّجال وإن تعفّف جهده ... لا بدّ أنّ بنظرةً سيخون
ديك الجنّ وجاريته وغلامه
وقال عبد السّلام بن رغبان المشهور بديك الجنّ شعراً أديباً، ذا همّةٍ حسنةٍ. وكان له غلامٌ كالقمر، وجاريةٌ كالشّمس. وكان يهواهما جميعاً. فدخل ذات يومٍ بوجد الجارية معانقةً للغلام تقبّله، فشدّ عليهما فقتلهما جميعاً. ثمّ جلس عند رأس الجارية فبكاها طويلاً وقال:
يا طلعةً طلع الحمام عليها ... فجنى لها ثمر الرّدى بيديها
حكّمت سيفي في مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خدّيها
رويت من دمها الثّرى ولطالما ... روّى الهوى شفتيّ من شفتيها
فوحق نعليها، وما وطىء الحصى، ... شيءٌ أعزّ عليّ من عينيها
ما كان قتليها لأنّي لم أكن ... أبكي إذا سقط الغبار عليها
لكن بخلت على الأنام بحسنها ... وأنفت من نظر العيون إليها
ثم ّجلس عند رأس الغلام يبكي:
أشفقت أن يرد الزّمان بغدره ... أو أبتلي بعد الزّمان بهجره
قمرٌ أنا استخرجته من دجنةٍ ... لمودّتي وجلوته في خدره
فقتلته وبه عليّ كرامةً ... فلي الحشا وله الفؤاد بأسره
عهدي به ميّتاً كأحسن نائمٍ ... والطّرف يسفح دمعتي في نحره
لو كان يدري الميّت ماذا بعده ... بالحيّ منه بكى له في قبره
غصصٌ تكاد تفيض منها نفسه ... ويكاد يخرج قلبه من صدره
الرّازي وبدر التّمام
وأنشد الرّازي:
أما واهتزازك لو أستطيع ... لما لحظ النّاس بدر التّمام
ومن أين للبدر وجه ميّتٍ ... ويحيى إذا شاء بالابتسام
فهبه حكاك بحسن الضّيا ... فمن أين للبدر حسن القوام؟
أغار على حسنه إذ حكا ... ك وكان بذلك عند الأنام
غيرة أبي تمّام
وأنشد لأبي تمّام:
بنفسي من أغار عليه منّي ... وأحسد مقلةً نظرت إليه
ولو أنّي قدرت طمست عنه ... عيون النّاس من حذري عليه
وأنشد الآخر:
أغار عليك من قلبي ... ولو أعطيتني أملي
وأشفق أن أرى خدّي ... ك نصب مواقع القبل
غيرة جميل بن معمر
ويروى أنّ جميل بن معمر قال لبثينة: ما رأيت مصعب بن الزّبير يخطر بالبلاد إلاّ أخذتني عليك الغيرة.
علي الجعفري وحرارة الهوى
وعن علي بن عبد الله الجعفري، وكان شاعراً وأديباً، قال: كنت أجلس بالمدينة وأنشد أشعاري، فحجّ أبو نواس فلمّا صار إلى المدينة وأنا ذات يومٍ أنشد، والنّاس مجتمعون علي، إذ دخل أبو نواس. فرأيته من بين النّاس ثمّ قال: يا هذا ألا تنشد بيتيك اللذين تكشّحت فيهما؟ فقلت: وما هما. قال: اللذان تقول فيهما:
ولمّا بدا لي أنّها لا تحبّني ... وأنّ هواها ليس عنّي بمنجلي
تمنّيت أن تبلي بغيري لعلّها ... تذوق حرارات الهوى فترقّ لي
قلت: أفلا أنشدك بيتي اللذين أتغاير فيهما؟ قال: بلى. فأنشدته:
ربّما سرّني صدودك عنّي ... وطلابيك وامتناعك منّي
حذراً أن يكون مفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنت التّمني
قال: فسألت عنه. فقيل لي أبو نواس.
لا تسألنّ رجلاً فيم يضرب امرأته؟
قال الأشعث بن قيس نزلت ببعض أصحاب النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فقام إلى امرأته فضربها، فحجزت بينهما. قال: فرجع إلى فراشه، وقال: يا أشعث، احفظ شيئاً سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " لا تسألنّ رجلاً فيم ضرب امرأته؟ " .
أبو الأصبع وبناته الأربع
قال ابن عائشة: كان أبو الأصبع العدوانيّ غيوراً، وكان له أربع بنات، فأبى أن يزوّجهنّ، فقالت واحدةٌ منهنّ: لتقل كلّ واحدةٍ منّا ما في نفسها. فقالت كبراهن:
ألا ليت زوجي من أناسٍ ذوي غنىً ... حديث الشّباب طيّب النّشر والذّكر
لصوقٌ بأكباد النّساء كأنّه ... خليفة جارٍ لا يقيم على الهجر
قلن لها أنت تريدين شابّاً غنيّاً: وقالت الثّانية:
عظيم رماد القدر رحبٌ فناؤه ... له جفنةٌ يشقى بها النّيب والجزر
له خلقان: الشّيب من غير كبرةٍ ... تشين، ولا وانٍ ولا صرع غمر
فقلن لها أنت تريدين سيّداً.
وقالت الثّالثة:
ألا هل تراها مرّةً وخليلها ... يضمّ كبعل المشرفيّ المهنّد
عليه رواءٌ لليسار ورهطه ... إذا ما انتمى من أهل بيتي ومحتدي
فقلن لها أنت تريدين ابن عمٍّ لك قد عرفته.
وقلن للصّغرى: ما تقولين أنت؟ فقالت: لا أقول شيئاً. فقلن لها: لن ندعك لأنّك أطّلعت على أسرارنا وكتمت سرّك. فقالت: لا أدري ما أقول، إلاّ أنّه زوجٌ من عود، خيرٌ من قعود. قال: فخطبن، فزوّجهنّ جميعاً.
لا تكثروا الغيرة على أهلكم
وروي عن سليمان بن داود عليهما السّلام أنّه قال لابنه: يا بني، لا تكثر الغيرة على أهلك من غير ريبةٍ، فترمى بالسّوء من أجلك وإن كانت بريئةً.
باب ما جاء في وصف النّساء
المرأة بين معاوية وصعصعة
قال معاوية لصعصعة: أيّ النّساء أحبّ إليك؟ قال: المواتية لك فيما تهوى. قال: فأيّهن أبغض إليك؟ قال: أبعدهنّ لما ترضى. قال معاوية: هذا النّقد العاجل. فقال صعصعة: بالميزان العادل.
وقال معاوية: ما رأيت نهماً في النّساء إلاّ عرف ذلك في وجهها.
قضاء عمر في المرأة
شكت امرأةٌ إلى زوجها قلّة إتيانه إليها، فقال لها: أنا وأنت على قضاء عمر. قالت: قضى عمر أنّ الرّجل إذا أتى امرأته في كلّ طهرٍ فقد أدّى حقّها.
الشّرّ مجلبةٌ للجّماع
وقع بين امرأةٍ وزوجها شرٌّ فجعل يكثر عليها بالجّماع، فقالت له: أبعدك الله!
اقتلها وعليّ إثمها
جاء رجلٌ إلى علي، رضي الله عنه، فقال له: إنّ لي امرأةً كلّما غشيتها تقول قتلتني. فقال: اقتلها وعليّ إثمها.
غدرت به زوجته فقتلها
غزا ابن هبيرة الغسّاني الحارث بن عمر فلم يصبه في منزله، فأخرج ما وجد له، واستاق امرأته فأصابها في الطّريق، وكانت من الجمال في نهايةٍ، فأعجبت به، فقالت: له أنج فوالله لكأنّي به يتبعك كأنّه بعيرٌ أكل مراراً. فبلغ الخبر الحارث فأقبل يتبعه حتّى لحقه فقتله، وأخذ ما كان معه، وأخذ امرأته. فقال له: هل أصابك؟ فقالت: نعم، والله ما اشتملت النّساء على مثله قط. فلطمها ثمّ أمر بها فوثّقت بين فرسين ثمّ أحضرهما حتى تقطّعت. ثمّ أنشأ:
كلّ أنثى وإن بدا لك منها ... آية الودّ حبّها خيتعور
إنّ من غرّه النّساء بودٍّ ... بعد هذا لجاهلٌ مغرور
رأي الحكماء وغيرهم في المرأة
قال بعض الحكماء: لم تنه قط امرأةٌ عن شيءٍ إلاّ فعلته. للغنوي:
إنّ النّساء متى ينهين عن خلقٍ ... فإنّه واقعٌ لابدّ مفعول
ولغيره:
لا تأمن الأنثى حبتك بودها ... إنّ النساء ودادهنّ مقسّم
اليوم عندك دلّها وحديثها ... وغداً لغيرك كفّها والمعصم
رأي أعرابيٍّ في النّساء
سئل أعرابيٌّ عن النّساء، وكان ذا همٍّ بهنّ، فقال: أفضل النّساء أطولهنّ إذا قامت، وأعظمهنّ إذا قعدت، وأصدقهنّ إذا قالت، التي إذا ضحكت تبسّمت، وإذا جوّدت؛ التي تطيع زوجها، وتلزم بيتها؛ العزيزة في قومها، الذّليلة في نفسها، الولود، التي كلّ أمرها محمود.
الذّنب يساوي الطّلاق
طلّق رجلٌ امرأته، فقالت له: أبعد صحبةً خمسين سنةً قال: ما لك عندنا ذنبٌ غيره؟.
رأي عبد الملك في الجّواري
قال عبد الملك بن مروان: من أراد أن يتّخذ جاريةً للمتعة، فليتّخذها بربريّةً ومن أراد للولد فليتّخذها فارسيّةً؛ ومن أرادها للخدمة فليتّخذها روميّةً.
الأصمعي وبنات العم
ّ
قال الأصمعي: بنات العمّ أصبر، والغرائب أنجب. وما ضرب رؤوس الأبطال كابن عجميّة.
أعوذ بعدلك يا أمير المؤمنين
من جور مروان
ذكر أنّ معاوية بن أبي سفيان جلس ذات يومٍ بمجلسٍ كان له بدمشق على قارعة الطّريق، وكان المجلس مفتّح الجوانب لدخول النّسيم، فبينما هو على فراشه وأهل مملكته بين يديه، إذ نظر إلى رجلٍ يمشي نحوه وهو يسرع في مشيته راجلاً حافياً، وكان ذلك اليوم شديد الحرّ، فتأمّله معاوية ثمّ قال لجلسائه: لم يخلق الله ممّن أحتاج إلى نفسه في مثل هذا اليوم. ثمّ قال: يا غلام سر إليه واكشف عن حاله وقصّته فوالله لئن كان فقيراً لأغنينّه، ولئن كان شاكياً لأنصفنّه، ولئن كان مظلوماً لأنصرنّه، ولئن كان غنياً لأفقرنّه. فخرج إليه الرسول متلقياً فسلّم عليه فردّ عليه السّلام. ثمّ قال له: ممّن الرّجل؟ قال: سيّدي أنا رجلٌ أعرابيٌّ من بني عذرة، أقبلت إلى أمير المؤمنين مشتكياً إليه بظلامةٍ نزلت بي من بعض عمّاله. فقال له الرّسول: أصبحت يا أعرابي؟ ثمّ سار به حتّى وقف بين يديه فسلّم عليه بالخلافة ثمّ أنشأ يقول:
معاوي يا ذا العلم والحلم والفضل ... ويا ذا النّدى والجود والنّابل الجزل
أتيتك لمّا ضاق في الأرض مذهبي ... فيا غيث لا تقطع رجائي من العدل
وجد لي بإنصافٍ من الجّائر الذي ... شواني شيّاً كان أيسره قتلي
سباني سعدى وانبرى لخصومتي ... وجار ولم يعدل، وأغصبني أهلي
قصدت لأرجو نفعه فأثابني ... بسجنٍ وأنواع العذاب مع الكبل
وهمّ بقتلي غير أن منيّتي ... تأبّت، ولم أستكمل الرّزق من أجلي
أغثني جزاك الله عنّي جنّةً ... فقد طار من وجدٍ بسعدى لها عقلي
فلمّا فرغ من شعره قال له معاوية: يا إعرابي إنّي أراك تشتكي عاملاً من عمّالنا ولم تسمعه لنا! قال: أصلح الله أمير المؤمنين، وهو والله ابن عمّك مروان بن الحكم عامل المدينة. قال معاوية: وما قصّتك معه يا أعرابي. قال: أصلح الله الأمير، كانت لي بنت عمٍّ خطبتها إلى أبيها فزوّجني منها. وكنت كلفاً بها لما كانت فيه من كمال جمالها وعقلها والقرابة. فبقيت معها يا أمير المؤمنين، في أصلح حالٍ وأنعم بالٍ، مسروراً زماناً، قرير العين. وكانت لي صرمةً من إبلٍ وشويهات، فكنت أعولها ونفسي بها. فدارت عليها أقضية الله وحوادث الدّهر، فوقع فيها داءٌ فذهبت بقدرة الله. فبقيت لا أملك شيئاً، وصرت مهيناً مفكّراً، قد ذهب عقلي، وساءت حالي، وصرت ثقلاً على وجه الأرض. فلمّا بلغ ذلك أباها حال بيني وبينها، وأنكرني، وجحدني، وطردني، ودفعها عنّي. فلم أدر لنفسي بحيلةٍ ولا نصرةٍ. فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم مشتكياً بعمّي، فبعث إليه، فلمّا وقف بين يديه، قال له مروان: يا أيّها الرّجل لم حلت بين ابن أخيك وزوجته؟ قال: أصلح الله الأمير، ليس له عندي زوجة ولا زوجته من ابنتي قط. قلت أنا: أصلح الله الأمير، أنا راضٍ بالجّارية، فإن رأى الأمير أن يبعث إليها ويسمع منها ما تقول؟ فبعث إليها فأتت الجّارية مسرعةً، فلمّا وقفت بين يديه ونظر إليها وإلى حسنها وقعت منه موقع الإعجاب والاستحسان، فصار لي، يا أمير المؤمنين خصماً وانتهرني، وأمر بي إلى السّجن. فبقيت كأني خررت من السّماء في مكانٍ سحيقٍ، ثمّ قال لأبي بعدي: هل لك أن تزوّجها منّي، وأنقدك ألف دينارٍ، وأزيدك أنت عشرة آلاف درهمٍ تنتفع بها، وأنا أضمن طلاقها؟ قال له أبوها: إن أنت فعلت ذلك زوّجتها منك.
فلمّا كان من الغد بعث إليّ، فلمّا أدخلت عليه نظر إليّ كالأسد الغضبان، فقال لي: يا أعرابي طلّق سعدى. قلت: لا أفعل. فأمر بضربي ثم ردّني إلى السّجن، فلمّا كان في اليوم الثّاني قال: عليّ بالأعرابي. فلمّا وقفت بين يديه، قال: طلّق سعدى. فقلت: لا أفعل. فسلّط عليّ يا أمير المؤمنين خدّامه فضربوني ضرباً لا يقدر أحدٌ على وصفه، ثمّ أمر بي إلى السّجن؛ فلمّا كان في اليوم الثّالث قال: عليّ بالإعرابي، فلمّا وقفت بين يديه قال: عليّ بالسّيف والنّطع وأحضر السيّاف، ثمّ قال: يا أعرابي، وجلالة ربّي، وكرامة والدي، لئن لم تطلّق سعدى لأفرّقنّ بين جسدك وموضع لسانك.
فخشيت على نفسي القتل فطلّقتها طلقةً واحدةً على طلاق السّنّة، ثمّ أمر بي إلى السّجن فحبسني فيه حتّى تمّت عدّتها ثمّ تزوّجها، فبنى بها، ثمّ أطلقني. فأتيتك مستغيثاً قد رجوت عدلك وإنصافك، فارحمني يا أمير المؤمنين. فوالله يا أمير المؤمنين لقد أجهدني الأرق، وأذابني القلق، وبقيت في حبّها بلا عقلٍ، ثمّ انتحب حتىّ كادت نفسه تفيض. ثمّ أنشأ يقول:
في القلب منّي نارٌ ... والنّار فيه الدّمار
والجّسم منّي سقيمٌ ... فيه الطّبيب يحار
والعين تهطل دمعاً ... فدمعها مدرار
حملت منه عظيماً ... فما عليه اصطبار
فليس ليلي ليلٌ ... ولا نهاري نهار
فارحم كئيباً حزيناً ... فؤاده مستطار
اردد عليّ سعادي ... يثيبك الجبّار
ثمّ خرّ مغشيّاً عليه بين يدي أمير المؤمنين كأنّه قد صعق به قال: وكان في ذلك الوقت معاوية متكّئاً، فلمّا نظر إليه قد خرّ بين يديه قام ثمّ جلس، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. اعتدى والله مروان بن الحكم ضراراً في حدود الدّين، وإحساراً في حرم المسلمين: ثمّ قال: والله يا أعرابي لقد أتيتني بحديثٍ ما سمعت بمثله. ثمّ قال: يا غلام عليّ بداوةٍ وقرطاسٍ فكتب إلى مروان: أمّا بعد، فإنّه بلغني عنك أنّك اعتديت على رعيّتك في بعض حدود الدّين، وانتهكت حرمةً لرجلٍ من المسلمين. وإنّما ينبغي لمن كان والياً على كورةٍ أو إقليمٍ أن يغضّ بصره وشهواته، ويزجر نفسه عن لذّاته. وإنّما الوالي كالرّاعي لغنمةٍ، فإذا رفق به بقيت معه، وإذا كان لها ذئباً فمن يحوطها بعده. ثمّ كتب بهذه الأبيات:
ولّيت، ويحك أمراً لست تحكمه ... فاستغفر الله من فعل امرئٍ زاني
قد كنت عندي ذا عقلٍ وذا أدبٍ ... مع القراطيس تمثالاً وفرقان
حتّى أتانا الفتى العذريّ منتحباً ... يشكو إلينا ببثٍّ ثمّ أحزان
أعطي الإله يميناً لا أكفّرها ... حقّاً وأبرأ من ديني ودياني
إن أنت خالفتني فيما كتبت به ... لأجعلنّك لحماً بين عقباني
طلّق سعاد وعجّلها مجهّزةً ... مع الكميت، ومع نصر بن ذبيان
فما سمعت كما بلّغت في بشرٍ ... ولا كفعلك حقاً فعل إنسان
فاختر لنفسك إمّا أن تجود بها ... أو أن تلاقي المنايا بين أكفان
ثمّ ختم الكتاب. وقال: عليّ بنصر بن ذبيان والكميت صاحبيّ البريد. فلمّا وقفا بين يده قال: اخرجا بهذا الكتاب إلى مروان بن الحكم ولا تضعاه إلاّّ بيده. قال فخرجا بالكتاب حتّى وردا به عليه، فسلّما ثمّ ناولاه الكتاب. فجعل مروان يقرأه ويردّده، ثمّ قام ودخل على سعدى وهو باكٍ، فلمّا نظرت إليه قالت له: سيّدي ما الذي يبكيك؟ قال كتاب أمير المؤمنين، ورد عليّ في أمرك يأمرني فيه أن أطلّقك وأجهّزك وأبعث بك إليه. وكنت أودّ أن يتركني معك حولين ثمّ يقتلني، فكان ذلك أحبّ إليّ. فطلّقها وجهّزها ثمّ كتب إلى معاوية بهذه الأبيات:
لا تعجلنّ أمير المؤمنين فقد ... أوفي بنذرك في رفقٍ وإحسان
وما ركبت حراماً حين أعجبني ... فكيف أدعى باسم الخائن الزاني
أعذر فإنّك لو أبصرتها لجرت ... منك الأماقي على أمثال إنسان
فسوف يأتيك شمسٌ لا يعادلها ... عند الخليفة إنسٌ لا ولا جان
لولا الخليفة ما طلّقتها أبداً ... حتّى أضمّنّ في لحدٍ وأكفان
على سعادٍ سلامٌ من فتىً قلقٍ ... حتّى خلّفته بأوصابٍ وأحزان
ثمّ دفعه إليهما، ودفع الجّارية على الصّفة التي حدّث له. فلمّا وردا على معاوية فكّ كتابه وقرأ أبياته ثمّ قال: والله لقد أحسن في هذه الأبيات، ولقد أساء إلى نفسه. ثمّ أمر بالجّارية فأدخلت إليه، فإذا بجاريةٍ رعبوبةٍ لا تبقي لناظرها عقلاً من حسنها وكمالها. فعجب معاوية من حسنها ثمّ تحوّل إلى جلسائه وقال: والله إنّ هذه الجّارية لكاملة الخلق فلئن كملت لها النّعمة مع حسن الصّفة، لقد كملت النّعمة لمالكها. فاستنطقها، فإذا هي أفصح نساء العرب. ثمّ قال: عليّ بالأعرابي.
فلمّا وقف بين يديه، قال له معاوية: هل لك عنها من سلوٍ، وأعوّضك عنها ثلاث جوارٍ أبكارٍ مع كلّ جاريةٍ منهنٍ ألف درهمٍ، على كلّ واحدةٍ منهنّ عشر خلعٍ من الخزّ والدّيباج والحرير والكتّان، وأجري عليك وعليهنّ ما يجري على المسلمين، وأجعل لك ولهنّ حظاً من الصّلات والنّفقات؟ فلما أتمّ معاوية كلامه غشي على الأعرابيّ وشهق شهقةً ظنّ معاوية أنّه قد مات منها. فلّما أفاق قال له معاوية: ما بالك يا أعرابي؟ قال: شرّ بالٍ، وأسوأ حالٍ، أعوذ بعد لك يا أمير المؤمنين من جور مروان. ثمّ أنشأ يقول:
لا تجعلني هداك الله من ملكٍ ... كالمستجير من الرّمضاء بالنّار
أردد سعاد على حرّان مكتئبٍ ... يمسي ويصبح في همٍّ وتذكار
قد شفّته قلقٌ ما مثله قلقٌ ... وأسعر القلب منه أيّ إسعار
والله والله لا أنسى محبّتها ... حتّى أغيّب في قبري وأحجاري
كيف السّلوّ وقد هام الفؤاد بها ... فإن فعلت فإني غير كفّار
فأجمل بفضلك وافعل فعل ذي كرمٍ ... لا فعل غيرك، فعل اللؤم والعار
ثمّ قال: والله يا أمير المؤمنين لو أعطيتني كلّ ما احتوته الخلافة ما رضيت به دون سعدى. ولقد صدق مجنون بني عامر حيث يقول:
أبى القلب إلاّ حبّ ليل وبغّضت ... إليّ نساءٌ ما لهن ذنوب
وما هي إلاّ أن أراها فجاءةً ... فأبهت حتّى لا أكاد أجيب
فلمّا فرغ من شعره، قال له معاوية: يا أعرابي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: إنك مقرٌّ عندنا أنّك قد طلّقتها، وقد بانت منك ومن مروان، ولكن نخيّرها بيننا. قال: ذاك إليك، يا أمير المؤمنين. فتحوّل معاوية نحوها ثمّ قال لها: يا سعدى أيّنا أحبّ إليك: أمير المؤمنين في عزّه وشرفه وقصوره، أو مروان في غصبه واعتدائه، أو هذا الأعرابي في جوعه وأطماره؟ فأشارت الجّارية نحو ابن عمّها الأعرابي، ثمّ أنشأت تقول:
هذا وإن كان في جوعٍ وأطمار ... أعزّ عندي من أهلي ومن جاري
وصاحب التّاج أو مروان عامله ... وكلّ ذي درهمٍ منهم ودينار
ثمّ قالت: لست، والله، يا أمير المؤمنين لحدثان الزمان بخاذلته، ولقد كانت لي معه صحبة جميلة، وأنا أحقّ من صبر معه على السّرّاء والضّرّاء، وعلى الشّدّة والرّخاء، وعلى العافية والبلاء، وعلى القسم الذي كتب الله لي معه. فعجب معاوية ومن معه من جلسائه من عقلها وكمالها ومروءتها وأمر لها بعشرة آلاف درهمٍ وألحقها في صدقات بيت المسلمين.
؟الذي جاء شرٌّ من الذي مرّ
قال أبو الخطّاب: كان عندنا رجلٌ أحدبٌ فسقط في بئرٍ فذهبت حدبته وصار آدراً فدخل عليه جيرانه يهنّئونه فقال: الذي جاء شرٌّ من الذي مرّ.
؟أعرابيٌّ يصف رجلاً جميلاً
ذكر أعرابيٌّ رجلاً جميلاً فقال: والله لو أبصرته العيدان لتحرّكت أوتارها، ولو رأته عاتق الخدر لطار خمارها.
وقال بعض الأعراب:
ماذا تظنّ سليمي إن ألمّ بنا ... مرجّل الرّأس ذو بردين مزّاح
خرٌّ عمامته، حلوٌ فكاهته ... في كفّه من رقى إبليس مفتاح
؟رأي عائشة في خطيبة الرّسول
صلّى الله عليه وسلّم
يروى، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خطب امرأةً من كلبٍ فبعث عائشة رضي الله عنها تنظر إليها، فقال لها: " كيف رأيتها " ؟ قالت: ما رأيت طائلاً. قال: " لقد رأيت طائلاً، ولقد رأيت حالاً تجدينها حتى اقشعرّت كل شعرةٍ فيك " . فقالت: وما دونك سترٌ يا رسول الله.
يرى صورته في وجه قتادة
ويروى عن حيّان بن عمير أنّه قال دخلت على قتادة بن ملحان فمرّ رجلٌ في أقصى الدّار فرأيت صورته في وجه قتادة، وذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، مسح وجهه.
ذو النّسب والحسب قريبٌ من الله
وعن عون بن عبد الله، أنّه قال: من كان في صورةٍ حسنةٍ، ونسبٍ، وحسبٍ، ووسّع عليه في الرّزق، كان من خلصاء الله.
إشراق الوجه يجلو البصر
ويروى عن عائشة، رضي الله عنها، أنّها قالت: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله عز وجل، فإن كانوا في القراءة سواء، فأصبحهم وجهاً. وعن ابن عباس أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " النّظر إلى الوجه يجلو البصر؛ والنّظر إلى الوجه القبيح يورث الفلج " .
جمال الوجه فتنةٌ لعباد الله
قال حليّلان المغنّي: دخلت دار هارون الرّشيد فإذا أنا بجاريةٍ خماسيّةٍ، أحسن النّاس وجهاً، على يدها سطران مكتوبان بالغالية، فقرأتهما فإذا هما ممّا عمل في طران الله، فتنة لعباد الله وقال بعضهم: سمعت يحيى بن سفيان يقول: رأيت بمصر جاريةً بيعت بألف دينارٍ، فما رأيت وجهاً قط أحسن من وجهها صلّى الله عليها. قال: فقلت له يا أبا زكريّا، مثلك يقول هذا مع ورعك وفقهك؟ فقال: وما تنكر عليّ من ذلك؟ صلّى الله عليها وعلى كلّ مليحٍ: يا ابن أخي الصّلاة رحمة.
غدرت بزوجها وخانته
قال: خرج شامة بن لؤي بن غالب من مكّة حتّى نزل بعمان على رجلٍ من الأزد.
وكان شامة بن لؤي من أجمل خلق الله، فقراه وبات عنده. فلما أصبح قعد يستنّ فنظرت إليه زوجة الأزدي فأعجبها، فلمّا رمى، مضت إلى سواكه فأخذتها فمصّتها، فنظر إليها زوجها، فحلب ناقةً وجعل في اللبن سمّاً وقدّمه إلى شامة، فغمزته المرأة، فأراق اللبن وخرج يسير. فبينما هو في موضعٍ يقال له خرق الجّميلة أهوت ناقته في عرفجة؟ فانتشلها وفيها أفعى فنهشت مشفريها فحكتها على ساق شامة فمات. فقالت الأزد:
إذا ناقتي حلّت بليلٍ ففارقت ... جملة لمّا أنبتّ منها قرينها
فقلت لها حثّي قليلاً فإنني ... وإيّاك نخفي عبرةً سترينها
غدرت بنا بعد الصّفاء وخنتنا ... وشرّ مصافي خلّةٍ من يخونها
الصّبا تبلسم قلب المحزون
قال سليمان بن أبي سمخ تزوّج رجلٌ من تهامة امرأةً من نجدٍ فلمّا نقلها إليه، قالت له: ما فعلت ريحٌ من نجد كانت تأتينا يقال لها الصبا ما رأيتها ههنا؟ فقال: يحجزها عنّا هذان الجّبلان. فأنشأت تقول:
أيا جبلي نعمان بالله خلّيا ... نسيم الصّبا يخلص إليّ نسيمها
فإنّ الصّبا ريحٌ إذا ما تنفّست ... على قلب محزونٍ تجلّت همومها
أجد بردها أو يشف منّي حرارةً ... على كبدٍ لم يبق إلا صميمها
فرّقهما الفقر وجمعهما معاوية
قال الزّبير حدثني أبي، قال: كان عندنا بالمدينة رجلٌ من قريش كانت له امرأة تعجبه ويعجبها، وكانت تحول بينه وبين طلب الرّزق، وكلّ ذلك يحتمله لشدّة محبّته إيّاها فلمّا ساءت حاله وكثر دينه قال:
إذا المرء لم يطلب معاشاً لنفسه ... شكى الفقر أو لام الصّديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلاًّ وأوشكت ... قلوب ذوي القربى له أن تنكّرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسارٍ أو تموت فتعذرا
ولا ترض من عيشٍ بدونٍ ولا تنم ... وكيف ينام الليل من كان معسرا
وما طالب الحاجات من حيث يبتغي ... من النّاس إلاّ من أجدّ وشمّرا
فلّما أصبح قال لامرأته: أنا، والله أحبّك، ولا صبر لي على ما نحن فيه من ضيق العيش، فجهّزيني. فجهّزته، فخرج حتّى قدم على معاوية بن أبي سفيان فقام بين الصّفّين، فأخبره بحاله، وأنشده الشّعر. فرقّ له، وأمر له بألف دينارٍ وقال له: لقد دلّني حالك على محبّتك لأهلك وكراهيّتك لفراقهم فخذ وانصرف إليهم فأخذها وانصرف راجعاً.
ألا أيّها الغيران
وأنشد الزّبير بن بكار: لجميل بن معمر:
لئن كان في حبّ الحبيب حبيبه ... حدودٌ لقد حلّت علي حدود
ألا أيّها الغيران بي أن أحبّها ... بسخطك ينمو حبّها ويزيد
فلو متّ كان الموت يخلف للهوى ... لها في فؤادي الوجد وهو جديد
وتحسب نسوانٌ إذا جئت زائراً ... بثينة أنّي بعضهّن أريد
فتخبركم عنّا جنوبٌ مضلّةٌ ... وتخبرنا هتف العشيّ برود
إذا بلغتكم حاجةٌ رجعت لنا ... إليكم بأخرى مثلها فيعود
يا حبّذا أمّ الوليد
وأنشد أيضاً لجميل بن معمر العذري:
تمتّعت منكم يا بثين بنظرةٍ ... على عجل والنّاعجات وقوف
فيا حبّذا أمّ الوليد ومربعٌ ... لنا ولها بالمنحنى ومصيف
بثنتان يسترن الوشاح عليهما ... وبطن كطيّ السّابريّ لطيف
أتصرم حبلي يا جميل؟
وأنشداه في مثل ذلك أيضاً:
بثينة قالت يا جميل وسوّدت ... مجال القذى منها بثينة بالكحل
أتصرم حبلي يا جميل وقادني ... إليك الهوى قيد الجنيبة بالحبل
وقالت لقينا ما لقيت من الهوى ... ما مسّ رأس من دهانٍ ولا غسل
أنت طالق
قال عليّ بن المغيرة كانت زينب بنت يوسف بن الحكم بن أبي عقيل أخت الحجّاج بن يوسف لأبيه وأمّها الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعودٍ الثّقفي عند المغيرة بن شعبة فرآها يوماً تتخلّل بكرةً فقال لها أنت طالقٌ والله لئن كان هذا من غذاءٍ لقد جشعت ونهمت، وإن كان من عشاءٍ لقد أنتنت وقذرت، فقالت قبّح الله الذواق والمطلاق ولا يبعد الله، والله ما هو الذي ظننت، ولكنّه استمسك بين أسناني شظيّة من السّواك.
وكان سبب قول النّميري فيها: إنّ أباها يوسف بن الحكم مرض، وكان يزيد معاوية قد ولاّه صدقات الطّائف وأرض الشّراة، فنذرت إن الله عافاه أن تمشي إلى الكعبة معتمرةً من الطّائف، وبين الطّائف ومكّة يومان وليلتان، فمشت ذلك في اثنين وأربعين يوماً، وكانت جميلةً وسيمةً فلقيها النّميري، وهو محمّد بن عبد الله بن نميرٍ الثّقفي، ببطن نعمان فقال:
تضوّع مسكاً بطن نعمان إذ مشت ... به زينبٌ في نسوةٍ عطرات
تهادين ما بين المحصب من منى ... وأقبلن لا شعثاً ولا غبرات
مررن بفخٍّ رائحاتٍ عشيّةً ... يلبّين للرّحمن مؤتجرات
لها أرج بالعنبر الورد فاغم ... تطلّع رياه من الفترات
يخبّئن أطراف البنان من التّقى ... ويمشين شطر الليل معتمرات
وليست كأخرى أوسعت جنب درعها ... وأبدت بنان الكفّ للجّمرات
ومالت تراءى من بعيدٍ فأفتنت ... برؤيتها من راح من عرفات
تقسّمن لبّي يوم نعمان إنّني ... بليت بطرفٍ فاتك اللّحظات
يظاهرن أستاراً ودوراً كثيرةً ... ويقطعن دور اللهو بالحجرات
ولمّا رأت ركب النّميري أعرضت ... وكنّ من أن تلقينه حذرات
دعت نسوةً شمّ العرانين كالدّما ... أوانس ملء العين كالظّبيات
فأبدين لمّا قمن يحجبن زينبا ... بطوناً لطاف الطّيّ مضطمرات
قلت: يعافير الظّباء تناولت ... يناع غصون الورد مهتصرات
فلم ترعيني مثل ركبٍ رأيته ... خرجن من التّعمير معتمرات
وكدت اشتياقاً نحوها وصبابةً ... تقطّع نفسي إثرها حسرات
وغادرت من وجدي بزينب غمرةً ... من الحبّ إنّ الحبّ ذو غمرات
وظل صحابي يظهرون ملامتي ... على لوعة الأشواق والزّفرات
فراجعت نفسي والحفيظة إنّما ... بللت رداء العصب بالعبرات
وقد كان في عصياني النّفس زاجرٌ ... لذي عبرةٍ لو كنّ معتبرات
زينب سبب نفي النّميري وعذابه
قال مسلم بن جندب الهلالي كنت مع عبد الله بن الزّبير بنعمان وغلام ينشد خلفه، وهو يشتمه أقبح الشّتم. فقلت له: ما هذا؟ فقال: دعه فإني تشبّبت بأخت هذا الحجّاج بن يوسف. فلمّا قتل الحجّاج عبد الله بن الزّبير دعا النّاس إلى البيعة، فتأخر محمّد حتّى قام في آخر النّاس ولم يجد من الحضور بدّاً. فلمّا دنا منه قال: أمحمّدٌ؟ قال نعم: قال: أنشدني ما قلت. فأنشدته قصيدتي هذه فقال: لولا أن يقول قائلٌ لضربت عنقك، أنج لا نجوت ولا تعد فقال: لا تعرضت لاسم زينب ما بقيت.
قال: ولما خاف النّميري من الحجّاج عاذ بأبيه يوسف بن الحكم. فلمّا أرسل عبد الملك الحجّاج لقتال ابن الزّبير، قام إليه يوسف بن الحكم وقال له: يا أمير المؤمنين إنّ فتىً منّا ذكر زينب بما يذكر به العربيّ ابنة عمّه، وقد علمت أنّ هذا لم يزل يتقلّب عليه. قال عبد الملك: أليس النّميري؟ قال: بلى، قد سمعت شعره فما سمعت مكروهاً ثمّ أقبل على الحجّاج وقال: لا تعرض له.
ويقال إنّ عبد الملك لمّا بلغه شعر النّميري كتب إلى الحجّاج: قد بلغني ما كان من قول النّميري، فلا تدنه فتقطعه، ولا تقصه فتغره. ولكن أهمله واله عنه. فلم يهجه الحجّاج ومن قوله فيها:
تشتو بمكّة نعمة ... ومصيفها بالطّائف
أكرم بتلك مواقفا ... وبزينب من واقف
ومن شعره فيها أيضاً:
وما أنس من شيءٍ، فلا أنس شاديا ... بمكّة مكحولاً أسيلاً مدامعه
تشرّبه لون الزّرافي في بياضه ... أو الزّعفران خالط المسك أدرعه
ترك زوجته وتعلّق بأروى وقسطا
قال الزّبير بن بكار: حكى الحسن بن علي مولى بني أميّة قال: خرجت إلى الشّام فلمّا كنت بالسّمهاة ودنا الليل رفع لي قصرٌ فأهويت إليه،فإذا أنا بامرأةٍ لم أر قط مثلها حسناً وجمالاً. فسلّمت، فردت عليّ السّلام، قالت: ممّن أنت؟ قلت: من بني أميّة. قالت: مرحباً بك، أنزل، فأنا امرأةٌ من أهلك. فأنزلتني أحسن منزلٍ وبتّ أحسن مبيتٍ.
فلمّا أصبحت قالت: إنّ لي إليك حاجة. قلت ما هي؟ فأشارت إلى ديرٍ، وقالت: إنّ في ذلك الدّير ابن عمّي، وهو زوجي، وقد غلبت عليه نصرانيّةٌ في ذلك الدّير، فتمضي إليه وتعظه. فخرجت حتّى انتهيت إلى الدّير، فإذا برجلٍ في فنائه من أحسن الرّجال وأجملهم. فسلّمت عليه، فردّ وسأل. فأخبرته من أنا، وأين بتّ، وما قالت المرأة. فقال: صدقت، أنا رجلٌ من أهلك من أهل الحارث بن الحكم. ثمّ صاح: يا قسطا. فخرجت إليه نصرانيّةٌ عليها ثياب حبرات وزنانير ما رأيت قبلها ولا بعدها أحسن منها. فقال: هذه قسطا، وتلك أروى، وأنا الذي أقول:
وبدّلت قسطا بعد أروى وحبّها ... كذاك لعمري يذهب الحبّ بالحبّ
وما هي أما ذكرها بنبطيّةٍ ... كبدر الدّجى أوفى على غصنٍ رطب
شاطرته مالها ولم تدعه للسّفر
قال الزّبير بن بكار: حدّثني عبد الملك بن عبد العزيز قال كانت بنت أبي عبيدة بن المنذر بن الزّبير عند أبي بكر بن عبد الرّحمن من محرمه وكان يخدمها وكانت ذات مالٍ، ولا مال له. وكانت تضنّ عنه، فخرج يريد الشّام بطلب الرّزق، فلمّا كان ببعض الطّريق رجع فمرّ بجلسائه بالمصلّى فقالوا: زاد خير. ثمّ دخل عليها فقالت له: أبخيرٍ رجعت؟ فقال لها:
بينما نحن من بلاكث فالقا ... ع سراعا، والعيش تهوي هويّا،
خطرت خطرةً على القلب من ذكراك وهناً، فما استطاع مضيّا
قلت: لبّيك، إذ دعاني لك الشّو ... ق وللحاديين حبّ المطيّا
قالت له: لا جرم والله لأشاطرنّك مالي فشاطرته إيّاه ولم تدعه للسّفر بعد.
منازل الأحبّة الخالية تثير الشّوق
روى إبراهيم بن حسن بن يزيد، عن شيخٍ من ساكني العقيق قال: إنّي لواقفٌ بالعقيق، وقد جاء الحاج، إذ طلعت امرأة على راحلة وحولها نسوة، فنظرنا إليها، فأعجبتنا حالها. فلمّا كانت حذاء قصر سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، عدلت إلينا، ونحن ننظر. فنزلت قصراً من تلك القصور فأقامت فيه ساعةً ثمّ خرجت، فركبت ومضت، وإنّ عينيها لتنقطان دموعاً. فقلت: لأنظر ما صنعت هذه المرأة؟ فدخلت القصر، فإذا كتاب يواجهني في الجّدار، فقرأته فإذا هو:
أليس كفى حزناً لذي الشّوق أن يرى، ... منازل من يهوى معطلةً قفرا؟
بلى، إنّ ذا الشّوق الموكّل بالهوى، ... يزيد اشتياقاً كلّما حاول الصّبرا
وتحته مكتوبٌ: وكتبته آمنة بنت عمر بن عبد العزيز. وكان سفيان بن عاصم زوجها فتوفّي عنها.
شكت إلى الله عقوق أبنائها
ذكروا عن عائشة، رضي الله عنها، أنّها لمّا قدمت البصرة خطبت وبحضرتها الأحنف بن قيس وموسى بن طلحة ورجالٌ من وجوه العرب، فقالت بعقب ذلك: إنّي أتيت أطلب بدم الإمام المذكور برمّته الحرمات الأربع. فمن ردّنا عنه بحقٍّ قبلناه، ومن ردّنا عنه بباطلٍ قاتلناه. فربّما نصر الظالم على المظلوم والعاقبة للمتّقين.
قال لها موسى بن طلحة: قد فهمنا كلامك، فما الأرق حرمات؟ فقالت: حرمة الشّهر، وحرمة البلد، وحرمة الإمامة، وحرمة الختونة، لا يصلح إمراء بعده أبداً. فقال لها الأحنف رحمه الله: إني سائلك ومغلظٌ لك في المسألة فلا تجدين عليّ. أعندك عهدٌ من رسول الله في خروجك هذا؟ قالت: لا. قال لها: أفعندك عهدٌ من رسول الله أنّك معصومةٌ من الخطأ؟ قالت: لا. قال لها: صدقت، أن الله رضي لك المدينة فأبيت إلاّ البصرة، وأمرك بلزوم بيت نبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلّم فنزلت بين الحرسة الضّبي. ألا تخبريني يا أمّ المؤمنين أللحرب قدمت أم للصّلح؟ قالت: بل للصّلح، فقال لها: والله لو قدمت وما بينهم إلاّ الخفق بالنّعال والقذف بالحصبا، ما اصطلحوا على يديك، فكيف والسّيوف على عواتقهم؟ قالت: لقد استغرق حكم الأحنف هجاه أياي، إلى الله أشكون عقوق أبنائي.
أقنعوه فعفا الحجّاج عنهم
ذكروا، أنّه لما قتل الحجّاج عبد الرّحمن بن الأشعث، وأسر من معه، أمر بضرب رقابهم. فقال رجلٌ منهم: أيّها الأمير إنّي أتيت إليك بشيءٍ. قال: وما هو؟ قال: إنّي كنت جالساً يوماً عند عبد الرّحمن فأخذ في عرضك، فناضلته عنك. قال: ومن يشهد لك بذلك؟ فقال رجلٌ من الجّماعة يشهد له بما قال فقال: اتركوه. ثمّ قال للرّجل: أفلا كنت مثله؟ قال له: بغضي فيك لم يدعني أتكلّم فيك بمثل ذلك. فقال: واتركوا هذا لصدقه. ثمّ قام رجلٌ آخر فقال: أيّها الأمير لئن كنّا أسأنا في الخطأ لما أحسنت في العفو. فقال الحجّاج: أفٍّ لهذه الجّيف، أما والله لو كان فيكم من يتكلّم والله ما قتل منكم أحد.
باب يذكر فيه من صيّره العشق إلى الأخلاط والجّنون
خبر فورك المجنون
قال بعضهم: مررت بفورك المجنون وقد أتاه أهله بطبيبٍ، يقال له عبد العزيز، ليعالجه. فسملت وقلت: ما خبرك يا أبا محمّد؟ فقال: خبري والله مع هؤلاء المجانين ظريفٌ. أنا عاشقٌ وهم يظنّون بي جنّة وقد أتوني بهذا الطّبيب ليعالجني. ثمّ أنشأ يقول:
أتوني بالطّبيب فعالجوني ... على أن قيل مجنونٌ غريب
طبيب الأجر فيه عساه يوماً ... من الأيّام يعقل أو يتوب
وما صدقوا الفتى محوي قلبي ... أجلّ من أن يعالجه الطّبيب
وما بي جنّةٌ لكنّ قلبي ... به داءٌ تموت به القلوب
وما عبد العزيز طبيب قلبي ... ولكنّ الطبيب هو الحبيب
خبر المجنون أبي عبد الله
وقال آخر: مررت بمجنونٍ بيده قصبةٌ وفيها عذبةٌ، وهو يقول:
إذا ما رايةٌ رفعت بنجدٍ ... تلقّاها عرابة باليمين
قال فأخذت بيد الغلام الذي كان يتعشّقه فوقفت بين يديه، فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ فقال في ساعةٍ بديهةٍ:
أصبحت منك على شفا جرفٍ ... متعرّضاً لموارد التّلف
وأراك نحوي غير ما ثقةٍ ... متحرّفاً من غير منحرف
يا من أطال بصدّه أسفي ... كلفي عليك أشدّ من أسفي
فورك في جماعة من الصّبيان
وقال بعضهم: اجتزت بفورك المجنون وهو في جماعةٍ من الصّبيان راكبٌ قصبةً، وهو يقول: من كان عاشقاً منكم فيقف في الميمنة، ومن كان معشوقاً فليقف في الميسرة. ووقف هو في القلب، ففكّر وقال:
إلى من أشتكيك إلى من ... إلى كم ترى في قصّتي غير محسن
إلى كم يدوم الهجر والعتب بيننا ... سألتك بالرّحمن ألاّ رحمتني
فيا لائمي في أحمد لو رأيته ... لما لمتني في حبّه، وعذرتني
أتعجب أن قالوا بفورك جنّة ... بنفسي ومالي من هواه أجنني
ثمّ قال: احملوا على بركة الله. فحملت الميمنة على الميسرة، وأخذ كل عاشقٍ معشوقه.
قال ولقيته في يوم خميسٍ في جماعةٍ من الصّبيان، منصرفاً. من تشييع غلامٍ كان يحبّه، وهو يحدّثهم ويلطم خده ويقول: ما أحرّ الفراق؟ فقلت: يا أبا محمّد، من أين أقبلت؟ قال: من تشييع الحجّاج. وبكى، وقال:
هم رحلوا يوم الخميس عشيّةً ... فودّعتهم لمّا استقلّوا وودعوا
فلمّا تولوا ولّت النّفس معهم، ... فقلت: ارجعي قالت: إلى أين أرجع؟
إلى جسدٍ ما فيه لحمٌ ولا دم ... ولا فيه إلا أعظم تتقعقع
وكذّبت فيك الطّرف، والطّرف صادقٌ ... وأسمعت أذني فيك ما ليس أسمع
أخبار علويّة المجنون
قال الحسن بن رفاعة: رأيت علويّة المجنون يوماً وفي عنقه حبلٌ والصّبيان يجرّونه، فلمّا رآني قال: يا أبا عليٍّ بماذا يعذّب الله أهل الجّرائم يوم القيامة؟ قلت: بأشدّ العذاب. قال: فأنا، والله، في أشدّ من عذابه. لو عذّب الله أهل جهنّم بالحبّ والهجر والرّقباء لكان أشدّ عليهم، ثمّ قال:
انظر إلى ما صنع الحبّ ... لم يبق لي جسمٌ ولا قلب
أنحل جسمي حبّ من لم يزل ... من شأنه الهجران والعتب
ما كان أغناني عن حبّ من ... من دونه الأستار والحجب
قال: وحضرته وقد أتوه بطبيبٍ يعالجه، والطّبيب يعاتبه ويقول له: لو تركتني لعالجتك ورجوت أن تبرأ، فقال في ذلك:
أنا منك أعلم أيها المتكلّم ... ما بي أجلّ من الجّنون وأعظم
أنا عاشقٌ، فإن استطعت لعاشقٍ ... برأً مننت به وأنت محكّم
هيهات، أنت لغير ما بي عالمٌ ... وسواك، بالدّاء الذي بي أعلم
دائي دسيسٌ، قد تضمّنه ال ... هوى، تحت الجّوانح ناره تتضّرم
خبر بعض المجانين
قال: ومررت ببعض المجانين وهو جالسٌ وحده متفكّراً، فقلت: ما خبرك؟ قال:
أقول بأعلى الصّوت ما بي جنّة ... وما بي إلا حبّ من ليس ينصف
وما بي جنونٌ غير أنّ بليّتي ... إذا انكشفت منه أرقّ وألطف
بنفسي وأهلي، من أرى الموت جهرةً، ... إذا ما بدا منه البنان المطرّف
شعر فورك في غلامه غلب
قال: وكان فورك يتعشّق غلاماً يسمى غلباً فأتاه بعض إخوانه فقال: إنّي خارج نحو غلب، فهل من حاجةٍ؟ فقال:
نعم أوصيك إن أبصرت غلبًا ... فقبّل وجنتيه وإن تأبّى
وقل هذي وصية مستهامٍ ... إليك قتلته شغفاً وحبّا
وصف ظبية بالعفاف فأكرم
ودخل مهدي على بعض ولاة اليمامة، فسأله الوالي عن مجلسه مع ظبية، واستنشده ما قال فيها من الشّعر. وكان ابن ظبية حاضراً، فأنشده مهديّ بيتين يصفها فيهما بالعفاف. فقام ابنها فنزع عن نفسه جبّة خزٍّ ووشاحاً ألقاهما على مهدي لمّا وصف أمّه بالعفاف.
القيطنون ونكاح الفتيات
قال أحمد بن يحيى: كان القيطنون متملّكاً على أهل المدينة. وكان قد سامهم خسفاً، وشرط عليهم أنّه لا تدخل امرأة على زوجها حتّى يبدأ بها. فزوّج مالك بن عجلان الخزرجي أخته. فلما جهّزها وأراد إهداءها إلى زوجها، وهو قاعدٌ في مجلس الخزرج، إذا خرجت أخته على الحيّ سافرةً. فغضب مالك، ووثب إليها ليتناولها بالسّيف، وقال لها: فضحتني، ونكّست رأسي، وأغضضت بصري. فقالت له: الذي تريد بي أنت شر من هذا وأقبح وأفضح. إن كنت تهديني إلى غير بعلي فيصيبني، فهذا شرٌّ من خروجي سافرةً حاسرةً! فقال مالك: صدقت، وأبيك.
وسكت عنها، فلمّا رجعت إلى خدرها دخل إليها، فقال لها: هل فيك من خير؟ فقالت: أيّ خيرٍ عند امرأةٍ إلاّ أن تناك؟ فقال لها اكتمي ما أريده. قالت: نعم. فشرح لها ما عزم عليه. فلمّا أمست أتتها رسل القيطنون ليأتوه بها، فلبست وتعطّرت وتحلّت، ولبس معها وتعطّر واشتمل على السّيف ومضى معها في جملة نسائها إلى قصر القيطنون. فلمّا خلا بها في مشربة له، ودنا منها تنحّى نساؤها عنها إلاّ مالك وحده، فقال القيطنون: بحقّ التّوراة ألا أمهلتني ساعةً حتّى ترجع نفسي فيها إليّ، وتركت أختي هذه تؤانسني عندك، فإنّي ألفتها من بين أهلي؟ فقال: نعم. فلمّا هدأت ساعةً. قال: تقدّمي إلى فراشك حتى ألحقك. فقام القيطنون إلى باب مشربته فأغلقه، وأتى فراشه. وكشف مالك عن السّيف ثمّ ضربه به حتّى برد. فاجتمع الحيان من الأوس والخزرج فسوّدوه على أنفسهم، وملّكوه، إذ أراحهم من عار الدّهر. وذلّت اليهود بعد ذلك فلم ترفع رأساً.
خبر سلامة الزّرقاء
مع عبد الرّحمن بن أبي عمّار
قال الزّبير بن بكار: كان عبد الرّحمن بن أبي عمّار من عبّاد أهل مكّة، فسمي القسّ من عبادته. فمرّ ذات يومٍ بدار سهل بن عبد الرّحمن بن عوف مولى سلامة الزّرقاء، وهي تغنّي، فسمع غناءها، فبلغ منه كلّ مبلغ، فرآه مولاها وتبيّن ما لحقه، فقال له: هل لك أن تدخل إليها وتسمع منها؟ فامتنع وأبى، فقال له: أنا أقعدك في موضعٍ تسمع من غنائها ولا تراها ولا تراك. ولم يزل به حتّى دخل وسمع غناءها، فأعجبه، فقال له: هل لك أن أخرجها لك؟ فامتنع بعض الامتناع، ثمّ أجابه. فأخرجها إليه، وأقعدها بين يديه، وغنّته، فشغف بها، وشغفت به. وكان أديباً ظريفاً. واشتهر أمره معها بمكّة حتّى سمّوها سلامة القسّ.
وخلا معها يوماً، فقالت له: أنا، والله، أحبّك فقال له: أنا، والله، كذلك. قالت له: أحبّ أن أضع فمك على فمي. قال: وأنا، والله. قالت: فما يمنعك من ذلك، فوالله إنّ الموضع لخالٍ؟ فقال لها: ويحك، إنّي سمعت الله عزّ وجل يقول في كتابه: " الأخلاّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلاّ المتّقين " . وأنا أكره أن تكون خلّة ما بيني وبينك عداوة يوم القيامة. ثمّ نهض وعيناه تذرفان من حبّها وعاد إلى الطّريقة التي كان عليها من النّسك والعبادة. وكان يمرّ في بعض الأيّام ببابها فيرسل إليها بالسّلام فيقال له: أدخل فيأبى. وقال فيها أشعاراً كثيرةً، وغنّته بها. فمنها:
إنّ التي طرقتك بين ركائب ... تمشي بمزهرها وأنت حرام
باتت تعلّلنا، وتحسب أنّنا، ... في ذاك أيقاظ ونحن نيام
حتّى إذا سطع الصّبح لناظرٍ ... فإذا الذي ما بيننا أحلام
قد كنت أعذل في السّفاهة أهلها ... فاعجب بما تأتي به الأيام
فاليوم أعذرهم وأعلم أنّما ... طرق الضّلالة والهدى أقسام
وفيها قوله:
على سلاّمة القلب السّلام ... تحية من زيارته لمام
أحبّ لقاءها، وألوم نفسي، ... كأنّ لقاءها شيءٌ حرام
إذا ما حنّ مزهرها إليها ... وحنّت نحوه، أذن الكرام
فمدّوا نحوها الأعناق حتّى ... كأنّهم وما ناموا نيام
وله فيها أشعار كثيرة تركت ذكرها ها هنا لأنّها مستقصاةٌ من أخبارها في كتاب طبقات المغنّين.
عبد الملك بين عزّة وبثينة
قال: وفدت عزّة وبثينة على عبد الملك بن مروان فلمّا دخلتا عليه انحرف إلى عزّة، وقال لها: أنت عزّة كثير؟ قالت: لست لكثير بعزّة ولكنّي أمّ بكرٍ الضّمريّة. قال أتروين قول كثيرٍ فيك؟
لقد زعمت أني تغيّرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيّر
تغيّر جسمي والخليقة كالتي ... عهدت، ولم يخبر بسرّك مخبر
قالت: لست أروي هذا، ولكنّي أروي غيره حيث يقول:
كأنّي أنادي صخرةً حين أعرضت ... من الصّمّ لو يمشي بها العصم زلّت
صفوحاً فما تلقاك إلاّ بحيلةٍ ... فمن ملّ منها ذلك الوصف ملّت
ثمّ عطف على بثينة فقال لها: ما رأى جميل حين لهج بذكرك بين النّساء كلّهن؟ قالت: الذي رأى فيك النّاس حين جعلوك خليفة من بين رجال العالمين. فضحك حتّى بدت سنٌّ له سوداء، كان يخفيها، وأجزل جائزتهما وقضى حوائجهما.
تغيّر العادات بالنسبة لعلاقة الرّجل بالفتاة
وقال محمّد بن يحيى المدني: سمعت عطاء يقول: كان الرّجل يحبّ الفتاة فيطوف بدارها حولاً كاملاً يفرح إن رأى مرآها، وإن ظفر منها بمجلسٍ تشاكيا وتناشدا الأشعار. فاليوم يشير إليها، وتشير إليه، فإذا التقيا لم يشكوا حبّاً، ولم ينشدا شعراً. وقام إليها كأنّه أشهد على نكاحها أبا هريرة وأصحابه.
هل قبلة المشتاق جناح
وحكى أبو الحسن المدايني قال: هوى بعض المسلمين جاريةً بمكّة فأرادها، فامتنعت عليه. فأنشدها:
سألت الفتى المكّيّ هل في تزاورٍ ... وقبلة مشتاق الفؤاد، جناح؟
فقال: معاذ الله أن يذهب الهوى ... تلاصق أكبادٍ بهنّ جراح
فقالت له: بالله، إنّك سمعته وسألته فأجابك بهذا الجّواب؟ قال: نعم. فزارته وجعلت تقول: إيّاك أن تتعدى ما أمرك به عطاء.
الحسنات يذهبن السيّئات
وروى عبد الرحمن بن نافع، أنّ أبا هريرة سئل عن قول الله عز وجل " الذين يجتنبون كبائر الأثم والفواحش إلا اللمم " . فقال: هي النظرة والغمزة والقبلة. وقال مجاهد: هو الرّجل يلمّ بالذّنب مرّةً ثمّ لا يعود، وبإسنادٍ عن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أنّ رجلاً جاء إليه فقال له: إنّي أخذت امرأةً في البستان فأصبت منها كلّ شيءٍ، إلاّ أنّي لم أنكحها فاصنع ما شئت؟ فسكت عنه، صلّى الله عليه وسلّم. فلمّا ذهب، دعاه فقرأه عليه " أقم الصّلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إنّ الحسنات يذهبن السيئات " الآية.
ما كنت تصنع لو ظفرت بمن تهوى
؟
قيل لأعرابيٍّ: ما كنت تصنع لو ظفرت بمن تهوى؟ قال: كنت أمتّع عيني في وجهها، وقلبي من حديثها، وأستر منها ما لا يحبّه الله ولا يرضى بكشفه إلا عند حلّه. قيل: فإن خفت أن لا تجتمعا بعد ذلك؟ قال: أكل قلبي إلى حبّها، ولا أصير بقبيح ذلك الفعل إلى نقض عهدها.
سبعة يظلّهم الله بظلّه
ويروى عن أبي هريرة، عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: " سبعةٌ يظلّهم الله بظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه: إمامٌ عادلٌ، وشابٌ نشأ في عبادة الله، ورجلٌ قلبه متعلّقٌ بالمسجد حتّى يعود إليه، ورجلان تحابّا في الله اجتمعا على ذلك وتفرّقا عليه، ورجلٌ طلبته ذات منصبٍ وجمالٍ فقال إنّي أخاف الله، ورجلٌ تصدّق بصدقه فلم تعلم شماله ما تسرّ يمينه، ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه " .
الزّبّاء وعمر بن أبي ربيعة
وعن عبد الملك بن قريب الأصمعي قال: بصرت الزّبّاء بعمر بن أبي ربيعة، وهو يطوف بالبيت، فتنكّرت له وفي كفّها خلوقٌ، فمسحته بثوبه، فقال:
أدخل الله ربّ موسى وعيسى ... جنّة الخلد من ملاني خلوقا
مسحت كفها بجيب قميصي ... حين طفنا بالبيت مسحاً رقيقا
لو تجازى القلوب بالودّ أمسى ... قلبها مائلاً إلينا شفيقا
فنظر إليه عبد الله بن عمر في تلك الحالة ينشد الأبيات، فقال: ما هذا زي المحرم وما يحلّ للمحرم أن يقول مثل هذا القول في هذا الموضع فقال: يا أبا عبد الرّحمن قد سمعت منّي ما سمعت، فوربّ هذه البنية، ما حللت إزاري على حرامٍ قط.
ليلى الأخيليّة والحجّاج
قال الهيثم بن عدي دخلت ليلى بنت عبد الله الأخيلية على الحجّاج وعنده وجوه النّاس وأشرافهم. فاستأذنته في الإنشاد، فأذن لها، فأنشدته قصيدةً مدحته بها. فلمّا فرغت من إنشادها، قال الحجّاج لجلسائه: أتدرون من هذه الجّارية؟ قالوا: لا نعلم، أصلح الله الأمير، ولكنّا لم نر امرأةً أكمل منها كمالاً، ولا أجمل منها جمالاً، ولا أطلق لساناً، ولا أبين بياناً، فمن هي؟ قال: هذه هي ليلى الأخيلية صاحبة توبة بن الحمير الذي يقول فيها:
نأتك بليلى دارها لا تزورها ... وشطّ نواها واستمرّ مريرها
ثمّ قال لها: يا ليلى ما الذي رابه من سفورك حيث يقول:
وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
قالت: أصلح الله الأمير، لم يرني قط إلا متبرقعةً وكان أرسل إليّ رسولاً أنّه يلمّ بنا، ففطن الحيّ لرسوله، فأعدّوا له وكمنوا، وفطنت لذلك، فلم يلبث أن جاء، فألقيت، برقعي وسفرت له، فلمّا رأى ذلك أنكره وعرف الشّرّ، فلم يزد أن سلّم عليّ وسأل عن حالي وانصرف راجعاً. فقال الحجّاج لها: لله درّك فهل كانت بينكما ريبة؟ قالت: لا، والذي أسأله أن يصلحك إلى أن قال مرةً قولاً ظننت أنّه خضع لبعض الأمر، فقلت له مسرعةً هذا الشعر. وأنشأت وهي تقول:
وذي حاجةٍ قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحبٌ وخليل
فلا، والذي أسأله صلاحك، ما كلّمني بشيءٍ بعدها استربته حتّى فرّق الدّهر بيني وبينه.
العفاف أيّام زمان
قال أبو عثمان: قد ترى الأعرابيّ، وظاهره ظاهر الجّفاء، فما هو إلاّ أن يعشق حتّى تجده أرقّ من الماء، وألطف من الهواء. ومع ذلك يلقى أحدهم عشيقته فيترشّفها ويعانقها من دون الثّياب ويمنعه التّكرّم ويحجزه الورع عن وطئتها وإن أمكنته. قال ابن هرمة.
ولربّ لذّة ليلةٍ قد نلتها ... وحرامها لحلالها مدفوع
ويقتصرون على الحديث والقبل واللمس.
للعشيق من حبيبته نصفها الأعلى
قال العتيبي: قيل لبعض الأعراب، ما الذي ينال أحدكم من عشيقته إذا خلا بها؟ قال اللمس والقبل والحديث. قال فهل يطؤها؟ قال: بأبي أنت وأمّي ليس هذا عاشقاً هذا طالب ولد.
قال: وكان الشّرط بين العاشق ومعشوقه إذا خلوا أن يكون له نصفها الأعلى من سرّتها إلى قمّة رأسها يصنع فيها ما شاء، ولبعلها من سرّتها إلى أخمصها. وأنشد ابن الأعرابيّ في مثل ذلك:
فللخلّ شطرٌ مطلقٌ من عقاله ... وللبعل شطرٌ ما يرام منيع
وأنشد أبو عمرو بن العلاء في نحوه:
لها نصفان من حلٍ وبلٍ ... ونصف كالبحيرة ما يهاج
يقول نصفها الأعلى لعشيقها طلقٌ، ونصفها الآخر عليه كالبحيرة - فإنّها كانت في الجّاهلية حراماً لا تهاج ولا تركب ولا تمنع من كلأ ولا ماء - وأنشد الأصمعي لبعض ظرفاء العرب يخاطب بعل عشيقته:
فهل لك في البدال أبا زنيم ... وأقنع بالأكارع والعجوب
قال إبراهيم بن بشارة النّاظم: قد يمكن الرجل أن يحتجز عن ذلك ما دام ليس له هنالك إلاّ الحديث والقبلة، فأمّا إذا ترشّفها وعانقها من دون ثيابها فلا بد أن ينعظ وينشط وإذا أنعظ وهو في الإزار معها انتقض العزم، كما قال عبد الرّحمن بن أمّ الحكم:
وكأس ترى بين الإناء وبينها ... قذى العين قد نازعت أم أبان
ترى شاربيها حين يعترونها ... يميلا أحياناً ويعتدلان
فما ظنّ ذا الواشي بأبيض ماجدٍ ... وبيضاء خودٍ حين يلتقيان
دعتني أخا أمّ عمرو ولم أكن ... أخاها ولم أرضع لها بلبان
دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعل الأخوان
عادات أهل طبرستان في الزّواج
وقد ذكرنا: أنّ أهل طبرستان لا تتزوّج الجّارية منهم حتّى يستظهر بها حولاً كاملاً محرّماً ثمّ يقدم بها فيخطبها إلى أهلها ثم يتزوّج بها، ويزعمون مع ذلك أنّهم يجدونها بكراً، وقد عانقها في إزارٍ واحدٍ سنةً تامةً وهو لا يستظهر بها، ويحتمل وحشة الاغتراب، وانقطاع الأسباب إلاّ من عشق غالب. ولا يجوز أن تؤاتيه الجّارية إلا وبها شبه الذي به. وإنّ من أعجب العجب أن يمكثا متعانقين في لحافٍ واحدٍ ثمّ يحتجزان عن الزّنا تكرّماً وتحرّجاً! وهذا التّكرّم عند علوج طبرستان من العجائب.
العقلاء والمجانين
ومن قول سهيل بن هارون: ثلاثةٌ من المجانين وإن كانوا عقلاء: الغضبان، والعزبان، والسّكران. فقال له أبو عبيد الله الخليع: والمنعظ يا أبو عمرو؟ فقال: والمنعظ. وضحك وأنشد:
وما شرّ الثّلاثة أمّ عمرو ... بصاحبك الذي لا تصحبينا
فقيد ثقيف عاشق زوجة أخيه
قال الأصمعي: كان فتىً من ثقيفٍ شديد الحياء، كريماً أديباً، فبينا هو جالس، إذ مرّت به امرأةٌ من أجمل النّساء فلم يتمالك أن قام من الحياء من مجلسه ليعلم من هي، وأين تريد. وقد كلف بها واشتدّ عشقه لها، فاتّبعها حتى دخل منزل أخيه فإذا هي امرأته، فضاق به الأمر ولم يدر ما يصنع، وكتم شأنه، وجعل ما به يزداد كل يومٍ حتّى نحل جسمه، فأنكر شأنه أخوه وأهله وسألوه عمّا به. فلم يخبرهم بشيءٍ من أمره. فدعا أخوه الأطبّاء فعالجوه فلم يغنوا عنه شيئاً، فلمّا أعياهم ما به، وزاد سقمه، سلّمه أخوه إلى الحارث بن كلدة وكان من أطبّاء العرب فنظر إليه الحارث فلم يرى به داءٌ ينكر، غير أنّه ظنّ أنّه عاشق. فخلا به الحارث فسأله، فأبى أن يقرّ له بشيءٍ. فلمّا أعيا الحارث جعل يسأل عن أسمائهم وأسماء نسائهم، والفتى ملقىً بين يديه، كلّما سمّيت امرأةٌ منهم نظر الحارث وجه المريض حتّى جاء اسم امرأة أخيه فارتاح وتنفّس، واغرورقت عيناه بالدّموع. فعلم الحارث أمره، وقال لأخيه: إذهب فجئني بجميع أهليكم، ولا يتخلّف عنّي منهم امرأةً ولا رجلاً، فإنّي قد وقعت على دائه.
فخرج أخوه حتّى أتى أهله، فجميعهم في منزل ونقل الحارث المريض إليهم، وقال: لا يغيبنّ عنه امراةٌ ولا رجلٌ. فلمّا نظر الرّجل إلى امرأة أخيه خفّ عنه بعض ما كان يجده. فعرف الحارث ذلك منه، فأمر بشاةٍ فذبحت، وأخرج كبدها فوضعها على النّار، ثمّ أطعمه منها فأكل ثمّ مزج له شربةً خفيفةً فسقاه، وفعل به ذلك أيّاماً يزيده في كلّ يومٍ شيئاً قليلاً في مطعمه ومشربه. فحسنت حاله، ورجع إليه بعض جسمه.
فلمّا رأى الحارث أنّه قوي بعض القوّة صنع له طعاماً وهيّأ له شراباً ثمّ أحضر الفتى وأخاه فطعما وشربا، وأمر الحارث أخاه أن ينصرف وقام هو ووكّل هو بالفتى من يسقيه ويغنيه، وقال: احفظ حديثه، وكلّ ما يتكلّم به، وحدّثه كلّ حديثٍ تعرفه في العشق وأخبار العشّاق، وأشعارهم. فلمّا أخذ الشّراب في الفتى تغنّى:
أهل ودّّي، ألا سلموا ... وقفوا كي تكلّموا:
أخذ الحيّ حظّهم ... من فؤادي وأنعم
فهمومي كثيرةٌ، ... وفؤادي متيّم
وأخو الحبّ جسمه ... أبد الدّهر يسقم.
فلمّا أصبح الحارث، دعا الموكّل بالفتى فسأله، فعرّفه بكلّ شيءٍ، فحدّثه وأنشد الأبيات التي تغنّى بها. فدعا أخاه فعرّفه إنّه عاشقٌ لامرأته. فقال له: يا أخي أنا أنزل لك عنها وتتزوّجها. فلمّا سمعه الفتى استحيا وخرج هارباً على وجهه، فلم يقفوا له على خبرٍ إلى اليوم فسمّي فقيد ثقيف.
من يفعل مثقال ذرّةٍ خيراً يره
وروى نافع مولى ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: " بينا ثلاثة نفرٍ يمشون إذ أخذهم المطر فأووا إلى غارٍ في جبل. فانحطّ عليهم من الجبل صخرةٌ فانطبقت عليهم، وقال بعضهم: انظروا أعمالاً عملتموها لله صالحةً، فادعوا الله بها. فدعوا الله، تبارك وتعالى، فقال أحدهم: اللهمّ إنّك تعلم أنّه كان لي أبوان شيخان كبيران، وامرأةٌ وصبيان، فكنت أرعى عليهم فإذا رحت إليهم حلبت، وبدأت بوالديّ أسقيهما قبل بنيّ. وإنّي لم آت يوماً حتّى أمسيت، فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فقمت عند رؤوسهما أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما، فجعلوا يتضاغون تحت قدمي، فلم يزل ذلك دأبهم حتّى طلع الفجر. فإن كنت تعلم إنّي فعلت ذلك إبتغاء وجهك، فأفرج عنّا فرجةً نرى منها السّماء. ففرّج الله له فرجةً.
وقال الآخر: اللهمّ إنّك تعلم إنّه كانت لي إبنة عمٍّ فأحببتها كأشدّ ما يحبّ الرّجال النّساء، فطلبت إليها نفسها فأبت حتّى آتيها بمائة دينارٍ، فسعيت حتّى جمعت مائة دينارٍ فجئتها بها، فلمّا قعدت بين رجليها، قالت: يا عبد الله، اتّق الله ولا تفضّنّ الخاتم إلا بحقه. فقمت عنها فإن كنت تعلم إنّي فعلت ذلك إبتغاء وجه ربّك، فأفرج عنّا فرجةً من السّماء. ففرّج الله جلّ ثناؤه فرجةً.
وقال الآخر: اللهمّ إنّك تعلم أنّي استأجرت أجيراً فلمّا قضى عمله، قال: أعطني حقّي. فأعرضت عنه وتركته، ثمّ اشتريت بحقّه بقراً وراعياً لها فجاءني بعد حين، فقال لي: اتّق الله ولا تظلمني، وأعطني حقّي. فقلت له: إذهب إلى تلك البقر وراعيها. فأخذها وذهب، فإن كنت تعلم أنّي فعلت ابتغاء وجهك، فأفرج لنا ما بقي. ففرّجها الله عنهم. "
هذا طالب ولد
قال الأصمعي: قلت لأعرابيّةٍ من بني عذرة: أنتم أكثر النّاس عشقاً فما تعدّون العشق فيكم؟ قالت: الغمزة والقبلة والضمّة. ثمّ قالت:
ما الحبّ إلا قبلةٌ، ... وغمز كف، وعضد.
ما الحبّ إلا هكذا، ... إن نكح الحبّ فسد.
ثمّ قالت: وأنتم يا حضر، كيف تعدّون العشق فيكم؟ قلت: يقعد بين رجليها ويجهد نفسه. فقالت: يا ابن أخي، ما هذا عاشقاً هذا طالب ولد.
السّبيل لدخول المرأة إلى الجنّة
وروي عن عبد الرّحمن بن عوف، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: " إذا صلّت المرأة خمسها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها، دخلت الجّنّة.
راودته عن نفسها فأبى
عرض الحجّاج سجنه يوماً، فأتي برجلٍ فقال له: ما كان جرمك؟ قال: أصلح الله الأمير، أخذني العسس وأنا مخبرك بخبري، فإن يكن الكذب ينجي فالصّدق أولى بالنّجاة. فقال: ما قصّتك؟ قال: كنت أخاً لرجلٍ فضرب الأمير عليه العبث إلى خراسان، فكانت إمرأته تجد بي وأنا لا أشعر، فبعثت إليّ يوماً رسولاً قد جاء كتاب صاحبك فهلمّ لتقرأه. فمضيت إليها، فجعلت تشغلني بالحديث حتّى صلّينا العشاء، ثمّ أظهرت لي ما في نفسها، ودعتني إلى السّوء، فأبيت ذلك. فقالت: والله لئن لم تفعل لأصيحنّ ولأقولنّ أنّك لص. فلمّا أبيت عليها صرخت فخرجت هارباً. وكان القتل أهون عليّ من خيانة أخي. فلقيني عسس الأمير فأخذوني. وأنا أقول متمثّلاً:
ربّ بيضاء ذات دلٍّ وحسن ... قد دعتني لوصلها فأبيت
لم يكن شأني العفاف ولكن ... كنت ندمان زوجها فاستحيت
فعرف صدق حديثه وأمر بإطلاقه.
يعاملها بما يرضي الرّب
قيل لبعض الأعراب، وقد طال عشقه لجاريةٍ: ما أنت صانعٌ لو ظفرت بها ولا يراكما غير الله؟ قال: إذا، والله لا أجعله أهون النّاظرين، لكنّي أفعل بها ما أفعل بحضرة أهلها، حديثٌ يطول، ولحظٌ كليل وترك ما يكره الرّبّ، وينقطع به الحبّ.
ردّ الجّارية ولك الجّنّة
قال محمّد بن عبيد الزّاهد: كانت عندي جاريةٌ فبعتها، فتبعتها نفسي، فسرت إلى مولاها مع جماعة إخوانه، فسألوه أن يقيلني ويربح عليّ ما شاء، فأبى، فانصرفت من عنده مهموماً مغموماً، فبتّ ساهراً لا أدري ما أصنع، فلمّا رأيت ما بي من الجّهد، كتبت اسمها في راحتي، واستقبلت القبلة. فكلّ ما طرقني طارق من ذكرها رفعت يدي إلى السّماء وقلت: يا سيّدي هذه قصّتي. حتّى إذا كان في السّحر من اليوم الثّاني، إذ أنا برجلٍ يدقّ الباب، فقلت: من هذا: أنا مولى الجّارية. ففتحت، وإذا بها. فقال: خذها بارك الله لك فيها! فقلت: خذ مالك والرّبح. فقال: ما كنت لآخذ ديناراً ولا درهماً. قلت فلم ذلك؟ قال: أتاني الليلة في منامي آتٍ فقال: ردّ الجّارية على ابن عبيد الله، ولك الجنّة.
جود عبد الله بن جعفر
وكان عبد الرّحمن بن أبي عمّار فقيه أهل الحجاز قد مرّ بنخّاسٍ معه فتيات، فنظر إليهنّ، فتعلّق بواحدةٍ منهنّ، فاشتد ّوجده بها، واشتهر بذكرها، حتّى أتى إليه عطاء ومجاهد يعذلونه. فلم يكن جوابه إلاّ أن قال:
يلومونني فيك أقوامٌ أجالسهم ... فما أبالي أطال اللوم أم قصرا
فانتهى خبره إلى عبد الله بن جعفر فخرج حاجّاً بسببه، وبعث إلى مولى الجّارية واشتراها منه بأربعين ألفاً، وأمر قيّمة جواريه فحلّتها وزيّنتها. وبلغ النّاس قدومه، فدخلوا إليه للسّلام عليه وفيهم عبد الرّحمن بن عمّار. فلمّا أراد الشّخوص استجلسه، فقال له: ما فعل حبّ فلانة؟ قال: مشوب اللحم و الدّم والمخّ والعظم والعصب. وأمر الجّارية فأخرجت إليه، وقال: هي هذه؟ قال: نعم، أصلحك الله. قال: إنّما اشتريتها لك، فوالله ما دنوت منها، فشأنك بها، فهي لك مباركة. وأمر له بمائة درهمٍ، وقال له: خذ هذا المال لئلّا تهتمّ بها وتهتمّ بك. قال، فبكى عبد الرّحمن فرحاً وقال: يا أهل البيت قد خصّكم الله بأشرف ما خصّ به أحداً من صلب آدم، فلتهنئكم هذه النّعمة، وبارك لكم فيها. فكان هذا الفعل بعض ما اشتهر به عبد الله بن جعفر من الجّود.
الزّنا أنواع
وقيل لأعرابيٍّ: أتعرف الزّنا، قال: وكيف لا. قيل: فما هو؟ قال: مصّ الرّيقة، ولثم العشيقة، والأخذ من الحديث بنصيب. قيل: ما هكذا نعدّه فينا! قال: فما تعدّونه؟ قيل: النّقّ الشديد أن تجمع بين الرّكبة والوريد، وصوتٌ يوقظ النّوام، وفعلٌ يوجب كثيراً من الآثام. قال: لله ما يفعل هذا العدوّ البعيد، فكيف الصّديق الودود.
أخبار أهل العفاف
وقيل لآخر: ما كنت صانعاً لو ظفرت بمن تهوى؟ قال: كنت أطيع الحبّ في لثامها، وأعصي الشّيطان في آثامها، ولا أفسد بضع عشرة سنين فيما يبقى ذميماً عاره، وينشر قبيح أخباره في ساعةٍ تفقد لذّتها. إنّي إذاً لئيمٌ، ولم يلدني كريمٌ.
الحبّ ما لا يغضب الرّب
وقيل لآخر: ما أنت صانعٌ إن ظفرت بمن تحب؟ قال: أحلل ما يشتمل عليه الخمار وأحرّم ما كتمه الإزار، وأزجر الحبّ عمّا يغضب الرّب.
ليلى وقيس بن الملوّح
وقيل لليلى هذا قيسٌ مات لما به من عشقك. قالت: ولقد خفت والله أن أموت بذلك منه. قيل لها: فما عندك حيلةٌ تخفّف ما به؟ قالت: صبري، وصبره، أو يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.
عفراء وعروة بن حزام
وقيل لعفراء، وقد بلغها ما نزل بعروة، فكادت تبوح بسرّها فقيل لها: أما عندك له حيلةٌ تخفّف ما به؟ فقالت: والله، لأنا أسرّ بذلك وأشوق إليه منه، ولكن لا سبيل إلى احتمال العار، ودخول النّار.
ميّة وذو الرّمّة
وقيل لميّة، بعد موت قابوس: ما كان يضرّك لو أمتعته بوجهك قبل موته؟ قالت: منعني من ذلك خوف العار، وشماتة الجّار. ولقد كان بقلبي منه أكثر ممّا كان بقلبه، غير أنّي وجدت ستره أبقى لنا لما في الصّدر من المودّة، وأحمد للعافية.
الأمر ما تصفون، ولكن...
وقيل لابنة ملكٍ من ملوك الفرس، وقد أجهدها عشق رجلٍ من أساورة أبيها: لو روّحت عن قلبك بالاجتماع معه، كفّ ذلك من وجدك. قالت: إنّ الأمر على ما تصفون، ولكن ما عذري إذ هتكت ستري، وأظهرت أمري، عند من لا يلزمه عاري، ويرغمه اشتهاري، والله لا كان هذا أبداً.
عفراء بنت أحمر والحارث بن الشّريد
وحكى السّريّ بن المطّلب قال: كان الحارث بن الشّريد يعشق عفراء بنت أحمر. فلمّا عيل صبره كتب إليها:
صبرت على كتمان حبّك برهةً ... وبي منك في الأحشاء أصدق شاهد
هو الموت إن لم يأتني منك رقعةٌ ... تقوم لقلبي في مقام العوائد
فلمّا وصلت الرّقعة كتبت إليه:
كفيت الذي تخشى وصرت إلى المنى ... ونلت الذي تهوى برغم الحواسد
فوالله لولا أن يقال تظنناّ ... بي السّوء، ما جانبت فعل العوائد
فلمّا وصلت الرّقعة إليه وضعها على وجهه، فلمّا شمّ رائحة يدها شهق شهقةّ فقضى نحبه. فقيل لعفراء ما كان يضرّك لو روّحت عن قلبه وأجبته بزورة؟ قالت: منعني من ذاك قولكنّ عفراء قد صبت إلى الحرث! فوالله لأقتلنّ نفسي من حيث لا يعلم بي أحد إلا الله. فلحقت به سريعاً.
أسماء بنت عبد الله وكامل بن الرّضين
قال العتبي: عشق كامل بن الرّضين أسماء بنت عبد الله بن مسافر الثقيفة، وهي ابنة عمّه، فلم يزل به العشق حتّى صار كالشّن البالي. فلمّا اشتدّ ما به، شكا أبوه إلى أبيها فزوّجها له، فحمل إلى دارها وفيه رمق، فلمّا دخل الدّار، قال: أوأنا بموضعٍ تسمع أسماء كلامي؟ قيل: نعم. فشهق شهقةّ قضى مكانه. فقيل لها: يا أسماء قد مات بغصّة. قالت: والله لأموتنّ بمثلها، ولقد كنت على زيارته قادرة فمنعني قبح ذكر الرّيبة، وسماجة الغيبة. وسقطت بالمرض، فلمّا اشتدّ بها، قالت لأخصّ نسائها: صوّري لي صورته، فإنّي أحبّ أن أزوره قبل موتي. ففعلت. فلمّا رأت الصّورة اعتنقتها وشهقت شهقةً قضت نحبها. فدفنت مع الفتى في قبرٍ واحدٍ.
وكتب على قبرهما:
بنفسي هما ما متّعا بهواهما ... على الدّهر حتّى غيّبا في المقابر
أقاما على غير التزاور برهةً ... فلمّا أصيبا قرّبا بالتزاور
فيا حسن قبرٍ زار قبراً يحبّه ... ويا زورةً جاءت بريب المقادر
أوصاف الهوى
العشق لسعةٌ من جنون
قال العتبي: قال أعرابيٌّ: إن لم يكن العشق ضرباً من السّحر إنّه لسعةٌ من الجّنون.
الهوى والطّلول
وسئلت أعرابيّةٌ عن الهوى، فقالت: هو الهوان غلطٌ باسمه، وإنّما يعرف ما نقول من أبكته المعارف والطّلول.
الهوى والنّار
وسئلت أعرابيّةٌ عن صفة الهوى، فقالت:
الحبّ أوّله ميلٌ تهيم به ... نفس المحبّ فيلقى الموت كاللعب
يكون مبدؤه من نظرةٍ عرضت ... أو مزحةٍ أشعلت في القلب كاللهب
كالنّار مبدؤها من قدحةٍ، فإذا ... تضرّمت أحرقت مستجمع الحطب
وأنشد لأبي جعفر الطّربخيّ:
ليس خطب الهوى بخطبٍ يسيرٍ ... لاينبّئك عنه مثل خبير
ليس أمر الهوى يدبّر بالرّأ ... ي ولا بالقياس والتّفكير
إنّما الحبّ والهوى خطراتٍ ... محدثات الأمور بعد الأمور
الهوى والبلاء
وقال أعرابيٌّ: إنّ الصّبر على الهوى أشدّ من الصّبر على البلاء، كما أنّ الصّبر على المحبوب أشدّ من الصّبر على المكروه.
الهوى والطّبيب
وليم بعض الحكماء على الهوى، فقال: لو كان لذي هوىً اختيارٌ لاختار أن لا هوىً. وأنشد لمجنون ليلى:
أصلّي فلا أدري إذا ما ذكرتها ... أثنتين صلّيت الضّحى أم ثمانيا
أراني إذا صلّيت أقبلت نحوها ... بوجهي وإن كان المصلّى ورائيا
وما بي إشراكٌ ولكنّ حبّها ... وعظم الجوى أعيا الطّبيب المداويا
الهوى والموت
وأنشد لأبي العتاهية:
لا بارك الله فيمن كان يخبرني ... أنّ المحبّين في لهوٍ ولذّات
لموتةٌ تأخذ الإنسان واحدةً ... خيرٌ له من لقاء الموت مرّات
الهوى وأغصانه
وأنشد لأعرابيٍّ:
وللحبّ أغصانٌ تراها نضيرةً ... وفي طعمها للعاشقين ذعاف
رأيت المنايا في عيون أوانسٍ ... تقتّلن أرواحاً وهنّ ضعاف
الهوى المتجدّد
وأنشد:
رأيت الحبّ نيراناً تلظّى ... قلوب العاشقين لها وقود
فلو كانت، إذا فنيت تقضّت ... ولكن مثل ما كانت تعود
كأهل النّار إذ فنيت جلودٌ ... أعيد من الشّقاء لهم جلود
سكينة بنت الحسين وعروة بن أذينة
وركبت سكينة بنت الحسين بن عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنهم مع جواريها، فمرّت بعروة بن أذينة الليثي، وهو في فناء قصر ابن عتبة، فقالت لجواريها: من الشّيخ؟ فقلن لها : عروة. فعدلت إليه فقالت له: يا أبا عامر، تزعم أنّك لم تعشق قط وأنت تقول؟:
قالت: وأبثثتها وجدي فبحت به؛ ... قد كنت عندي تحت السّتر فاستتر
ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: ... غطّي هواك وما ألقى على بصري.
كلّ ما ترى حواليّ من جوارٍ أحرارٍ إن كان خرج الكلام من قلبٍ سليمٍ.
أهل الدّعاوي الباطلة
وأمّا أهل الدّعاوي الباطلة، التي ليست أجسامهم بناحلة، ولا ألوانه بحائلة، ولا عقوله بذاهبة، فهم عند ذوي الفراسة، يكذبون، وعند ذوي الظّرف محرومون. فمن ذلك ما روى العبّاس بن الأحنف، قال: بينما أنا أطوف، إذ بثلاث جوارٍ أترابٍ، فلمّا أبصرنني، قلن هذا العبّاس. ودنت إليّ إحداهنّ، فقالت: يا عبّاس أنت القائل؟:
ماذا لقيت من الهوى وعذابه ... طلعت عليّ بليّةٌ من بابه
قلت: نعم. قالت: كذبت يا ابن الفاعلة، لو كنت كذلك كنت أنا. ثمّ كشفت عن أضاجع معراة من اللحم، فأنشأت تقول:
ولمّا شكوت الحبّ، قالت: كذبتني، ... فما لي أرى الأعضاء منك كواسيا!
فلا حبّ حتّى يلزق الجلد بالحشا ... وتخرس حتّى لا تجيب المناديا.
أحبّ قلبي وما درى بدني
ومن ذلك، ما روي عن إبراهيم بن المهدي قال: دخل عليّ المأمون فقال: بالله يا عم، هل عشقت قط؟ فقلت: نعم. يا أمير المؤمنين، وأنا السّاعة عاشقٌ. قال: وأنت على هذه الجثّة والجسم الكبير عاشق؟ فأنشأ يقول:
لأنّه أصفرٌ منخول ... وجه الذي يعشق معروف
إلى أن قال:
ليس كمن تلقاه ذا ... جثّةٍ كأنّه للذّبح معلوف
فأجابه إبراهيم:
وقائلٍ لست بالمحبّ ولو ... كنت محبّاً لذبت مذ زمن
أحبّ قلبي، وما درى بدني، ... ولو درى، ما أقام في السّمن
وهذان قد ادّعيا المحبّة ففضحهما شاهد النّظر ولم يجز إدّعاؤهما على ذوي المعرفة والنّظر. وقول إبراهيم أحبّ قلبي وما درى بدني من كثرة المحال أن يتعلّق القلب لسببٍ فيسلم الجسم منه على حالٍ، ولكنّه لاستحيائه من ادّعائه اعتذر، فقبح في اعتذاره. وأنشدني بعض المشايخ:
وقائلةٍ: ما بال جسمك لا يرى ... سقيماّ وأجسام المحبّين تسقم؟
فقلت لها: قلبي بحبّك لم يبح ... لجسمي، فجسمي بالهوى ليس يعلم!
والعرب تمدح أهل النّحول، وتذمّ أهل السّمن والجسوم، وتنفيهم عن الأدب، و تنسب أهل النّحول إلى المعرفة وحسن البيان، وأهل السّمن إلى الغباوة وبعد الأذهان.
البطنة تذهب الفطنة
زعموا أن من غلب عليه البلغم غلظ جسمه، وكبر شحمه، وزاد لحمه، وقلّ فهمه، وطال نسيانه، وتعقّد لسانه، لغلبة البلغم على قلبه والرّطوبة على لبّه. ومن كان أغلب مزاجه المرة جفّ جسمه، وقلّ لحمه، وصحّ ذهنه، ودقّ فهمه. وأنّه يستدلّ بها على أحسن أدب ذوي الألباب، وصحّة أذهان ذوي الآداب. لا تكاد تخطي به الفراسة، ولا تكذب فيه الدّلالة لما أخبرتك من غلبة أحد المزاجين على صاحبه واستقراره في مركبه. وربّما أنجب السّمن، وخاب الهزال. ولا يكون ذلك إلا في الفرد النّادر من الرّجال ومن أمثلة العرب في ذلك: " البطنة تذهب الفطنة. "
المغنّية محبوبة والمتوكّل
قال عليّ بن الجّهم: لمّا أفضت الخلافة إلى جعفر المتوكّل على الله، أهدي إليه ابن طاهر من خراسان هديّةً جليلةً فيها جوارٍ، منهنّ جاريةٌ يقال لها محبوبة كانت قد نشأت بالطّائف، وكان لها مولىً قد عنى بها، فبرعت في فنون الأدب، وأجادت الشّعر. وكانت راويةً ظريفةً، مجيدةً للغناء. فقربت من قلب المتوكّل. وغلبت عليه. قال: فخرج عليّ يوماً، وقال لي: يا علي، دخلت السّاعة على قينة وقد كتبت بالمسك على خدّها جعفراً، فما رأيت أحسن منه، فافعل فيه السّاعة شعراً. فأخذت الدّواة والقرطاس، فانقفل عليّ، حتّى كأنّي ما عملت بيتاً قط فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أذنت لمحبوبة أن تقول شيئاً عسى أن ينفتح لي. فأمرها، فقالت مسرعةً، وأخذت العود فجسته، وصاغت لحناً، واندفعت وغنّت:
وكاتبةٍ بالمسك في الخدّ جعفراً، ... بنفسي خطّ المسك، من حيث أثرّا
لئن أودعت سطراً من المسك خدّها، ... لقد أودعت قلبي من الشّوق أسطرا.
فاعجب لمملوكٍ يظلّ مليكه ... مطيعاً له فيما أسرّ وأجهرا
قال عليّ: وغضب عليها مرّة، وكان لا يصبر عنها، فأمر جواري القصر أن لا تكلّمها واحدةً منهنّ. فكانت في حجرتها أيّاماً، وقد تنغّص عيشه لفراقها، فبكرت عليه يوماً، فقال: يا علي. قلت لبّيك يا أمير المؤمنين. قال: رأيت الليلة في منامي كأنّي رضيت عن محبوبة فصالحتها وصالحتني. فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين، أقرّ الله عينك وسرّك. إنّما هي عبيدتك، والسّخط والرّضا بيدك، فوالله، إنّا لفي حديثنا إذ جاءت وصيفةً، فقالت: يا أمير المؤمنين سمعت صوت عودٍ من غرفة محبوبة. قال: فقم بنا يا عليّ ننظر ما تصنع، فنهضنا حتّى أتينا حجرتها، فإذا هي تضرب العود وتغنّي:
أدور في القصر، لا أرى أحداً ... أشكو إليه، ولا يكلّمني
كأنّني قد أتيت معصيةً، ... ليست لها توبةٌ تخلّصني.
فهل شفيعٍ لنا، إلى ملكٍ، ... قد زارني في الكرى فصالحني،
حتّى إذا ما الصّباح لاح لنا، ... عاد إلى هجره فصادمني.
قال: فصاح أمير المؤمنين، وصحت معه. فتلقته وأكّبت على رجله تقبّلها، فقال: ما هذا؟ فقلت: يا مولاي رأيت في ليلتي هذه كأنّك صالحتني، فتعلّلت بما سمعت. قال: فأنا والله قد رأيت مثل ذلك. وقال: يا عليّ أرأيت أعجب من هذا وكيف اتّفق ورجعنا إلى الموضع الذي كنّا فيه. واصطلح. وما زالت تغنّيه هذه الأبيات يومنا ذلك. وازدادت حظوتها عنده حتّى كان من أمره ما كان. فتفرّقت جواريه، فصارت محبوبة إلى الوصيف الكبير، فما زالت باكيةً حزينةً، فدعاها يوماً مع من صار إليه من جواري المتوكّل فأمرهنّ فغنّين. ثمّ أمرها فاستعفته فأبى، فقلن لها: لو كان في حزننا فرحٌ لطال حزننا معك. وجيء بعودٍ فغنّت به:
أيّ عيشٍ يلذّ لي ... لا أرى فيه جعفرا
كلّ من كان ذا ضناً ... وسقامٍ فقد برا
غير محبوبة التي ... ترى الموت يشترى
من أحاديث بني عذرة
ومن ذلك ما حكى جميلٌ بن معمر العذري: أنّه دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: يا جميل حدّثني ببعض أحاديث بني عذرة. فإنّه بلغني إنّهم أصحاب أدبٍ وغزلٍ. قال: نعم يا أمير المؤمنين، أعلمك أنّ آل بثينة انتجعوا عن حيّهم، فوجدوا النّجعة بموضع نازح فظعنوا، فخرجت أريدهم، فبينما أنا أسير إذ غلطت الطّريق وأجنّني الليل فلاحت لي نارٌ، فقصدها حتّى وردت على راعٍ في أصل جبل قد انحنى عنه إلى كهفٍ فيه، فسلّمت، فردّ عليّ السّلام، وقال: أظنّك قد غلطت الطّريق؟ فقلت: أجل. فقال: انزل وبت الليلة فإذا أصبحت وقفت على القصد فنزلت فرحب بي وأكرمني وذبح شاة، وأجّج ناره، وجعل يشوي ويلقي بين يدي، ويحدّثني في خلال ذلك. ثمّ قام بإزارٍ كان معه فوضع به جانب الخبا ومهّد لي محلّاً خالياً فنمت.
فلمّا كان في الليل سمعته يبكي إلى شخصٍ كان معه، فأرقت له ليلتي. فلمّا أصبحت طلبت الإذن فأبى، وقال: الضّيافة ثلاث. فجلست وسألته عن اسمه ونسبه وحاله، فانتسب فإذا هو من بني عذرة، من أشرفهم. فقلت: وما الذي جاء بك إلى هذا؟ فأخبرني أنّه كان يهوى ابنة عمٍّ له، وأنّه خطبها من أبيها فأبى أن يزوّجها إيّاها لقلّة ذات يده، وأنّه تزوّجها رجلٌ من بني كلاب وخرج بها عن الحي، وأسكنها في موضعه. وأنّه رضي أن يكون لزوجها راعياً حتّى تأتيه ابنة عمّه فيراها. وأقبل يشكو قديم عشقه لها، وصبابته بها حتّى أتى المساء، وحان وقت مجيئها. فجعل يتقلقل ويقوم ويقعد، ثمّ وثب قائماً على قدميه، وأنشأ يقول:
ما بال ميّة لا تأتي كعادتها ... أعاجها طربٌ أو صدّها شغل
لكنّ قلبي عنكم ليس يشغله ... حتّى الممات وما لي غيركم أمل
لو تعلمين الذي بي من فراقكم ... لما اعتذرت، ولا طابت لك العلل
نفسي فداؤك، قد أحللت بي سقماً ... تكاد من حرّه الأعضاء تنفصل
لو أنّ ما بي من سقمٍ على جبلٍ ... لزال وانهدّ من أركانه الجبل
ثمّ قال لي: اجلس، يا أخا بني عذرة، حتّى أكشف خبر ابنة عمّي. ثمّ مضى فغاب عن بصري، فلم ألبث أن أقبل وعلى يديه محمول، وقد علا شهيقه ونحيبه، فقال: يا أخي هذه ابنة عمّي أرادت زيارتي فاعترضها الأسد فأكلها. ثمّ وضعها بين يديّ، وقال: على رسلك، حتّى أعود إليك. فغاب عن نظري فأبطأ، حتّى آيست من رجوعه، فلم ألبث أن أقبل ورأس الأسد على يديه فوضعه ثمّ، قال: يا أخي إنّك ستراني ميّتاً فاعمد إليّ وإلى ابنة عمّي فأدرجنا في كفنٍ واحدٍ، وأدفنّا في قبرٍٍ واحدٍ، واكتب على قبرنا هذين البيتين:
كنّا على ظهرها والعيش في مهلٍ ... والشّمل يجمعنا والدّار والوطن
ففرّق الدّهر بالتّصريف إلفتنا ... فصار يجمعنا في بطنها الكفن
وردّ الغنم إلى صاحبها، وأعلمه بقصّتها.
ثمّ عمد إلى خناقٍ وطرحه في عنقه، فناشدته الله لا تفعل، فأبى وخنق نفسه حتّى مات. فلمّا أصبحت كفّنتهما ودفنتهما وكتبت الشّعر كما أمر، ورددت الغنم إلى صاحبها وأعلمته بقصّتهما، فحزن حزناً خفت عليه الهلاك أسفاً على ما فرّط من عدم اجتماعهما.
طعم العشق
وقد روي عن محمّد بن جعفر بن الزّبير، قال: كنّا عند عروة بن الزّبير وعنده رجلٌ من بني عذرة. فقال له: يا عذري بلغني أنّ فيكم رقّةً وغزلاً فأخبرني ببعض ذلك؟ فقال: لقد خلف في الحيّ ثلاثين مريضاً ما بهم داءٌ إلاّ الحب قد خامر قلوبهم وأنّ فيه من المرارة والنّكد والكمد ما هو مستعذبٌ عند أربابه، مستحسنٌ عند أصحابه، حلوٌ لا تعدّ له حلاوةٌ، ومرٌّ لا تعدّ له مرارةٌ. قال الكميت بن زيد في ذلك:
الحبّ فيه حلاوةٌ ومرارةٌ ... سائلٌ بذلك من تطعّم أو ذق
ما ذاق بؤس معيشةٍ ونعيمها ... فيما مضى أحدٌ إذا لم يعشق
وقال آخر:
يا أيّها الرّجل المعذّب بالهوى ... إنّي بأحوال الهوى لعليم
الحبّ صاحبه يبيت مسهّداً ... فيطير منه فؤاده ويهيم
والحبّ داءٌ قد تضمّنه الحشا ... بين الجوانح والضّلوع مقيم
والحبّ لا يخفى وإن أخفيته ... إنّ البكاء على الحبيب يدوم
والحبّ فيه حلاوةٌ ومرارةٌ ... والحبّ فيه شقاوةٌ ونعيم
والحبّ أهون ما يكون مبرّحٌ ... والحبّ أصغر ما يكون عظيم
وأنشدني أحمد بن يحيى:
سلني عن الحبّ يا من ليس يعلمه ... ما أطيب الحبّ لولا أنّه نكد
طعمان حلوٌ ومرٌّ ليس يعدله ... في حلق ذائقه مرٌّ ولا شهد
وأنشد أبو الطّيّب:
سلني عن الحبّ يا من ليس يعلمه ... عندي من الحبّ إن ساءلتني خبر
إنّي امرؤٌ بالهوى ما زلت مشتهراً ... لاقيت فيه الذي لم يلقه بشر
الحبّ أوّله عذبٌ مذاقته ... لكنّ آخره التّنغيص والكدر
عروة بن حزام يموت ملوّعاً
وذكر ابن عتيق، قال: بينما أنا أسير في أرض بني عذرة، إذ أنا ببيتٍ جديدٍ، فدنوت منه، فإذا بعجوزٍ تعلّل شابّاً قد نهكته العلّة، وبانت عليه الذّلّة. فسألتها عن خبره، فقالت: هذا عروة بن حزام. فدنوت منه، فسمعته يقول:
من كان من إخواننا باكياً لغدٍ ... فاليوم، أنّي أراني اليوم مقبوضا
فقلت: أنت عروة بن حزام؟ قال: نعم، الذي أقول:
جعلت لعرّاف اليمامة حكمه ... وعرّاف نجدٍ إن هما شفياني
فقالا: نعم، تشفى من الدّاء كلّه. ... وقاما مع العوّاد يبتدراني.
فما تركا من سلوةٍ يعلمانها، ... ولا شربةٍ إلاّ وقد سقياني.
فقال: شفاك الله، والله مالنا، ... بما حملت منك الضّلوع، يدان
فويلي على عفراء ويلاً كأنّه ... على النّحر والأحشاء حدّ سنان،
فعفراء أصفى النّاس عندي مودّةً ... وعفراء عندي المعرض المتواني.
ثمّ شهق شهقةً توهّمت أنّها غشية فتنحّيت عنه، ودنت العجوز فوجدته قد قضى نحبه. فما برحنا حتّى دفنّاه.
لا ذنب على أهل الهوى
وبلغ العشق أيضاً مجنون عامر إلى ما ذكرناه في موضعه. قال بعضهم: سمعت أعرابيّةً تطوف وهي تقول اللهمّ مالك يوم القضا، وخالق الأرض والسّماء، ارحم أهل الهوى، وأنقذهم من عظيم البلا، فإنّك تسمع النّجوى، قريبٌ لمن دعا. ثمّ أنشأت تقول:
يا ربّ إنّك ذو منٍّ وذو سعةٍ ... دارك بعافيةٍ منك المحبّينا
الذّاكرين الهوى من بعد ما رقدوا ... حتّى نراهم على الأيدي مكبّينا
فقلت لها: يا هذه أيقال هذا في الطّواف؟ فقالت: إليك عنّي، لا يرهقك الحبّ. فقلت: وما الحبّ؟ فقالت: جلّ أن يخفى، ودقّ على أن يرى: له كمونٌ ككمون النّار في الحجر، إن قدحته أروى، وإن تركته توارى. قال: فتبعتها حتّى عرفت منزلها، فلمّا كان من غدٍ جاء مطرٌ شديدٌ فمررت ببابها وهي قاعدةٌ مع أترابٍ لها، وهنّ يقلن لها: أضرّ بنا المطر، ولولا ذاك لخرجنا إلى الطّواف فأنشأت تقول:
قالوا أضرّ بنا السّحاب بقطره ... لمّا رأزها بعبرتي تحكي،
لا تعجبوا ممّا ترون، فإنّما ... تلك السّماء لرحمتي تبكي.
وقد زعم قومٌ أنّه لا ذنب على أهل الهوى، ولا وزر على ذوي الضّنا. إنّ خطاياهم تنمحي عنهم لطول بلائهم، وكثرة شقائهم،ولما يلقون من القلق، ويعانون من الأرق.
لو أدرك عمر عفراء وعروة لجمعهما
أبو الحسن الميداني عن الأصمعيّ قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: لو أدركت عفراء وعروة، لجمعت بينهما.
العرجيّ المحتال
قال الزّبير بن بكار: كان العرجيّ وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، يعشق أمّ الأوقص المخزومي القاضي، وهي امرأةٌ من بني تميم، فكان يتعرّض لها، فإذا رأته رمت بنفسها وتستّرت منه. فمرّ بها يوماً وهي في بعض نسوةٍ وهنّ يتحدّثن، فعرفها فأحبّ أن يراها عن قربٍ، فعدل عنها ولقي أعرابيّا راكباً معه لبنٌ رطبٌ، فدفع دابّته وثيابه وأخذ قعوده ولبنه، ولبس ثيابه، ثمّ أقبل على النّسوة. فصحن يا أعرابيّ: عندك لبن؟ قال: نعم ومال إليهنّ، وجلس يتأمّل التّميميّة وينظر أحياناً إلى الأرض كأنّه يطلب شيئاً. وهنّ يشربن من اللبن، فقالت له امرأةٌ منهنّ: أيّ شيءٍ تطلب يا أعرابيّ أضاع منك في الأرض؟ قال: نعم قلبي: فلمّا سمعت التّميميّة كلامه نظرت إليه، وكان أزرق، فعرفته، وقالت: ابن عمر، وربّ الكعبة. ووثبت فسترها نساؤها، وقلن له انصرف عنّا، لا حاجة لنا إلى لبنك. فمضى منصرفاً.
أهل العشق صحيح مساكين
قال العتبيّ: سمعت أعرابيّةً تقول: مسكين العاشق، كلّ شيءٍ عدوّه: هبوب الرّيح تقلقه، ولمعان البرق يؤرقه، ورسوم الدّيار تحرقه، والعذل يؤلمه، والتّذكير يسقمه. إذا دنا الليل منه هرب النّوم عنه، ولقد تداويت بالقرب والبعد فما أنجح فيه دواء. ولقد أحسن الذي يقول:
بكلٍّ تداوينا فلم يشف ما بنا ... على أنّ قلب الدّار خيرٌ من البعد
داؤهما دواؤهما
وقال أعرابيٌّ: إنّ لي عيناً دموعاً، وقلباً مروّعاً، فماذا يصنع كلّ واحدٍ منهما بصاحبه مع أنّ داؤهما دواؤهما، وسقمهما شفاؤهما.
البعيدة القريبة
وذكر أعرابيٌّ وجده بامرأةٍ فقال: ما ازدادت منّي بعداً إلاّ ازددت بها قرباً.
بعدها دهرٌ والسّاعة شهرٌ
وذكر أعرابيٌّ امرأةً كان يواصلها في شبابه، فقال: ما كانت أيّامي معها إلاّ كأباهيم القطا قصرا، ثمّ طالت بعدها شوقاً إليها، وأسفاً عليها، فاليوم بعدها دهر، والسّاعة شهر.
رعت لعيسى الود
ّ
قال أبو بكر بن دريد: كانت امرأةٌ من لخمٍ يقال لها سعدى تهوى ابن عمٍّ لها، يقال له عيسى. فلمّا خشي أهلها الفضيحة قالوا لها: إن نطقت فيه بشعرٍ قطعنا لسانك. فعندها قالت:
خليليّ إن أصعدتما أو هبطتما ... بلاداً هوى نفسي بها فأذكرانيا
ولا تدعا إن لامني ثمّ لائمٌ ... على سخط الواشين أن تعذرانيا
فقد شفّ جسمي بعد طول تجلّدي ... أحاديث عن عيسى تشيب النّواصيا
سأرعى لعيسى الودّ ما هبت الصّبا ... وإن قطعوا في ذاك عمداً لسانيا.
الطّلاق بين سعة الثّقبة وسرعة الإنزال
طلّق أعرابيٌّ امرأته: فقالت: لم طلّقتني؟ فقال: لأنّك واسعة الثّقبة، حديدة الرّكبة خفيفة الوثبة. فقالت له: وأنت سريع الإراقة، بطيء الأفافة، ثقيلٌ بين اليدين، خفيفٌ بين الرّجلين.
لبنى وقيس بن ذريح
وطلّق قيس بن ذريحٍ امرأته لبنى فندم على ذلك، وقال:
فواكبدي على تسريح لبنى ... فكان فراق لبنى كالخداع
تكنّفني الوشاة فأزعجوني ... فيا للنّاس للواشي المطاع
فأصبحت الغداة ألوم نفسي ... على أمرٍ وليس بمستطاع
كمغبونٍ يعضّ على يديه ... تبيّن غبنه بعد البياع
الحجّاج وابنة عبد الله بن جعفر
وتزوّج الحجّاج ابنة عبد الله بن جعفر، فلمّا دخلت عليه نظر إليها وعبرتها تجود على خدّها، فقال لها: بأبي وأمّي، ممّ تبكين؟ فقالت: من شرفٍ اتّضع، ومن ضعةٍ شرفت. فلمّا كتب إليها عبد الملك بن مروان بطلاقها، قال لها: إنّ أمير المؤمنين امرني بطلاقك. قالت: هو والله أبرّ بي ممّن زوّجك إباي. فلمّا مات أبوها لم تبك عليه، فقيل لها في ذلك، فقالت: والله أنّ الحزن ليبعثني، وإنّ الغيظ ليصمتني.
زينب بنت مرّة والمغيرة
وكانت زينب بنت مرّة عند ابن تميم لها يقال له المغيرة فجرى بينهما عتاب فطلّقها ثلاثاً فقالت:
يا أيّها الرّاكب الغادي مطيّته ... عرج أبثّك عن بعض الذي أجدّ
ما عالج النّاس من وجدٍ ومن كمد ... إلاّ وجدت به فوق الذي وجدوا
حسبي رضاه، وإنّي في مسرّته ... وودّه آخر الأيّام اجتهد.
الإثم لها في الآخرة
كانت عند رجل امرأةٌ يقال لها أم مالك وكان بها معجباً. فأقسمت عليه أمّه أن يطلّقها، فذهب عقله، ونحل جسمه. فحضره الموت، فدخلت عليه أم مالك تعوده، فلمّا ولّت قال لأمّه: يا عجوز ليهنك فقد ابنك في الدّنيا، والإثم لك في الآخرة. ثمّ أنشأ أن يقول:
لنا حاجةٌ في آل مروان دونها ... من النّفر الغرّ الوجوه قبيل
فمت كمداً إنّ كان يومك قد أتى ... أو اصبر على ما خلّيت فقليل
فلمّا خرجت عنه، فاضت نفسه. وما وصلت إلى منزلها حتّى سقطت ميّتة.
ولات ساعة مندم
ٍ
قال إبراهيم بن عقبة: طلّق أعرابيٌّ امرأته وحمله على ذلك عقله فندم. وأنشأ يقول:
إذا ذكرت ليلى ترقرق دمعه ... كأن لم تكن عينٌ بها قبل قرّت
وإنّ ثلاثاً منك لو تعلمينه ... دنت دون حلو العيش حتّى أمرّت
راودها عن نفسها ثمّ تزوّجها
أبو العيناء، عن أبي حمزة الغسّاني قال: نزل أعرابيٌّ من بني أسد ببيت أعرابيّةٍ من بني تميم ضيفاً، فأتته بقرىً حاضرٍ، وماءٍ باردٍ. فجعل ينظر إليها من وراء السّتر، ثمّ راودها عن نفسها، فقالت له: يا هذا أما يقرّعك الإسلام والكرم؟ كل، وإن أردت غير ذلك فارتحل. فقال لها: زوّجيني إذاً نفسك. فقالت له: الأولياء يزوّجونك. فخاف أن لا يزوّجوه للعداوة بين الحيّين، فانتسب إلى بني عذرة فزوّجوه فأقام عندهم زماناً. ثمّ علموا أنّه أسدي فقالوا له: والله إنّك لكفءٌ كريمٌ، ولكن نكره أن تنكح فينا وأنت حربٌ لنا، فحل عن صاحبتنا. وكان يحبّها حبّاً شديداً فطلّقها، وقال:
أحبّك يا عم حبّ الحياة ... ونيل المنى وبلوغ الظّفر
ويعجبني منك عند الّلقاء، ... حياء الكلام، وموت النّظر
ونائي الجبين، شديد البياض، ... كثيف الجوانب، مثل القمر.
له وهجٌ كضرام الحريق، ... يكاد يمزّق جلد الذّكر
قال أبو ذكوان: لم تقل العرب فيما يريده الرّجال من النّساء أحسن من هذا.
عرضوا عليه زواج البصريّة فأبى
قال: خرج محمّد بن المشيري الخارجي إلى البصرة في طلب ميراثٍ له، وبها نفرٌ من قومه. فأقام بها حولاً ينشدهم ويحدّثهم. وكانت امرأةٌ منهم ذات جمالٍ ومالٍ لا يطمع فيها أحد. فقالوا له: يا أبا سلمان هل لك في امرأةٍ منّا، سيّدةٌ في قومها جمالاً وعقلاً، وعفافاً، ورأياً، قد سمعت بمقدمك، فذكرت لها، فزعمت أنّك طلّقت زوجتك التي خلّفتها في بلدك فرغبت فيك، فإن أحببت أقمت عندنا فيما ترى من طيّب بلادنا وربعنا، وعلينا صداقك، وما تحتاج إليه؟ فأقبلوا به وأدبرّوا واجتهدوا فأبى عليهم، وقال في ذلك:
أسائلٌ بالعراق فراق سعدٍ ... ولا تبدي ولا يراها الفراق
لئن ربح الفراق لهجر سعدى ... عليّ أشدّ ما ربح الفراق
إذا عدلوا أقول لهم: لسعدى ... خلائقٌ لا يحلّ لها الطّلاق
حرامٌ أن يقول نساء قومٍ ... تركتك أو تحدث بي الفراق
أهكذا تجازى النّساء؟!
سمعت أعرابيّةٌ تقول لزوجها: يا مفلس، يا قرنان، فقال لها: إن كان ما ذكرت حقاً فواحدةٌ من الله، وأخرى منك، يا زانية، وأنت طالقٌ ثلاثاً.
حرها واسع
خاصمت امرأةٌ زوجها، فطلّقها فقالت له: يا هذا، لم طلّقتني وقد كنت لك ناصحةً، وعليك شفيقةً، وما فيّ عيبٌ إلاّ ضيقٌ بجبهتي؟ فقال لها زوجها: لو كان الضّيق في حرك ما طلّقتك أبداً! .
الأهوازيّة أشدّ ذكاءً
كانت لرجلٍ في الأهواز ضيعةٌ بالبصرة، وكان يتعاهدها في حين الانتفاع بالثّمار. فتزوّج بها امرأةً، وانتهى الخبر إلى امرأته الأهوازيّة فاستخرقت كتاباً على لسان بعض إخوانه بالبصرة يعزيه في البصريّة و يقول: إلحق المال الذي خلّفت ولا تتأخّر. وأعطت الكتاب لبعض الملّاحين وجعلت له جعلاً. فلمّا وصل الكتاب إلى زوجها وجد لموتها وجداً عظيماً، وقال للأهوازيّة: أصلحي لي سفرتي، فإنّي راكبٌ إلى البصرة. ففعلت، فلمّا أصبح الغد ركب فرسه، وأعطته السّفرة، ثمّ قبضت على عنان فرسه وقالت له: ما تكثر اختلافك إلى البصرة إلاّ ولك بها امرأةً تزوّجتها؟ فقال لها: والله مالي بالبصرة امرأةٌ. للذي وقف عليه من الكتاب. فقالت له: لست أدري ما تقول؛ وإنّما تحلف وتقول أيّ امرأةٍ لي غيرك طالقٌ ثلاثاً بقول جميع المسلمين؟ فللذي وقف عليه الرّجل من موت البصريّة قال في نفسه: تلك ماتت، فلم أغير صدر هذه: فقال لها: كلّ امرأةٍ لي غيرك في جميع الأقاليم فهي طالقٌ ثلاثاً بقول جميع المسلمين. فقالت له: لا تتعبن فقد طلّقت الحبيبة. فندم الرّجل، وأسقط ما في يديه.
شعر قيسٍ بعد زواج ليلى
ولمّا تزوّجت ليلى صاحبة قيس بن الملوّح، هام على وجهه مع الوحش، وكان يقول:
لها في سواد القلب تسعة أسهمٍ ... وللنّاس في ذاك المكان عشير
ولست بمحصٍ حبّ ليلى لسائلٍ ... من النّاس إلاّ من يقول كثير.
وتنشر نفسي بعد موتي لذكرها، ... فموت نفسي مرّةُ ونشور.
أتاني بعد ظهر الغيب أن قد تزوّجت، ... فكادت بي الأرض البراح تمور
فقلت، وقد أيقنت أن ليس بيننا ... تلاقٍ، وعيني بالدّموع تفور:
لئن كان تبدي برد إيمانها العلى ... لأفقر منّي أنّني لفقير.
فما أسرع الأخبار أن قد تزوّجت، ... فهل يأتينني بالطّلاق. تشير؟
أيريده فحلاً لبناته
حكى إبراهيم بن محمّد بن عرفة قال: كانت أمّ عبد الملك بن سعيدٍ بن خالدٍ بن عمرو، عند الوليد بن يزيد بن عبد الملك. فمرض سعيدٌ، وهو بالبادية، فعاده، فدخل عليه وعنده أختها سلمى، فستروها، فرأى منها لمحةً ثمّ قامت، فرأى طولها فطلّق أختها وخطبها، فلم يزوّجه إيّاها وكانت أختها أمّ عثمان عند هشامٍ بن عبد الملك، فبعث إلى أبيها: إيّاك أن تزوّج الوليد، تريده أن تتّخذه فحلاً لبناتك يطلّق واحدةً ويتزوّج أخرى؟ فأبى أن يزوّجه. فقال الوليد: العجب من سعيدٍ، خطبت إليه فردّني، ولو قد مات هشامٌ واستخلفت لزوّجنيها، فإن زوّجتها فهي طالق، وإن كنت أهواها. وقد ذكرنا حديثه مستقصىً في موضعه من هذا الكتاب.
هي طالقٌ ألف مرّة
خاصمت امرأةٌ زوجها إلى المطّلب بن حبط المخزومي قاضي المدينة، وكانت قالت له: أسأت إليّ وأوجعتني، ووالله ما أستطيع، فإنّ بنتك تمسي من الجوع والجهد وما أقمن إلاّّ على الوطن. فقال: أنت طالقٌ إن كان لا يقمن إلاّّ على الوطن! فأخبرت القاضي بما قالت، وبما قال. فقال القاضي: بطلب المقادير، وربّ الكعبة، إنّ الأيّل ليكون بالمكان الجدب الخسيس المرعى فتقيم فيه بحبّ الوطن. فقال الزّوج: كأنّ المسألة، أصلح الله القاضي، أشكلت عليك هي طالقٌ ألف مرّة.
طلّقها وندم
وطلّق عليٌّ بن منظور امرأته فندم عليها ندماً شديداً، فقال:
ما للطّلاق فقدته ... وفقدت عاقبة الطّلاق
طلّقت خير خليلةٍ ... تحت السّموات الطّباق
وأحبّت امرأة الأعرابيّ أن تفارقه فقال:
تمنّين الطّلاق وأنت منّي ... بعيشٍ مثل مشرفة الجمال
أحبّ إليه ليلةً طلّق فيها نساؤه
قال خالد بن صفوان: ما بتّ ليلةً أحبّ إليّ من ليلةٍ طلّقت فيها نسائي، فأرجع والسّتور قد هتكت ومتاع البيت قد نقل. فبعثت إليّ بنتي سليلة فيها طعامٌ، وبعثت الأخرى إليّ بفراشٍ أنام عليه.
أو ضيق الفرج أو الطّلاق
وقيل لامرأةٍ كانت تطلّق كثيراً: ما لك تطلّقين أبداً؟ قالت: يريدون الضّيق، ضيّق الله عليهم قبورهم.
طلّقها ثلاثاً
وقال أعرابيٌّ لامرأته:
أنوّهت باسمي في العالمين ... وأفنيت عمري عاماً فعاما
فأنت الطّلاق وأنت الطّلا ... ق وأنت الطّلاق ثلاثاً توأما
حلاوة الجماع
عن عروة بن الزّبير، عن عائشة، رضي الله عنها: أنّ امرأة رفاعة أتت إلى النّبيّ، صلّى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله إنّ رفاعة طلّقني، فبتّ طلاقي، وإنّي تزوّجت بعده بعبد الرّحمن بن الزّبير وما معه إلاّ مثل هدبة الثّوب، فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا، حتّى تذوقي عسيلة الزّوج الثّاني ويذوق عسيلتك.
طلّقها عدد شعر مؤخّرتها
دخل مدنيٌّ البصرة، فزوّج فيها امرأةً: ثمّ حصل بينهما شرٌّ، فقال لها: أنت طالقٌ عدد شعر أسّتك. فقالت: قاتلكم الله يا أهل المدينة تسرّعون الطّلاق وتؤثرون الخلاق.
يلتمسون الضّيق ضيّق الله عليهم
قال عبد الرّحمن بن حسّان بن ثابت لعطاءٍ بن صيفيّ الثّقفيّ: لو أصبت ركوةً مملوءةً خمراً بالبقيع ما كنت صانعاً بها؟ قال: أفرّقها في بني النّجّار فإنّها لا تعدوهم. ولكن أخبرني، أيّهما أكبر جدّك ثابت أم جدّتك فريعة؟ قال لا أدري. قال عطاء: الفريعة كانت أكبر، وقد تزوّجتها قبله أربعة أزواجٍ كلّهم يلقاها بمثل ذراع البكر ثمّ يطلّقها. فقيل لها: يا فريعة، لم تطلّقين وأنت بمثل هذا الجمال؟ قالت: يلتمسون الضّيق، ضيّق الله عليهم.
مكابدة العفّة ايسر من الاحتيال
وطلّق أعرابيٌّ زوجته، فقيل له: ألا تتزوّج بعدها؟ فقال: مكابدة العفّة، أيسر من الاحتيال بمصلحة العيال.
ضرط فسخرت منه فطلّقها
تزوّج الفضل بن قطن الحارثيّ ابنة المهلّب بن أبي صفرة. فجلس معها يشرب، فأراد الافتخار عليها فقال:
إن كنت ساقيةً يوماً على كرمٍ ... كأس المدام فأسقيها بني قطن
ثمّ إنّه تحرّك فضرط. فقالت: وأسقي هذه بني قطن أيضاً؟ فخجل وقال: إذهبي فأنت طالق.
طلّقها فتزوّجت رجلاً دميماً
وطلّق عطيّة بن أشجع محجوبة بنت عبد الله، امرأته فزوّجت رجلاً دميماً فقال في ذلك:
لعمري أبي سلمى، ولست بشامتٍ ... بسلمى، فقد أمست بها النّعل زلّت.
وليس لمغفورٌ لسلمى ذنوبها ... وإن هي صامت كلّ يومٍ وصلّت،
ولو ركبت ما حرّم الله لم يكن ... بأعظم عند الله ممّا استحلت؟
الكاذبة الفاجرة الضّارطة
كانت لبعض الصّالحين امرأةً تبغضه، فكان إذا نهاها عن أمرٍ دعت الله أن يريحها منه، وأن يعجّل طلاقها، فأضجرته يوماً فطلّقها، فسجدت لله شكراّ، فقال الرّجل: اللهمّ إنّها وضعت إليك فما ّكاذباً، ووجهاً وقاحاً، ورفعت أستاً مجاهرةً بالفحشاء فاجرةً. فوثب سنور في البيت فأفزعها، فضرطت، فقال: الحمد لله الذي سهّل فرقتك وعجّل فضيحتك.
باب ما جاء في الغيرة
يروى عن عروة بن الزّبير، عن أسماء بنت أبي بكر، قالت سمعت رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، يقول وهو على المنبر: " لا شيء أغير من الله. " وعن عبد الله بن مسعودٍ أنّه قال: أنّ الله ليغار للمسلم فليغر وعنه، وعن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: " ليس شيءٌ أغير من الله ، من أجل ذلك حرّم الفواحش. " وعن كعب بن مالك أنّ رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قال: " الغيرة، غيرتان: فغيرةٌ يحبّها الله، وغيرةٌ يكرهها الله " . قلنا يا رسول الله، ما الغيرة التي يحبّها الله، قال: " أن يغار أن يأتي معاصي الله، وينتهك محارمه " . قلنا وما الغيرة التي يكرهه: قال " أن يغار أحدكم في غير كنهه. " وعن عبد الملك بن عمير بن عبد الله بن بكار أنّه قال: " الغيرة غيرتان: غيرةٌ يصلحها بها الرّجل أهله، وغيرةٌ تدخله النّار " .
ويروى: أنّ سارة كانت تحبّ إبراهيم خليل الرّحمن. فمكثت معه دهراً لا ترزق ولداً، فلمّا رأت ذلك وهبت له هاجر، وكانت أمةً لها قبطيّةً، فولدت لإبراهيم إسماعيل، صلّى الله عليهما، فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها، وعتبت على هاجر. فحلفت لتقطعنّ عضواّ من أعضائها فقال لها إبراهيم، صلّى الله على نبينا وعليه: هل لك أن تبري يمينك؟ قالت: كيف أصنع؟ قال: أثقبي أذنيها وخصّفيها. والخصف هو الخياطة. ففعلت ذلك بها، فوضعت في أذني هاجر قرطين فازدادت حسناً. فقال سارة: إنّي إنّما زدتها جمالاً: فلم تتركه على كونها معه. ووجد بها إبراهيم وجداً شديداً، فنقلها إلى مكّة وكان يزورها في كلّ وقتٍ من الشّام لشغفه بها، وقلّة صبره عنها.
الكلام عن بعد ممنوع
وعن ابن أبي مليكة: أنّ ابن عمرو سمع امرأته تكلّم امرأةً من وراء جدار، بينها وبينها قرابةً لا يعلمها ابن عمرو، قال: فجمع لها جرائد ثمّ أتى فضربها بها.
عادةٌ غير مستحسنةٍ
وعن علقمة: أنّ معاذ بن جبل كان يأكل تفّاحةً ومعه امرأته فدخل علها غلامٌ، فناولته أمرأته تفّاحةً قد أكلت منها فأوجعها ضرباً.
غيرة المرأة على قدر لذّتها
وقال بعضهم: لذّة المرأة على قدر شهوتها، وغيرتها على قدر لذّتها. واستدل بإفراط غيرتها على إفراط حرصها. وهذا القول خطأ قد علمنا أنّ الرّجل أشدّ غيرةً على المرأة من المرأة على الرّجل. وربّما كان الذي يبدو من المرأة عند تسرّي زوجها بالسّراري وتزويجه المهيرات، وحين تراه مع بعضهنّ توهيماً للفعل أنّ ذلك من الطّربة والكراهة المشاركة فيه. وبعض ذلك يكون من طريق الألفة والنّفاسة به، وليس شكل ما تلقى المرأة إذا رأت فراشها، من شكل ما يلقى الرّجل إذا رأى على فراش امرأته رجلاً. لأنّ المرأة قد عاينت أنّ الرّجل له أربع نسوةٍ وألف جاريةٍ يطؤهنّ بملك اليمين، لما أحلّه الله في الشّريعة. وكذلك غيرة فحول الحيوان على إناثها، لأنّ فحل الحيوان يقاتل دونها كلّ فحلٍ يعرض لها حتّى تصير إلى الغالب. قال الرّاجز.
يغار والغيرة في خلق الذّكر والأمم تختلف في الغيرة. فمن الصّقالبة ناسٌ لا يتزوّجون من قربٍ منهم في النّسب ولا الدّار. وإذا مات البعل خنقت المرأة نفسها أسفاً عليه.
والمرأة في الهند إذا مات زوجها وأرادوا حرقه، جاءت ليحرقوها معه.
والدّيلميّ يخرج من الدّيلم إلى حدود ما بين دار الإسلام والدّيلم، ومعه امرأته وإخوانه وعمّاته فيبيعهنّ صفقةً واحدةً، ويسلّمهنّ إلى المبتاع، لا تدمع عينه ولا عينٌ واحدةٍ من عياله.
تكرّم طبرستان من العجائب
وأهل طبرستان لا يتزوّج الرّجل الجارية منهنّ حتّى يستبطن بها حولاً محرّماً ثمّ يقدم بها فيخطبها إلى أهلها ويتزوّجها، ثمّ يزعمون مع ذلك أنّه يجدها بكراً، وقد عانقها في إزارٍ واحدٍ سنةً كاملةً وهو لا يستبطن بها، ويحتمل وحشة الاغتراب، وانقطاع الأسباب. وإنّ من أعجب العجب أن يمكثا متعانقين في لحافٍ واحدٍ يحتجران عن ألّذ الأمور تكرّماً. وهذا التّكرّم عند علوج طبرستان من العجائب.
ثلاث خصالٍ من السّؤدد
قال معاوية، رضي الله عنه: ثلاث خصالٍ من السّؤدد، الصّلع، واندماج البطن، وترك الإفراط في الغيرة.
غيرة قيس بن زهير
ولمّا نزل قيس بن زهير ببعض العرب قال لهم: أنّي غيورٌ، وأنا فخورٌ، وأنا أنفٌ، ولكن لا أغار حتّى أرى، ولا أفخر حتّى افعل، ولا آنف حتّى أضام. فعابوه بقوله لا أغار حتّى أرى ويظنّ به إنّما عني رؤية السّبب لا رؤية المرافقة.
وعابوا معاوية أيضاً بقوله هذا ونسبوه إلى قلّة الغيرة وما أرى في قوله وترك الإفراط في الغيرة عيباً لأنّ الإفراط المجاوز للحقّ ولمقدار المصلحة وظلم الخليلة العفيفة والحرمة الكريمة غير لائقٍ.
وعاب النّاس قول هدبة بن خشرم حيث يقول:
فلا تنكحي إن فرّق الدّهر بيننا ... أغمّ القفا والوجه ليس بأنزعا
فهذا يأمرها بتزويج الأنزع القليل شعر القفا والوجه.
ولا أرى فيه عيباً أيضاً لأنّ إنّما قال ذلك ليذكّرها جمال نفسه ليزهدها في غيره.
عبد الملك يعيب قولاً على نصيب
وأمّا قول نصيبٍ:
أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ... فيا ليت شعري من يهيم بها بعدي
فإنّي لم أجد له تأويلاً. وعاب ذلك عليه عبد الملك بن مروان، وقال لجلسائه: أو لو كنتم قائلين هذا البيت ما كنتم تقولون؟ قالوا: لا ندري، فكيف كان أمير المؤمنين قائلاً: قال: كان يقول:
أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت ... فلا صلحت دعد لذي خلّةٍ بعدي
بعض عادات العرب
وكان الرّجل من العرب إذا خرج مسافراً بدأ بالشّجرة يعقد خيطاً على ساقها أو على غصنً من أغصانها، فإذا رجع إلى أهله بدا إلى الشّجرة فنظر إلى الخيط، فإن كان منحلّاً حكم أنّ امرأته خانته، وإن كان على حاله حكم أنّها حفظته.
وأنشد أبو زيدٍ النحويّ:
هل ينفعك اليوم إن همت بهم ... كثرة ما توصي وتعفي والرّتم
والرّتم اسمٌ للخيط الذي يعقد في الخنصر لتذكّر الحاجة.
وكان معاوية بن أبي سفيان يتمثّل بقول الشّاعر:
ومراكبٍ رجع السّلام بكفّه ... ومودّعٍ لم يستطع تسليما
الغيور المتمطّق
وقال آخر:
وأضحى الغيور، أرغم الله أنفه، ... على ملتقانا قائماً يتمطّق
وقد مدّ شدقيه من الغيظ والأذى ... كما مدّ شدقيه الحمار المحنّق
الغيور في نظر الرّاعي
وقال الرّاعي:
وظلّ الغيور آرضاً ببنانه ... كما عضّ برذون على الفاس جامح
لقد رابني أنّ الغيور يودّني ... وأنّ نداماي الكهول الجحاجح
وصدّ ذوات الظّعن عنّي وقد رأت ... كلامي لمراء السّنا الطّوامح؟
ابن الدّمينة وخميص الحشا
وقال عبد الله بن الدّمينة:
ولمّا لحقنا بالحمول، ودوننا ... خميص الحشا تؤذي القميص عواتقه،
عرضنا، فسلمنا، فسلم كارهاً ... علينا، وتبريحٍ من الغيظ خانقه.
فرافقته مقدار ميلٍ وليتني، ... على زعمه، ما دمت حيّاً أرافقه
الدّارميّ لا يفارق عرسه
وقال مسكين الدّارميّ:
وإنّي امرؤٌ لا ألقى إلاّ قاعداً ... إلى جنب عرسي لا أفارقها شبرا
ولا مقسمٌ لا تبرح الدّهر بيتها ... ليجعلها قبل الممات لها قبرا.
إذا هي لم تحصن أمام قناعها، ... فليس بمنجيها بنأيٍ له قصرا،
ولا حاملي ظنّي، ولا قول قائلٍ ... على غيرها، حتّى أحيط بها خبرا.
فهبني امرأً راعيت ما دمت شاهداً ... فكيف إذا ما سرت عن بيتها شهرا؟
وقال مسكين أيضاً:
ألا أيّها الغائر المستشيط، ... على ما تغار إذا لم تغر؟
تعار على النّاس أن ينظروا! ... وهل يغبن للحاصنات النّظر؟
فما خير عرسٍ إذا خفتها ... وبتّ عليها شديد الحذر؟!
تكاد تصفّق أضلاعه ... إذا ما رأى زائراً أو زفر.
فمن ذا يراعي له عرسه ... إذا ضمّه، والمطيّ، السّفر؟
شعراء ماتوا قتلا
ً
وثلاثةٌ من شعراء أولاد العجم ممّن كان مشتهراً بالقول مذكوراً، بالشّعر بالبادية، كلّهم قتلوا منهم: وضّاح اليمن، ويسار الكواعب، وسحيم عبد بني الحسحاس. وإنّما قتلوا كفّاً عن أولئك النّساء، وحفظاً لهنّ، حين رأوا التعرّض، وشنعة تلك الأشعار لا يشغلهم عنها إلاّ قتلهم مخافة أن يكون ذلك القتل يحقّق المقالة القبيحة. ألا ترى أنّ الحجّاج بن يوسف في عتوّه لم يتعرّض لابن نميرٍ في تشبّهه بزينب أخته مخافة أن يكون ذلك سبباً للخوض في ذكرها. فيزيد زائدٌ، ويكثر مكثّرٌ. وكذلك معاوية بن أبي سفيان لم يعترض لعبد الرّحمن بن حسّان بن ثابت وكان يتشبّب بابنته، حتّى قال:
ثمّ حاضرتها إلى القبّة الخضراء ... نمشي في مرمرٍ مسنون
شعر سحيمٍ الإباحيّ
ومن أحقّ بالقتل من سحيم عبد بني الحسحاس؟ حيث يقول:
وبتنا وسادانا إلى علجانةٍ ... وحقفٍ تهاداه الرّياح تهاديا
توسّدني كفّاً وتثني بمعصمٍ ... عليّ، ونحوي رجلها من ورائيا
وهبّت شمالٌ آخر الليل قرّةً ... ولا ثوب إلاّ درعها وردائيا
فما زال ثوبي طيّباً من نسيمها ... إلى الحول حتّى أنهج الثّوب باليا
ومرّوا به ليقتلوه على الذي اتّهم بها، فضحكت، فقال:
فإن تضحكي منّي فيا ربّ ليلةٍ، ... تركتك فيها كالقباء المفرج
كاد يقتلها عقيل المرّي
وحكى العتبيّ، قال: سمع عقيل بن علقمة المرّي بنتاً له ضحكت، فشهقت في آخر ضحكها. فأخذ السّيف وحمل عليها وهو يقول:
فرقت، أنّي رجلٌ فروقٌ، ... من ضحكةٍ آخرها شهيق
قال: فنادت يا أخوتاه! فبادروا فحالوا بينه وبينها.
عقيل وابنته الجرباء
وحكى أبو حاتم السّجستاني عن الأصمعي، قال: كان عقيل بن علقمة غيوراً، وكان الخلفاء يصاهرونه، وكانت له ابنةٌ يقال لها الجرباء. فكان إذا خرج إلى الشّام خرج بها لفرط غيرته. فخرج بها مرّةً وبابنٍ يقال له عميس، فلمّا كانوا بدير سعدٍ قال عقيل:
قضت وطراً من دير سعدٍ وربّما ... غلا غرضٌ ناطحته بالجماجم
ثمّ قال لابنه أجز يا عميس. فقال:
فأصبحن بالموماة يحملن فتيةً ... نشاوي من الإدلاج، ميل العمائم
ثمّ قال لابنته: أجيزي، يا جرباء. فقالت:
كأنّ الكرى أسقاهم صرّ خدية ... عقارٌ تمشّت في المطا والقوائم.
فقال لها: وما يدريك أنت ما نعت الخمر؟ هذه صفةٌ من قد شربها.
وأخذ السّوط فأهوى نحوها، وجاء عميس فحال بينه وبينها، فضربه فأوجعه فرماه عميس بسهمٍ، فشكّ فخذيه فبرك، فمضوا وتركوه حتّى إذا بلغوا أداني المياه منهم، قالوا: اللهمّ أسقطنا جزوراً لنا. فأدركوه وخذوا معكم الماء. ففعلوا، فإذا عقيلٌ بارك وهو يقول:
أنّ ابني زملاني بالدّم ... من يلق أبطال الرّجال يكلم
ومن يكن درءٌ به يقوم ... شنشنةً أعرفها من أخزم
ثمّ زوّجها يزيد بن عبد الملك. وقد ذكرنا خبره في ما مضى.
مقدّمات الغيرة
قال: وممّا يحدث الهوى في قلوب النّساء لغير أزواجهنّ، ويدعوهنّ إلى الحرص على الرّجال، والطّلب لهنّ أمورٌ منها: أن يظهر لها زوجها شدّة الحذر عليها، والاحتفاظ بها، والغيرة في غير موضعها. أو يكون الرّجل منهمكاً في الفساد، مظاهراً لها بالزّنا. فإنّ ذلك ممّا يغريها من طلب الرّجال، والحرص عليهم. كما قال الشّاعر:
ما أحسن الغيرة في حينها، ... وأقبح الغيرة في كلّ حين.
من لم يزل متّهماً عرسه ... متّبعاً فيها لرجم الظّنون،
أوشك أن يغريها بالذي ... يخاف، أو ينصبها للعيون.
حسبك من تحصينها ضمّها ... منك إلى عرضٍ نقيٍّ ودين
لا تطلع منك على ريبةٍ ... فيتّبع المقرون حبل القرين
عبد الله بن رواحة وزوجته
ذكر الشّعبيّ إنّ عبد الله بن رواحة أصاب جاريةً له، فسمعت به امرأته، فأخذت شفرةً فأتته حين قام وقالت له: أفعلتها يا ابن رواحة؟ فقال: ما فعلت شيئاً. فقالت: لتقرأن قرآناً، وإلاّ بعجتك بها. قال: ففكّرت في قراءة القرآن وأنا جنب فهبت ذلك، وهي امرأةٌ غيراء في يدها شفرةً لا آمن أن تأتي بما قالت. فقلت:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... إذا أنشقّ معروفٌ من الصّبح ساطع
أرانا الهدى، بعد العمى، فقلوبنا ... به موقناتٌ، أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه، ... إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
قال: فألقت السّكّين من يدها، وقالت: آمنت بالله، وكذّبت البصر. قال: فأتيت النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته بذلك، فضحك وأعجبه ما صنعت.
المصيبة في معاتبة المرأة الرّجل
وكان بعض العلماء لشدّة شهوة الباه في قلوب النّساء، وتمكّنه فيهنّ، وشدّة غيرته، يقول: ليس المصيبة في معاتبة الرّجل المرأة، إنّما المصيبة في معاتبتها إيّاه. فإنّها إن نظرت إليه ووقع بقلبها موقع حظوةٍ لم يلبث أن تصير في يده، وتبعث الرّسائل والأشعار والتّحف.
يخاف عليها من عينيها
قال إسحاق: رأيت رجلاً بطريق مكّة، تعادله في المحمل جاريةٌ قد شدّ عينيها والغطا مكشوف، ووجها بادٍ، فقلت له في ذلك. فقال: إنّما أخاف عليها من عينيها، لا من عيون النّاس.
سعيد بن سليمان والإنكشاف
قال سعيد بن سليمان لئن يرى حرمتي ألف رجلٍ على حالٍ يكشف منها، ولا تراهم، أحبّ إليّ من أن ترى حرمتي رجلاً واحداً غير منكشف.
حتّى على العميان
واستأذن ابن أمّ مكتومٍ عل رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، وعنده امرأتان من نسائه، فقال لهما: " قوما وأدخلا البيت. " فقالتا: يا رسول الله، هو أعمى، فقال: " أفعمياوان أنتما؟. "
باب تابعٌ لما قبله
وبالرّجال أعظم حاجةٍ إلى أن يعرفوه ويقفوا عليه، وهو الاحتراس من أن يلقى الخبر السّابق إلى السّمع لأنّه إذا ألقي دخل ذلك الخبر السّابق إلى مقرّه دخولاً سهلاً وصادف موضعاً وطيئاً، وطبيعةً قابلةً. ومتى صادف القلب كذلك رسخ رسوخاً لا حيلة في إزالته. ومتى ألقي إلى الفتيات شيءٌ من أمور الفتيان في وقت الغرارة وعند غلبة الطّبيعة وشباب الشّهوة، وعند قلّة الشّواغل، قوي استحكامه، وصعبت إزالته. وكذلك متى ألقي إلى الفتيان شيءٌ من أمورهنّ وهناك سكر الشّباب. فكذلك يكون حالهم، وإنّ الشّياطين ليخلو أحدهم بالغلام الغرير فيقول له لا يكن الغلام فتىً أبداً حتّى يصادف فتىً. فما الماء البارد العذب بأسرع في طباع العطشان من كلمته إذا كان الغلام أدنى هوىً في الفتوّة. وكذلك إذا خلت العجوز بالجارية الحديثة.
وقيل لابنة الحسن: لم زنيت بعبدك ولم تزن بحرٍّ، وما أغراك به؟ قالت: طول السّواد، وقرب الوساد. ولو أنّ قبح النّاس وجهاً، وأخبثه نفراً، وأسقطهم همّةً، قال: لامرأةٍ قد تمكن كلامها وأعطته سمعها: والله يا سيّدتي ويا مولاتي، لقد أتعبت قلبي، وأرقت عيني، وشغلتني عن مهمّ أمري، فما أعقل أهلاً ولا مالاً ولا ولداً. لنقض طباعها، وفتح عقدها ولو كانت أبرع الخلق جمالاً، وأكملهم كمالاً. وإنّما قال عمر رضي الله عنه: أضربوهنّ بالعري لأنّ الثّياب هي الدّاعية إلى الخروج من الأعراس، والقيام في المناجاة، والظّهور في الأعياد. فمتى كثر خروجها لم يعدمها أن ترى من هو من شكل طبعها، ولو كان بعلها أتمّ حسناً والذي رأت أنقض حسناً، لكانت بما لا تملكه أطرف ممّا تملكه. وكانت ممّا لم تملّه وتستكثر منه أشدّ الوجد وهي به أشدّ استقبالاً. كما قال:
وللعين ملعى في البلاد ولم يقد ... هوى النّفس شيئاً كاقتياد الطّرائف
يجوّعهنّ حتّى لا يأشرن
وقيل لعقيل بن علقمة: أما تخاف على بناتك وقد عنسن ولم تزوّجهنّ؟ قال: كلّا، أجوّعهنّ فلا يأشرن، وأعرّيهنّ فلا ينظرن. فوافقت إحدى كلمتيه قول النّبي صلّى الله عليه وسّلم، ووافقت الأخرى قول عمر رضي الله عنه. فإنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: " الصّوم وجاء. " وقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: أضربوهنّ بالعري.قال:
هارون البردعي والعطّار
وكان هارون بن عبد الله البردعيّ يقول لأهله: محرّمٌ عليك إن نظرت إلى سائلٍ يقف ببابك، وسمعت حلاوة نغمه. وكان ينهي الباعة إذا دخلوا سكنه عن النّداء على بضائعهم. ورأيته مرّةً يضرب عطّاراً سمعه يترنّم بوصف العطر وكان ينفق بضاعته حسن صوته، فيقول: العود المطريّ، والمحلب واللبان والمسك والعنبر. ويردّد ذلك بصوته فيرجّعه.
فكان النّساء يستمعن إليه ويشرفن من المطالع ويتبعن الأبواب حتّى تصل عيونهنّ إلى النّظر إليه لو أراد الجماع لكفتهن الآذان وربما اشترين منه ما لا يحتجن إليه. قال: فقلت له: يا أبا وائل، فإنّك قد انعم الله بشيءٍ كنت تمنعه! قال: جعلت فداك، إنّما أمنع منعي لنفسي لئلاّ يسمعه من في منزلي. فإنّ النّساء أسرع شيءٍ ذهاب قلوبٍ إلى النّغمة الحسنة، فإن كان معه حسن وجهٍ برئت المرأة من الله أن لم تحتل في صرف قلبه إليها، ويصير الزّوج قوّاداً. قلت: لا، ولا كلّ هذا! قال: فأسألك ألا سألته أن يستعمل هذا الكلام مرّةً أو مرّتين أو ثلاثاً في غير هذه السّكّة. فذبنا به إلى غيرها وجعل العطّار ينادي فما أتمّ الثّالثة حتّى تحرّكت أكتافي له طرباً وجعلت لا أمرّ ولا آجي لمّا سكرت من حسن صوته. فقال: كيف تراه؟ قلت: أراه يستولي على قلوب الرّجال. قال: فكم قلب الرّجل على ترك التّهتك من قلب المرأة؟ هذا إذا كانت بلغت من السّنّ مبلغاً ونقضت شهوتها فأمّا إذا كانت شابّةً ولها فضل جمالٍ، ومعها شدّة شهوةٍ، وكثرة لذّةٍ، وهي ذات حاجة، وخالية الذّرع من الفكرة في المعاش، وخالية القلب، وقد أمنت ضرب الزّوج وتطليقه، وغيرة الأخ، وقلّة صيانة الأب، وأصابت من يشجّعها على فعلها، ويفتح لها أبواب نظرتها، ويسعى لها في طلب الصّدّيق، ويحرّضها على التّهتّك، وقد قرب منها الصّوت، وخلت من الرّقيب، ولم يكن لها في الأرض أشرافٌ، ولا أهل عفافٍ، فما يمرق السّهم من الرّمية كمروق هذه إلى الباطل.
شيئان لا تؤمن عليهما المرأة
وكانت هند بنت المهلّب من عقلاء النّساء وكانت تقول: شيئان لا تؤمن عليهما المرأة: الرّجال، والطّيب.
سوء الظّنّ من شدّة الحبّ
وأنشد إسحاق بن إبراهيم:
وإنّي بها في كلّ حالٍ لواثقٌ ... ولكنّ سوء الظنّ من شدّة الحبّ
لا تأمننّ النّساء
وأنشد آخر:
لا تأمننّ على النّساء ولو أخاً، ... ما في الرّجال على النّساء أمين
كلّ الرّجال وإن تعفّف جهده ... لا بدّ أنّ بنظرةً سيخون
ديك الجنّ وجاريته وغلامه
وقال عبد السّلام بن رغبان المشهور بديك الجنّ شعراً أديباً، ذا همّةٍ حسنةٍ. وكان له غلامٌ كالقمر، وجاريةٌ كالشّمس. وكان يهواهما جميعاً. فدخل ذات يومٍ بوجد الجارية معانقةً للغلام تقبّله، فشدّ عليهما فقتلهما جميعاً. ثمّ جلس عند رأس الجارية فبكاها طويلاً وقال:
يا طلعةً طلع الحمام عليها ... فجنى لها ثمر الرّدى بيديها
حكّمت سيفي في مجال خناقها ... ومدامعي تجري على خدّيها
رويت من دمها الثّرى ولطالما ... روّى الهوى شفتيّ من شفتيها
فوحق نعليها، وما وطىء الحصى، ... شيءٌ أعزّ عليّ من عينيها
ما كان قتليها لأنّي لم أكن ... أبكي إذا سقط الغبار عليها
لكن بخلت على الأنام بحسنها ... وأنفت من نظر العيون إليها
ثم ّجلس عند رأس الغلام يبكي:
أشفقت أن يرد الزّمان بغدره ... أو أبتلي بعد الزّمان بهجره
قمرٌ أنا استخرجته من دجنةٍ ... لمودّتي وجلوته في خدره
فقتلته وبه عليّ كرامةً ... فلي الحشا وله الفؤاد بأسره
عهدي به ميّتاً كأحسن نائمٍ ... والطّرف يسفح دمعتي في نحره
لو كان يدري الميّت ماذا بعده ... بالحيّ منه بكى له في قبره
غصصٌ تكاد تفيض منها نفسه ... ويكاد يخرج قلبه من صدره
الرّازي وبدر التّمام
وأنشد الرّازي:
أما واهتزازك لو أستطيع ... لما لحظ النّاس بدر التّمام
ومن أين للبدر وجه ميّتٍ ... ويحيى إذا شاء بالابتسام
فهبه حكاك بحسن الضّيا ... فمن أين للبدر حسن القوام؟
أغار على حسنه إذ حكا ... ك وكان بذلك عند الأنام
غيرة أبي تمّام
وأنشد لأبي تمّام:
بنفسي من أغار عليه منّي ... وأحسد مقلةً نظرت إليه
ولو أنّي قدرت طمست عنه ... عيون النّاس من حذري عليه
وأنشد الآخر:
أغار عليك من قلبي ... ولو أعطيتني أملي
وأشفق أن أرى خدّي ... ك نصب مواقع القبل
غيرة جميل بن معمر
ويروى أنّ جميل بن معمر قال لبثينة: ما رأيت مصعب بن الزّبير يخطر بالبلاد إلاّ أخذتني عليك الغيرة.
علي الجعفري وحرارة الهوى
وعن علي بن عبد الله الجعفري، وكان شاعراً وأديباً، قال: كنت أجلس بالمدينة وأنشد أشعاري، فحجّ أبو نواس فلمّا صار إلى المدينة وأنا ذات يومٍ أنشد، والنّاس مجتمعون علي، إذ دخل أبو نواس. فرأيته من بين النّاس ثمّ قال: يا هذا ألا تنشد بيتيك اللذين تكشّحت فيهما؟ فقلت: وما هما. قال: اللذان تقول فيهما:
ولمّا بدا لي أنّها لا تحبّني ... وأنّ هواها ليس عنّي بمنجلي
تمنّيت أن تبلي بغيري لعلّها ... تذوق حرارات الهوى فترقّ لي
قلت: أفلا أنشدك بيتي اللذين أتغاير فيهما؟ قال: بلى. فأنشدته:
ربّما سرّني صدودك عنّي ... وطلابيك وامتناعك منّي
حذراً أن يكون مفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنت التّمني
قال: فسألت عنه. فقيل لي أبو نواس.
لا تسألنّ رجلاً فيم يضرب امرأته؟
قال الأشعث بن قيس نزلت ببعض أصحاب النّبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، فقام إلى امرأته فضربها، فحجزت بينهما. قال: فرجع إلى فراشه، وقال: يا أشعث، احفظ شيئاً سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " لا تسألنّ رجلاً فيم ضرب امرأته؟ " .
أبو الأصبع وبناته الأربع
قال ابن عائشة: كان أبو الأصبع العدوانيّ غيوراً، وكان له أربع بنات، فأبى أن يزوّجهنّ، فقالت واحدةٌ منهنّ: لتقل كلّ واحدةٍ منّا ما في نفسها. فقالت كبراهن:
ألا ليت زوجي من أناسٍ ذوي غنىً ... حديث الشّباب طيّب النّشر والذّكر
لصوقٌ بأكباد النّساء كأنّه ... خليفة جارٍ لا يقيم على الهجر
قلن لها أنت تريدين شابّاً غنيّاً: وقالت الثّانية:
عظيم رماد القدر رحبٌ فناؤه ... له جفنةٌ يشقى بها النّيب والجزر
له خلقان: الشّيب من غير كبرةٍ ... تشين، ولا وانٍ ولا صرع غمر
فقلن لها أنت تريدين سيّداً.
وقالت الثّالثة:
ألا هل تراها مرّةً وخليلها ... يضمّ كبعل المشرفيّ المهنّد
عليه رواءٌ لليسار ورهطه ... إذا ما انتمى من أهل بيتي ومحتدي
فقلن لها أنت تريدين ابن عمٍّ لك قد عرفته.
وقلن للصّغرى: ما تقولين أنت؟ فقالت: لا أقول شيئاً. فقلن لها: لن ندعك لأنّك أطّلعت على أسرارنا وكتمت سرّك. فقالت: لا أدري ما أقول، إلاّ أنّه زوجٌ من عود، خيرٌ من قعود. قال: فخطبن، فزوّجهنّ جميعاً.
لا تكثروا الغيرة على أهلكم
وروي عن سليمان بن داود عليهما السّلام أنّه قال لابنه: يا بني، لا تكثر الغيرة على أهلك من غير ريبةٍ، فترمى بالسّوء من أجلك وإن كانت بريئةً.