مصطفى الحسناوي - لغة الجسد/ لغة الآخر

لذكرى الراحلين الكبيرين إدمون عمران المليح وعبد الكبير الخطيبي


تطرح العلاقة مع الجسد سؤال الجسد باعتباره الموقع الذي انطلاقا منه تتشكل صورة الآخر ، وينظر إليه كآخر يستدعينا للتواصل معي خصوصا وأن الآخر يهمني كجسد رغما عني. إن سؤال الجسد سيكون هنا بالضرورة سؤالا لأنه سيطال الهوية ومحتواها الوجداني/ الثقافي والتاريخي، ولأنه سيكون سؤالا يدعو الجسد إلى التحرر من علائقيته مع أساطيره الخاصة، وابتداع أساطير أخرى يمكن عبرها أن يجد موقعا يكون معاصرا لموقع الآخر ومندمجا في سياق حداثته دون فقدان سمات خصوصية، ومن هنا هذا الوعي الشقي الناتج عن التأرجح بين نزوع كوني مؤسس على علاقة المساواة مع الآخ، وبين الحفاظ العارم على امتيازات ومصالح الجسد، الناتج أيضا عن الطموح الى وضع ينتظم فيه كل منهما مؤكدا أن حلم البراءة هنا سيندثر ويمحي كلية، وسيعوض بفكره الضرورة والحاجة التي تبرر كل معاصرة ممكنة للآخر .إن المعاصرة هنا لاينبغي أن تكون محوا لصفات الجسد ولا موقفا انبهاريا من شأنه إلحاق مقوماته بالآخر المهيمن، بل أن تعاش المعاصرة كتجربة فريدة عبرها يستطيع الجسد محاورة الآخر انطلاقا من منطلقاته الخاصة وانطلاقا من تجربة التفاعل التي عبرها يتعلم الجسد رؤية نفسه في الآخر، لأن من شأن هذا التفاعل الحفاظ على كينونته كجسد وعلى جوانب تميزه وتطعيم مخيلته بحضور الآخر .إنه جدل الانفتاح والحفاظ في الآن نفسه على مقومات الجسد الذي يضاعف من قوة الذات ومناعتها وفاعليتها .إن الجسد هو دوما التعبير عن قوة نزاعة إلى التوحد مع عالم ما وتجاوز كل وضع مغلق والتأكيد على ضرورة طرح الاختلاف كفكر مضيء فعال وباني ، أي كحركية دائمة باتجاه آخر يتشكل في حقل وعينا كآخر محدد السمات وفعلي الحضور، لا كآخر مفترض وعائم حتى لا يظل فكر الاختلاف مجنونا وكسيحا. إن النظر إلى صورة الآخر لا يمكن أن تتم إلا انطلاقا من انجاز تحقيب لها أو ما يمكن تسميتها بقراءة أركيلوجية لها يتغير صداها عبر تحولاتها وانتقالاتها التاريخية من وضع إلى آخر، حتى يتفادى السقوط في نوع من التصو ر الطوباوي للآخر ومن المديح المجاني للاختلافات ،لأن الآخر على أي حال لا يترك صورته تفلت من بين يديه بل إنه عبر تاريخية علاقتنا معه أعطانا صورا ذاتية Autoportraits عن نفسه . هكذا نستطيع استثمار حضور الآخر في متخيلنا لا باعتباره مرجعا مطلقا، بل باعتباره فقط مجرد ممكن داخل حقل الممكنات ، لأنه – كما يقول تودوروف في كتابه الأخير «نحن والآخرون» (ليس هناك من علاقة مع الآخر إلا عبر سوء التفاهم الذي إما أن يكون إيجابيا مخصبا أو كارثيا). إن استثمار هذا الممكن إذن ينبغي أن يدفعنا إلى التعامل معه انطلاقا من مبدأ الندرة الذي يحدد لنا كيفية استيعاب حضور الآخر في زمنيتنا، كيفية اشتغاله حسب قوانين لا يكون عنف العلاقة، غرائبيتها أو تضخمها ناظمها الوحيد، حتى لا يتشكل هذا الآخر كمركز بارانوي مهيمن على الهوامش . إن المسألة هنا تتعلق بنوع من الكونية الإيجابية التي تسمح بالحوار مع الآخر، حتى يصير العالم موقعا يمكن للتواصل الخلاق أن يشتغل داخله، سواء على مستوى العلائق أو مستوى التمثلات .تدفعنا هذه الأفكار إلى التساؤل ضرورة عن صورة الآخر. عن أي آخر هذا الذي ينبغي لنا الالتقاء به وتلقيه كجزء منا ومحاورته ؟ هل الآخر الذي تحول مع ازدهار الرأسمالية إلى ميتافيزيقا تقودها رغبة كولونيالية/ كونية في العصف بالهويات والاختلافات وتوحيدها ؟ هل الآخر الذي هو عبارة عن استراتيجيات متعددة الأوجه للإخضاع والهيمنة والتعامل مع جسدنا كهامش غير يقظ غير متحضر؟ .هل الآخر الكوني الذي يرغب في نشر رداء عقلانيته على الأجساد المغايرة له وتسليط مكونات مركزيته على الهويات منذ بزوغه الأول ؟ .هل هو آخر/ المعرفة الذي يسائل محتويات جسدنا ويحاول أن يضع تحت تصرفنا مجموعة من آليات ومناهج التأمل والتحليل؟. هل الآخر الذي يدعونا دوما إلى تفكير صورتنا بنفس عتاده المفاهيمي وتمثلاته؟. إن منطق الاختلاف الخصب والمنتج قد يكون المدخل الأمثل لرصد هذه الصورة الممكنة، لأنه لا يتحدد إلا من خلال قابلية الآخر الاغتناء بإسهامات الجسد : ولأن يصير صورة مقروءة قابلة لأن تدرك وغير ملتبسة، متخلفة من إرث ماضيها الكولونيالي .إن الآخر ليس صفحة بيضاء جاهزة لنكتب كحضور وكأثر داخلها، إنه ليس كلية متناسقة لأن له هوامشه وفضاءات صمته، إنه آخر متعدد مخترق من طرف الاختلافات التي تشتغل داخله على الصعيدين الخطابي والممارسي ، كما أن الجسد نفسه ليس موقعا أبيض محايدا، إنه متورط ضرورة في تعدديته في لغاته وفي فعل اكتشاف الآخر. إن له هوامشه وقارات صمته أيضا .لا يمكن للصورة التي نفترض تكوينها عن الآخر أن تكون خاضعة للعبة ذات غاية منفصلة عن أنا الجسد، لأنها لا تتشكل خارج سيرورة تسميتنا لجسدنا حتى لا تكون الصورة مجرد استنتاجات لا واعية أو سقوطا مجانيا في جاذبية المعنى/الآخر الذي يشدنا إليه مقيدا قدرتنا على التخيل والتأمل : التخيل الذي ينتج الآخر ولا يقيمه والذي لا ينظر من داخله إلى فكر الاختلاف كفكر تحركه عقدة النقص .إن استدعاء لصورة كهذه يؤدي بنا إلى مساءلة الجسد: أي جسد هذا الذي يصير قابلا ومهيأ للالتقاء ؟ هل بإمكان الجسد إلغاء صفاته والتواصل مع الآخر كآخر مطلق الهيمنة؟ وهل يمكن للكلام أن يصير فاعلية تعمل على تحريك وتشغيل جدل الأمل داخل سجل اختلاف يشيد الهوية لا كفضاء لما كان بل لما سيصير ويتشكل في أفق الإتيان ، وهل بإمكان اللقاء أن يصير لقاء جسد بجسد لا يمحي عبر الاختلاف بل ينكتب ويتجسدن ؟. إنها كلها أسئلة محايثة لكل تفكير ممكن في علاقة كهذه تدعونا باستمرار إلى قول إمكانيات الجسد العلائقية ، وإلى قول الآخر ومحاورته كصورة ممكنة لا مصادرته انطلاقا من مدلولات تؤسس وضعه ككينونة غير قابلة للتلميس «من الملموس «لقد اعتقدت العثور على مفهوم للآخر- يقول دولوز – بتحديدي له لا كذات ولا كموضوع بل كتعبير عن عالم ممكن «(1). إن القبول بثنائية الجسد/ الآخر لا يخلو – رغم ذلك – ومن نوع من المجازفة أو المخاطرة الفكرية، بالنظر إلى أنواع القطائع والتحولات المأساوية التي عبرها تشكلت صورة الجسد / وصورة الآخر عبر تجربة تاريخية متميزة بصداميتها وعنف مغايرتها ، وعبر الصراع الذي تم داخلها بين زمنين متعارضين وكينونتين متناقضتين : الزمن الثيلوجي للجسد وكينونته المغلقة، الحذرة والذي نظر إلى الآخر دوما كعنصر مضاد لفاعليته التاريخية ومباح دمه باستمرار، والزمن العقلاني للآخر الذي أتى في صور متعددة: صورة التاجر ، صورة العالم ، صورة المستعمر…إلخ، والذي قد لاتكون صورته مختلفة أصلا عن هذا الشكل العقلاني لنزعة الهيمنة التي تفرض وجود نمو كوني خطي للمثاقفة، وتعمل على تحقير الاختلاف وإعادة تأويله حسب مقولات تاريخية: كالتأخر التاريخي مثلا . من هنا يتمظهر تمييز العلاقة مع الآخر ونظامها وتاريخيتها باعتبارها علاقة متوترة وذات أشكال متعددة، ومن هنا أيضا ضرورة إقحامها حيز التاريخ، لا حصرها في مجرد تيمة للتأمل المجرد غير مضمونة إجرائيتها، لأن التاريخ هو فعلا أفق المساءلة الذي ينقذ من عنف الخيال ويدفع بنا الى الوعي بهذه الثنائية ضمن سياقات تبلورها وتغيرات مضمونها .إنه أفق يقودها فعلا إلى إعادة كتابة تاريخ علاقة التواصل المشوهة مع الآخر والموشومة بالعنف الممارس على الجسد، وإلى إعادة بناء تجربة التواصل المعاق والعلاقة الإطيقية المستحيلة وتفكيك صموتات هذا الإرث ومرارته. إن هذا التشوه خضع عبر مساره التاريخي إلى حتمية عبرت عن نفسها عبر ممارستين اثنتين:
الاقتلاع من سياق التواصل .
نفي أية مشروعية عن الجسد ولكنها حتمية غير قدرية، لأنها مرتبطة بضرورات التاريخ ومصالح الفعلة الأقوياء فيه وإرادتهم .
إن ثقافة الجسد لم تكف أبدا عن إنتاج خطابات حول الآخر وتفكيره واكتشافه انطلاقا من الخطاب الديني عنه، إلى الخطاب التاريخي، إلى الخطاب الفلسفي وإلى الخطاب التقني .إن متطلب الغوص في التجربة التاريخية والنظر الى التاريخ كتاريخ شامل ضروري إذن للمس تحولات هذه العلاقة وصورها بين قوة وعنف «الهم» والمغايرة المتوحشة «للنحن»، إلى أن صار ممكنا مع بزوغ الزمن الحديث التحدث عن جسد/ ذات متكلمة ذات مستقلة تأسست وانتقلت من مستوى المطلقات إلى مستوى المعرفة بالآخر، الذي تجسد كآخر ولم يبق نسيانا خالصا حيث أصبحنا- في ظل الحداثة – جسدا/ خطابا قابلا للتأويل من طرف الآخر الذي اقترب من مخيلتنا بجهازه المعرفي / المفاهيمي، وانتقل من وضع الفكرة إلى وضع الصورة التي تمارس تأويلها الخاص لنا. صورة تعلن، تتكلم ولا تنتظر منا نحن أن نؤولها.
إن التفكير في هذه العلاقة يعني استرجاع إمكانية الكلام الأصيل والمؤسس للكينونة المتفردة للجسد، والذي يتكلم وفق نمط صباحي من القول متجاوزا وماحيا الأساطير المهيمنة .إنها حالة اختلاف واع بمقدماته وطرق تحليله ينطرح دوما كفكر واعد وحالة رغبة تتبلور عبر إرادة محددة .إنها حالة جسد يؤاخي صوته ويستأنس به ويشكك في صلاحية المسبقات، ويعوض بالاشتغال على العمق والامتداد والصيرورة المسكونة بتفاعلاتها وتعددها، ما ينقص الخطابات السطحية الناهضة على منطق الاختزال والتصنيف الأعمى .إنه تفكير يعلن إرادة الحضور وقوته في حاضر يتكلم لغته وتميزه .تنطرح هذه الإرادة باعتبارها إرادة الحقيقة التي تعني في جانب أساس منها إرادة تخيل الآخر ، لأن من شأن اكتشاف إبداعية تأكيد إبداعيته الجسد. إنه الآخر الذي يسكن كينونتنا والذي عن طريق التواصل معه يتملك الجسد عنصرا آخر من عناصر كلامه الأصيل، ويتحدد أيضا ككينونة داخل العالم .إن الجسد في العمق لا يساوي الأنا فقط، بل الآخر أيضا .إن مفهوم الجسد ينطرح هنا كتماهي للمتميز مع الكوني الملموس الذي تتماهى الأجساد المتميزة داخله، محافظة في الوقت نفسه على عدم تماهيها مع الأخرى، أي على خصوصياتها .إن طرح مسألة التعرف على الجسد المتميز في الآخر تشير إلى الآخر كلامفكر فيه من طرفنا ، يحضر كشرط أساس محدد لأفق كينونتنا ،لأن غيريتنا جزء أساس من تماثلنا مع صورة جسدها ومن علاقتنا مع هويتنا .ليس المطروح هنا امتصاص الآخر وتذويب غيريته بل فتح الجسد على متخيلات أخرى مغايرة لتجاوز كل نفي غريزي للآخر وحضوره .إن صيرورة الخصوصيات أفقا فاعلا لا تتم ولا تشتغل إلا انطلاقا من هذا الفهم ، من هذا الاعتراف بالغيرية اعترافا أخلاقيا حواريا واحترامها في مدلولها الحضاري الثقافي والكينوني الذي يدفع بالجسد إلى تفكير المسكوت عنه داخله. إن الجسد آلة تفكير تعمل دوما على خلق صور متعددة يتم تداولها على نطاق واسع وضمن علائقية تخصبها الاختلافات .ضمن هذا التداول الموسع والاستحضار الواعي يحصل إخراج الجسد من دائرته وإدماجه في زمن كوني إدماجا غير إرادوي، لا يلغي تمييزه، وهو ما يضعه لا في إطار علاقة مع ذاته وزمنه الخاص فقط، بل ومع زمن الآخر .إنه الخروج من بؤس الزمن الدائري المغلق الذي يعيد إنتاج يقينياته ومسبقاته /من الوعي الفرح بالذات وامتلاء كينونتها بآثارها الثابتة وولوج فاعلية المحو المشرق، والتشققات والشروخ والانتقال من المستمر إلى المتقطع، الذي يجعل من القطيعة شكلا للوعي بالجسد وحدوده، لكن من منظور الاختلاف لا من منظور التوحد مع الذات وماضيها إذ لا وجود – في حيز الاختلاف اليقظ – لفكرة الجسد الخالص. إنه لا يوجد إلا داخل نمط تفكير ووعي دائري مشغول بنقاء مقوماته مكرس للعزل والإقصاء ومسيج للجسد بمقولاته الضابطة والصارمة. إن التفكير من داخل القطيعة مع طروحات كهذه هو ما يطرح لعبة الاختلاف كلعبة تفكير ضرورية ، إنتاج صورة الآخر وتمثلها نقديا .إن مسألة التشبث بالجسد/ الواحد المكتفي بواحديته قد تكون مسألة ينبغي التعامل معها بحذر لأنها :
(1) تضعنا مباشرة أمام استحالة كتابة الجسد سواء في لغات تعدديته أو في لغة الآخر ،واستحالة الكتابة بطريقة أخرى ممكنة واستحالة انكتابه خارج السجل السكوني/ اليقيني وداخل سجل الصيرورة ،لأن مسألة التشبث الواحدي بالجسد تنظر إليه أصلا كجسد قاصر لا كجسد راشد.
(2) قد تقودنا نحو منطقة اللاعودة وتدفع بنا إلى الانزواء في عتمة كهفنا والتماهي مع صورة المحرم وتحجب عنا الآخر ووجه حقيقته أو حقائقه
(3) قد ينتج عنها نوع من القلق الأنطلوجي، نوع من نسيان الكينونة وحقيقتها وتغطيتها بالميتافيزيقا الواحدية. إنه القلق الذي سيعلن بؤس جسدنا وفقره ،لأننا حينها سنكون جسدا واعيا بموته وبفعل استحالة تواصله مع الآخر .إن معرفة الآخر تفترض الانخراط في نوع من المغامرة المؤسسة لتجربة الجسد – داخل – العالم، الجسد كنسق مفتوح على أوضاع أخرى وحالات ممكنة تخصب بالضرورة توجهاته ونزوعاته وتبعده عن وضع الكبت والحرمان ، أي أن نكون جسدا غير مكتف بوجوده وحده ، بل مرتبط جدليا بعالم يستدعيه /ينادي عليه من البعيد ليصير حاضرا ، خصوصا وأن فهم مكونات تميز الجسد واختلافه لا تتم إلا خلال هذا المرور الجدلي من الذاتي إلى موضوعية الكوني .تدفع هذه التجربة بالجسد الخاص نحو التجذر داخل وجوده المتجدد بمختلف تفاعلاته وإلى تجاوز حالة العقاب التي عانى منها ومازال ،إبان وضعه كجسد مغلق أي بسبب انفصاله عن العالم وتكيفه الصعب مع لغاته وتطوره السريع والمعمم. إن هذا الاشتغال بالآخر محايث للانشغال بالجسد ، بل إن الأول لا ينجز إلا عبر الثاني لأن إرادة الكلام ورهان الحقيقة لا يكونان فعالين إذا لم يقدرا على تحويل تمثلنا للآخر وعلاقتنا مع جسدنا وتمثلنا له، لأن منطق علاقة كهذه غير قابل للاختزال في معيار التوحد القاتل .إن علاقة الإنسان بالآخر وحضوره ليست حكما على الجسد بالضياع والانفصال الكلي عما يؤصله كجسد وكاسم خاص، لأن الهوية لا يمكن أن تدرك كهوية أصيلة إلا في إطار خضوعها لصيرورة معينة ، ولأن الجسد ليس مادة قابلة للاختزال ، إنه يظل دوما الحضور الذي لايمكن احتواؤه من طرف الآخر .إن سجل الاختلاف يحضر هنا كحد مضيء يتحكم في عملية التواصل الإطيقي بين الطرفين ، حد التلاقح الفذ بين هذين الموقفين الحضاريين الثقافيين، والانفتاح على أوضاع كينونية أخرى .إنه الحد الذي يتحكم في تحويل اللعبة من وضع الاستحالة وعنف الاختلاف، من المظاهر الزائفة والخداع إلى طاقة مولدة لسيرورة علاقة هي نفسها السمة الأساس لما يصير داخل الزمن جسدا مفككا لمركزية الآخر العرقية والعقلانية، متحررا من شبكة المسبقات ومن الهوس الأعمى بلهوية مغلقة .إنها صيرورة الجسد /الآخر التي تدفع بنا إلى الاحتفاظ بمغايرتنا وتفكير ذاتنا في الآن نفسه ، من داخل مغايرة أخرى لا تكون بالضرورة ملازمة لنا ولا لشكل فهمنا للكينونة والعالم ، وتدفع بنا أيضا إلى مساءلة تجربة العلاقة مع الآخر ،باعتبارها مصدرا لمعرفتنا به لأن ميكانيزماته تتوجه نحونا على أي حال خارج إرادتنا أحيانا كثيرة .يتطلب منا وضع كهذا ألا نزيل عنا رداء غيريتنا ، وأن نتعامل مع الآخر ككلية متأصلة في ذاكرة جسدنا ومتموقعة في شرايين المتخيل لابسبب عنف الآخر الذي استثمرنا بشكل إثنوغرافي إكزوتيكي انطلاقا من معرفته العلمية الاستعمارية الراصدة لأدق تمظهرات جسدنا ووطقوسه، لغاته ومتخيله، بل بسبب الآخر المسؤول تجاهنا مسؤولية إطيقية أولا وقبل أن تكون حضارية أو ثقافية، مسؤولية تنبذ كل استلاب أو نفي أو إحساس بالدونية وتسمح له بفهم وتفسير هذه التعددية الثقافية وإنتاج معرفة بالاختلافات خارج مركزية عقله الأوربي .إن قوة حضورنا كجسد مؤمن بصيرورته هي التي تدفعنا إلى تفكيك تاريخية عنف الآخر وأساطيره. هنا بالذات – أي في حيز هذا التفكيك الواعي – تتجلى إرادة التفكير وقدرته على الخلخلة المرتبطة بإرادة الجسد ، لأن الكائن الإنساني يعرف كيف يفكر نقديا إذا ما توفرت له إمكانية ذلك، ولكن هذا الممكن نفسه لايضمن لنا دوما أن نظل قادرين على إنجاز حدث التفكير هذا، إذ المطلوب منا دائما ونحن بصدد إنتاج معرفة بالآخر هو أن نكون يقظين تجاه أوهام جسدنا وأوهام هذا الآخر الذي نتقصده لمعرفة مقوماته ، حدوده وشروط التعامل معه، حذرين تجاه مديح الجسد كجسد مطلق الاختلاف، وتجاه تلك النسبية الفجة التي قد نسم بها الآخر وعقله ونفقر عبرها كونيته .إن الصورة الذهنية قد تدفع بنا إلى الانسياق مع لعبة الخطاب، فنخلق آخرغير ملموس بل غير كائن، آخر نجرده من لحظة تحققه الفعلي لأنه بالنسبة لنا سيكون آخر الفكرة التي تخلق مضمونها دوما على مقاس فهمها وتمثلها الإيديولوجي ، إن «الدخول إلى حقل (هذه الثنائية) يتضمن الدخول إلى تاريخ الحقل يعني الاندماج في عمل تاريخ هذا الحقل بواسطة الاعتراف ومعرفة الإشكالية التاريخية المشكلة والتي توجد مؤسسة داخله»(2).
إن الجسد والآخر باعتبارهما قطبا علاقة قلقة داعية إلى التأمل لا يفلتان معا من التأويل وإنتاجيته ، لأن كلا منهما ينصهر في تعدديته ومستويات معرفته بذاته أولا ، ويقف في مواجهة الآخر لمعرفته ثانيا، لأنهما معا عالمان ممكنان ضمن شرط علائقي ممكن . إن الآخر بالنسبة لنا هو نفسه هذه المعرفة المتعددة الأوجه التي تهاجر نحونا باستمرار وبصور مختلفة، إنه لا يوجد إلا عبر كتلة المعلومات الخطابات والتمظهرات التي تمرر نحونا لتشكل صورته، شكل حضوره داخل جسدنا .إنه آخر يرحل نحونا عبر وسيط محدد ، هو عبارة عن شبكة كبرى من الإنتاجات الثقافية والممارسات والأشكال الحضارية .إنه ليس هبة تمنح لنا إنه الآخر الذي نشكله انطلاقا من هذا السيل من المعلومات «أن نجمع في مجموعة أي أن نعبر، يعني هذا أيضا جعل الدلالة (دلالة/دلالات الآخر في سياق حديثنا) ممكنة .إن هذه هو وظيفة الموضوع أو الحركة الثقافية (…)إن الجسد هو الفعل الذي عبره يغوص الفكر في العالم الذي يفكره وهو أن يعبر عن هذا العالم تبعا لذلك في نفس الوقت الذي يفكره فيه» (3). إن تلقي الآخر يدعونا إلى هذا الغوص /التفكير في السيل الهائل من الأفكار والتمظهرات الذي يرسله نحونا ، والذي يصبح تبعا لذلك منسجما- ضمن شروط معينة – مع متطلبات لحظتنا مع الضرورة التواصلية التي تفرض علينا التحاور مع آخر معين ينسجم مع أفق إدراكنا مع رغبتنا التي هي الوجه الآخر لسلطته وقوة حضوره .إنه بمعنى ما آخر الرغبة كسلطة وضرورة والذي بدونه لا تتحقق هذه الرغبة التي صارت رغبتنا، خصوصا وأن قوته تتجلى في «خطابه الإقناعي» في محفزات وإغراءات هذا الخطاب ، وفي استدعائه الدائم والملح لنا .انطلاقا من هذه الرغبة/ السلطة التي عبرها يحضر الآخر، نلمس كيف أنه يتحكم في شكل صورته المرغوبة من طرفنا ، ونرى كيف أن معرفة الآخر تظل مهما تحررت من أسر المسبقات مشروطة بإرادة قوته، وعنفه سواء كان ماديا أو رمزيا. هنا بالذات، في حيز هذه الإرادة تتجسد الاستحالة، استحالة محو العنف المادي والرمزي الذي طال الجسد بمختلف مكوناته، استحالة أن تكون ذات الآخر ذاتا إطيقية بامتياز، إذ كيف يمكنه محو وشم المأساوي الذي مازال يسكننا .

الكاتب : مصطفى الحسناوي


بتاريخ : 07/01/2022



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى