عثمان لكعشمي - السوسيولوجيا بالمغرب: مُراجعات نقدية؟

صدر مؤخراً العدد الجديد – العدد 15- من مجلة «المِصْبَاحية» المغربية، وهي مجلة محكمة ومستحدثة، تصدرها كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس. خُصص هذا العدد لـ«علم الاجتماع في المغرب: مُراجعات نقدية». وهو من تنسيق نور الدين الزاهي. يقع في 188 صفحة. يضم ثماني مُداخلات أساسية، وهي عبارة عن مُراجعات، يعتبرها العدد نقدية لأهم من جاء بها من يعتبرهم هذا العمل، وغيره من الأعمال، بمثابة رواد مؤسسين لعلم الاجتماع في المغرب. يتعلق الأمر بمحمد جسوس، عبد الكبير الخطيبي، بول باسكون وفاطمة المرنيسي. يمثل هؤلاء الأعلام بشكل أو بآخر رموزاً أو علامات مميزة في تشكيل ما سمي بالسوسيولوجيا الوطنية ما بعد السوسيولوجيا الكولونيالية، في مغرب ما بعد اللحظة الاستعمارية.

سبعة أسئلة لسبعة مقالات
1- نقد مزدوج أم «بناء مزدوج»؟ ينطلق المقال الأول من فكرة مفادها: إن مجالات العلوم الاجتماعية الاستعمارية ما تزال إلى اليوم، تشكل تحدياً متعدد الأبعاد للمعارف الوطنية في المجتمع المغربي. لهذا يدعونا إلى الاستعاضة عن النقد المزدوج، بما اعتبره بناء مزدوجا لشروط إنتاج وتطوير معرفة علمية اجتماعية بالمجتمع المغربي، تستجيب لوظائفها المجتمعية الراهنة. بناء مزدوج للمؤسسات العلمية الكفيلة بوضع خريطة عمل وبرامج عمل بحثية حول القضايا المجتمعية الراهنية ذات الأولوية، لكن النقد المزدوج، على الأقل كما صاغه الخطيبي، ليس هدماً بالضرورة لكي نستعيض عنه بما سمي بناء مزدوجاً، وإنما هو في العمق يضع المعرفة الاستعمارية موْضع أزمة بغية مجاوزتها، وفتح أفق معرفي أمام صياغة علوم اجتماعية مغربية فعالة، لا تؤدي بالضرورة إلى سوسيولوجيا للتنمية أو سوسيولوجيا الخبرة، بما هي سوسيولوجيا دولتية.
2- هل ثمة فعلاً سوسيولوجيا لمحمد جسوس؟ لقد حاول المقال الثاني رصد أهم المعالِم التي تسم المُنجز السوسيولوجي لمحمد جسوس، وهي تحدد بشكل أو بآخر معالم ما سمي بـ«سوسيولوجيا محمد جسوس». انطلاقاً من التأطير الفكري والفلسفي والأدبي لهذا المنجز، يتعلق الأمر بما نُعت بمدرسة فكرية مغربية، مروراً من النقد الأدبي والتاريخ الاجتماعي، وصولاً إلى الموضوع الفعلي، أيْ رصد المنجز السوسيولوجي لجسوس، بالوقوف عند تكوينه العلمي والأكاديمي، وكذا مواقفه السوسيولوجية، خاصة تحديده لوظيفة علم الاجتماع في المجتمعات المسماة متخلفة في «التنظيف الكبير» فضلاً عن دروسه ومحاضراته الجامعية، وبغض النظر عن نضاله السياسي. لكن السؤال هنا هو: هل يمكن الحديث عن سوسيولوجيا لمحمد جسوس، مع العلم أنه كان يأبى الكتابة؟ وهل السوسيولوجيا يُراد لها أنْ تكون شفهية؟ إذا كانت ثمة سوسيولوجيا كامنة، في ما اعتبر من «منجزاته السوسيولوجية» فما طبيعتها الأبيستمولوجية وما الأسس النظرية والمنهجية والمفهومية والإبدالية التي تقوم عليها؟ وهل كان جسوس عالم اجتماع، أم أنه كان أستاذاً في علم الاجتماع في العُمق؟
3- ألم يؤد بحث فاطمة المرنيسي في «المساواة بين الجنسيْن» إلى انحرافها عن علم الاجتماع كعلم؟ يضعنا هذا المقال منذ البداية في صلب الاهتمامات البحثية للمرنيسي، مع التركيز على كتابها الموسوم بـ«الحريم السياسي: النبي والنساء». فعمل المرنيسي لم يكن أكثر من إعادة قراءة للتراث الإسلامي المُشَرْعِن للوضع الاجتماعي والسياسي الهامشي الذي تعيشه النساء في المجتمع المغربي، المتمثل هنا في النص المقدس وأحاديث الرسول، كما هو شأن إعادة تأويل الأسس الدينية لمفهوم الحريم، والحالة هذه، بغية إعلاء سلطة العقل. كانت قضيتها الأولى هي الدفاع عن المرأة، من خلال تقويض المشروعية الدينية التي تقصي المرأة من ممارسة السلطة والمشاركة السياسية. ألم تتحول المرنيسي إلى تراثوية، إنْ لم أقل إلى سلفية، خاصة عندما عملت من خلال أبحاثها في التراث الإسلامي على شرعنة دينية للمساواة بين الجنسيْن؟ وهل انتهى بها المطاف إلى عالمة اجتماع أم إلى مناضلة نسوية؟
4- باسكون ومونتاني: هل يتعلق الأمر بإحالة غائبة أم مُغيبة؟ يُحاول المقال الرابع من هذا العدد، أنْ يُمَوْضع العلاقة المُفترضة والممكنة بين كل من بول باسكون وروبير مونتاني، من خلال أطروحة بول باسكون المركزية: «المجتمع المركب» المتجسدة في عمله المركزي: «حوز مراكش». فهو يؤكد فكرة مفادها: إن عمل باسكون هذا، قد استحضر من حيث لا يحتسب، عمل مونتاني الموسوم بـ«البربر والمخزن» طوال البحث. مع العلم أن باسكون لم يحيل بشكل توثيقي إلى مونتاني، أتعلق الأمر بالاصطلاح أو بنظام الري في الجبل، أبالقَيْدَلية والقبلية أو بالمجتمع المركب. ألم يكن باسكون واعياً بذلك؟ وبالتالي عمل على تغيب مونتاني كإحالة، ليس حطاً من قيمة ما جاء به، بل مجاوزة للأدلجة الاستعمارية التي كانت تغلف أعماله وتتخلل أبحاثه.
5- هل كان نقد باسكون للدراسات العقارية محدوداً؟ يقدم لنا المقال الخامس مراجعة نقدية لنقد باسكون للدراسات العقارية. فهو يعلن منذ البداية تحفظه على هذا النقد ومحدودية نظرية أنماط الإنتاج التي يقوم عليها نقد كهذا، فهي تغفل إلى حد كبير تاريخية الملكية العقارية والمستوى الرمزي والثقافي بالمعنى الأنثروبولوجي؛ لذلك يقترح علينا التعامل مع المِلكية العقارية بوصفها نظاماً تفاضلياً، من خلال دراسة جينيالوجية لهذه الملكية، تعتمد على مقاربة تاريخية وسوسيو أنثروبولوجية للمسألة العقارية. ما سيمكننا من مراجعة شاملة لمفهوم المجتمع المركب. لكن: هل كانت هذه المراجعة كافية لإبراز محدودية نقد باسكون للدراسات العقارية؟ ألم يكن حرياً بهذه المراجعة أنْ تنطلق من أعمال ميدانية مكثفة يمكنها أنْ تختبر فعلياً هذه المحدودية؟ ومن ثم تأزيم نقد باسكون من الداخل، من داخل أبحاثه الميدانية.
6- هل تحظى المقاربة التجزيئية بأي راهنية فعلية؟ يرمي المقال السادس إلى الكشف عن درجة راهنية المقاربة التجزيئية للمجتمع المغربي باعتبارها مقاربة أنثروبولوجية وسوسيولوجية أنكلوساكسونية، ما بعد كولونيالية، خاصة لدى كل من واتير بوري وإرنست غلنر، عبر بحث ميداني عن علاقة النخب القروية بالسياسة وبالتغير في القرى في المغرب. وهي منظومة نظرية تقول بالطابع التجزيئي للمجتمع المغربي، وبالتالي عدم قابليته للتغير باعتباره مجتمعاً ساكناً. لبلوغ هذا المسعى تم استحضار نتائج البحث الميداني المعني، لكن دون الكشف استقرائياً وتفكيرياً عن مدى راهنية تلك المقاربة أو لا، أيْ أن المقال لم يبين لنا أين تكمن تلك الراهنية، أو قصورها النظري في تفسير المجتمع المغربي وفهمه.
7- هل تنفلت تجزيئية غيلنر من قبضة الخطيبي؟ حسب المقال السابع، يندرج النقد الذي وجهه الخطيبي للمنظومة التجزيئية بعامة ولتجزيئية غلنر بخاصة، ضمن تحرير معارف العلوم الاجتماعية من النزعة الاستعمارية. غير أن نقد الخطيبي هذا، ينم عن الخلط، الذي وسم انتقادات «الرواد» بين التجزيئيات؛ فليست هناك منظومة تجزيئية واحدة بقدر ما هناك منظومات تجزيئية. وهذا ما أغفله صاحب النقد المزدوج، لذلك، أدى هذا النقد إلى إقصاء تعسفي لتجزيئية غيلنر، على الرغم من انتقاد هذا الأخير للجدوى الكاملة المزعومة للنموذج التجزيئي. لذا، يعتبر نقد الخطيبي هنا نقداً هشاً، لاسيما وأن معرفته بغيلنر كانت معرفة هشة، مرت عبر وساطة جون فافري، كما هو شأن غيره.
على الهامش: مُساءلة مفتوحة
هل يتعلق الأمر فعلاً بمراجعات نقدية؟ وبأي معنى هي نقدية؟ يتعلق الأمر بمفهوم معين للنقد، يقوم على حس كانطي، لهذا فهو يبعد إلى حد ما المعنى الهدام أو البناء للنقد، ويقربنا من مفهوم كانطي؛ ذلك أن النقد في نهاية المطاف هو «جهد مُضاعف للحضور داخل فكر الآخر» بل هو أيضاً بمثابة جهد مضاعف للغياب، أي خارج فكر الآخر وممارسته، ولأن النقد «تفكير للحدود وليس بالحدود» فما الحدود الأبيستيمولوجية للسوسيولوجيا في المغرب؟ إنها تقع ما بين السوسيولوجيا الكولونيالية وما بعد السوسيولوجيا الكولونيالية.

عثمان لكعشمي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى