د. سامي عبد العال - الفلاحة الفلسفية (3)

في لحظةٍ أو أخرى، ستُواجه " الفلاحةُ الفلسفيةُ " تواريخَ العقل مباشرةً ... هكذا بصيغة الجمع للتاريخ، لأنَّها فاعلية تتطلب كافةَ الممارسات الداعمة للفكر والفحص والتأمل، كما أنَّها فلاحة ستُولد مُثقلةً بالمشكلات التي تعترض التفلسف كنشاط دون توقفٍ. وليس يُوجد هنالك من تأجيل لأيةِ خطوةٍ منتظرة، ذلك بحكم الضرورة التاريخية والمعرفية للتفلسف. فالفلاحة مشتقةٌ من التّفلُّح والفلّاح والاستفلّاح ( أي بذل المثابرة والعمل واستفراغ الطاقة حرصاً على النجاح والفوز والتحقق). وجميع المستويات الآنفة تفترض عملاً قوياً ومؤثراً، وتفترض موضوعات تمثل ( وسيطاً خصيباً ) لإنتاج الجديد والمختلف.

إنَّ عملية الفلاحة لا تضربُ معاولَّها إلاَّ في شيءٍ قابل للحراثة والتهيئة والبذر والإستنبات. والفلاحة - في مجالٍ حيوي كهذا - تشتغل على وجود العقل وتراثه وآفاقه العامة والأفعال الجارية باسمه والاحتمالات المرتبطة به، وما إذا كان نافذاً ماضياً في طرائقه أم لا. وبالتأكيد ضمن هذا الإطار، ستثير " الفلاحة الفلسفية " عدةَ قضايا متشابكةٍ ترتبط بطبائع العقل وأحواله ومناخاته الثقافية:
  • قضية تراثات الثقافة - العقل.
  • قضية الأفكار والمفاهيم والإجراءات.
  • قضية الخطاب الفلاحي وكيف يعدُّ أداةً وممارسة فلسفية.
  • قضية تكوين الفلاحة الفلسفية وتراكم أفعالها.
  • قضية ( العقلانية الفلاحية ) كنشاط فكري وما يميزه من آفاق.
أتصور أنَّ أكبر جناية للفلسفة تاريخياً هي: أنَّها نزعت العقل من جسده المكوِّن (بكسر الواو- الأساس) ومن جسده المكوَّن( بفتح الواو- النتاج ). حين أخذت تحلق على هيئة عقل مثالي أو عقل صوري تجريدي أو عقل منطقي أو عقل أيديولوجي أو عقل لاهوتي أو عقل شعاراتي أو عقل رمزي. كل تلك الأشكال بمثابة سلخ ( اللحم meat ) عن ( الشحم grease)، وتصفية المتون من الحواشي، ونزع الوجه من الظهر واسقاط الأوراق من الأغصان كحال الخريف. فبدا العقلُّ موضُّوعاً على فوهة الإطلاق المتعال مباشرةً، بينما هو ليس كذلك، ولا ينبغي له أنْ يكون. بالضبط كمن ينزع لباب البذورseeds من القشور وتسغ الجذورroots من تربتها الخاصة، فتكون " البذور والجذور" نهباً للعُري والذُبول تحت تيارات الهواء الطلق. فكل (عناصر بذرية أو جذرية ) مثل هذه لا بد لها من تربةٍ محيطة تُدَّس في تلافيفها، تُخبّأ في جوانبها، وتعيش زمناً داخل ظلامها الدامس، متأثرةً ومختلطة وملوثة بالمكونات والأجواء الدفينة والإشباع والغمر الداخلي للأرض.

الحقل - العقل
شرط تحول ( العقل reason ) إلى (حقل field ) هو أنْ يظل داخل تربته التاريخية لا خارجها، و أنْ لا يُفهم إلاَّ في هذا الإطار. لأن َّارتفاعاً عن الترببة الثقافية بكل مكوناتها إنما يقدم صورةً مشوهةً عن العقل ويجعل الفلسفة دون محتوى حقيقي. وبخاصة أن الثقافة أسبق من مفاهيم العقل، وهي الحواشي والحشائش والشجيرات والغبار والأتربة والفوضى التاريخية والإجتماعية والفكرية واليومية التي تكمل الصورة دائماً. فالحقول تمتلئ بكل ما يمكن تخيله من النباتات والأعشاب والزروع والحشائش في الحواف وفي الأعماق وفي الجوانب المترامية. هي حالة طبيعية تكتنفها كل السمات والمعالم التي تجعل الحقل (مظهراً طبيعياً ) له جوانبه الواضحة والخفية جنباً إلى جنب.

وهذا الكل الثقافي cultural totality مرتبط بفكرة (مقتضى الحال ومقتضى المآل) أيضاً. مقتضى الحال لكون وجود استحالة فصل العقل عن جسده، وأن جسده الصغير وهو جسد الإنسان وجسده الكبير وهو جسد المجتمع وجسده الرمزي وهو جسد الثقافة وجسده الماورائي وهو الامتداد الكوني... هي كلها أجسادٌ متداخلة أثناء التفكير ولا حلَّ للإنسان من التعقل داخلها سلباً وايجاباً. هناك تصور مرتبط باعتبار العقل صورة نقية وخالصة الشوائب تماماً، وكأن الإنسان منفصل بالأساس عمل يكونه ويتأرخ في حياته.

وهذا تصور ساذج لدرجة السخرية، حتى وإنْ أخذ شكل المثالية باختلاف أنماطها. لأن التخلص مما ليس عقلاً( سواء أكان حساً أم شعوراً أم أوهاماً أم لا وعياً أم مخاوف أم أحلاماً أم ذاكرة أم نسياناً) إنما لا يتم إلاَّ من جنس ما هو عقلاني. فصحيحٌ هي معطيات لا عقلانية عادةً من زاوية العلم والمعرفة، غير أنَّها حاضرة عقلانياً كجزءٍ حيوي لا يتجزأ من حياة الإنسان والمجتمعات.

إنَّ العقل بوضوح هو عقل ثقافي cultural reason، فلا مساحة للعقل يتحرك خلالها غير المساحة التي يختلط فيها مع الثقافة الجارية بمحمولاتها الموروثة وآفاق توقعاتها وتكويناتها. لقد تكلم الفلاسفةُ عن العقل كأنه (مَلِّك الوجود king of existence ) لا طاقة على التفكير الحر، وأنَّ كلمة طاقة قابلة للشحن والإنفجار عبر السياقات الواردة فيها، وأنَّ التفكير معناه التورط الفعلي في المشكلات. لعلَّ تاريخ الميتافيزيقا هو تاريخ أصداء عقلية مرتهنة بالثقافة والمعضلات التي يعانيها الإنسان، لأنَّها المستوى غير المباشر لما يُطرح على كافة الإصعدة الإنسانية.

على سبيل المثال سنجد أنَّ ( الظروف الاجتماعية والسياسية ) التي يعيشها الإنسان العربي قد تفرز صوراً من التفكير في الجوانب الميتافيزيقية واللاهوتية، فالاستبداد يُنشئ ما يسمى بـ( ميتافيزيقا القهر)، حيث يشعر الإنسانُ بأنه مقهور، مُصيّر، بل مجرد ورقة مثقوبة تحت رحمة الأقدار والتقلب المستمر دون مجيب. و في هذا الاتجاه أو ذاك لا يجد من يأخذ بيده، فيؤلِّه طغاته وقاهريه حتى الرمق الأخير. وتأخذ خطابات الخلاص بالانتشار في كل مكان، كأنَّها الأمل الباقي لحياة بلا عدلٍّ ولا مساواة. وهذا معناه انتشار مقولات التدين والتعقل السطحي، لأنَّها محض أعراض لأزمةٍ أخرى لم تظهر بشكلٍّ واضح.

وهذه الأزمة أنَّ العقل يرتبط بتراثه الكبير، وأنَّه بخلاف هذا التراث لا يمثل شيئاً ذا بال حتى حين يريد أن يتحرك في ذاته أو في غيره أو حين نريد أن نفهم وجوده وحيثياته. ومثلما يصعب أن تنمو البذرة خارج التربة الملائمة لها، فكذلك يستحيل فهم العقل دون وجوده المتجذر في التربة الثقافية.

وقد يري البعض أنَّ الفكرة بسيطة ولا تحتاج إلى هذا التفكير، غير أن الرأي ليس دقيقاً في أحسن الأحوال. لأنه نشأة المفاهيم وطرائق التفكير لا تتم بتلك الوسيلة التي تبدو خالصىة ونقية. فالعقل متماثل تماماً مع الحقل، وبخاصة أن الأخير مليئ بالإمكانيات وكل ما يمكن أن نصادفه من أشجار أو نباتات مرغوبة وغير مرغوبة وأن زراعة الحقل لا تتم عادة دون التعامل مع هذا البعد الضروري. بل لا تكون الزراعة زراعةً من غير تلك الأشياء الغريبة – المؤتلفة مع الحقل. إن الإزدواج بين الغريب- المؤتلف (هو هو ) الأمر نفسه مع العقل، الذي يضمر في سياقاته كل ما يضاد العقل ويعطيه وجوداً ضعيفاً أو مضاعفاً.

لدرجة أن وجود الثقافة ( داخل العقل وحوله) سيرده إلى التاريخ الفعلي لما يسمى بالعقلانية باختلاف درجاتها. ليس توجد هناك العقلانية المطلقة في تراث الإنسانية. لأنَّ كل عقلانية هي مجرد مرحلة كانت قابلة للتطور، ثم أصبحت لم تكن كذلك. أو كانت غير قادرةٍ على التطور، ثم انتعشت خلال مرحلةٍ لاحقة، نتيجة تجديد التراث وتأثير العوامل الإصلاحية الكثيرة. وكما أنَّ العقل ثري الجوانب، فهذا ليس بسبب خُلوصه المنطقي الصارم، ولا بسبب تأملاته التامة فيما وراء الثقافات الإنسانية، لكنما كل ذلك بفضل أنَّ الثقافات تقبل وجوده وتتفاعل مع حركته ودروبه التي تنتج ما هو ملائم وقادر على النفاذ.

لعل الثقافة إزاء العقل مثل المُناخ الذي يهيئ وجوداً منتظراً له، هذا النمو الذي قد يتأخر سنوات وسنوات لمجرد أنَّ المُناخ ليس مواتياً. وفي الثقافة العربية هناك عوامل كثيرة تعوق العقلانية أولها مفهوم العقلانية ذاتها التي تحددها الثقافة. فالثقافة تقول إن العقلانية هي ما تتماشي مع الأطر السائدة والقابلة للتكرار بحسب آليات الفكر. وهذا ما يعني أن العقلانية كانت ومازالت مدَّجّنة بفعل فاعل مسبق، وليس لها أن تشب على الطوق إطلاقاً. وهذا الطوق قد يكون خفياً لدرجة كونه من الأسرار التي تهيمن على الحياة العامة.

والثقافة في هذا الإطار تستعمل كافة مواردها الرمزية والمادية في تقوية قبضتها على ما تملك من سلطة. ولا يستطيع العقل التملُّص بسهولة من تلك القبضة الحيوية والمدمرة في الآن نفسه. قبضة حيوية، لكونها ستعرِّف العقل إلى نفسه وستعمل فيه مما يشكل دوافع الرؤية المختلفة والتوجهات غير المهادنة لطبائع الأشياء والقضايا. وقبضة مدمرة، لأنَّ كلّ ثقافةٍ لا تهادن العقل بحال من الأحوال، بل وستأتيه من أبعد المناطق نأياً عن تأثيره في محاولة الاستحواذ عليه كلما أراد الإفلات. وبخلاف هذه وتلك من الجوانب العامة، فالثقافة هي الحقل الذي يزرع فيه العقل ويبذر ويستزرع ويُقلِّم ويهذب ويحصد ويحتطّب.

هناك حجة قوية بكون الثقافة تشوش على العقلانية، بحكم أن الثقافة بها عناصر الاختلافات والفوضى كما هو واضح. وهذا أمر مفروغ منه بطبيعة الحال، لكن ذلك التشويس نفسه هو ما يشكل إمكانية التطوير وإعادة الإنطلاق في كل مرة يسقط فيها العقل. إن فترات الغسق الثقافي هي دائماً فترات النهوض الأقوى نحو الغد، هي الدرجة الحدية التي تُشْعر كل الناس بخطورة ما يجري وأنَّ عليهم كسر القيود وتحطيم الأسوار و الحدود. ولعلنا نلاحظ بعض الأراضي والحقول التي حين نراها لأول وهلة نجدها كئيةً وموحشةً وغير قابلة للإستزراع، لكن بمثابرة الفلاحة سنجد الأرض قابلة للاستصلاح وبإمكاننا استنباط منها نباتات ومحاصيل واعدة. شريطة أنْ تُعامل كما هي كذلك طبقاً لاحتمالاتها الكامنة فيها لا المستجلبة إليها وأنْ تكون حقلاً لإمكانيات المستقبل. كما أن نشاط العقل- بمعناه الفلسفي- الذي لا يؤثر في الثقافة ليس يجدي في عملية الفلاحة الفلسفية مهما تكن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى