أبووردة السعدني - الكوراني : شيخ الاسلام

... عجيب أمر علماء الحضارة الاسلامية ، كأن الله قد أودع قلوبهم شغف طلب العلم ، فجرى مجرى الدم في العروق ، اصطنعهم الله على عينه ، فاصطفاهم اصطفاء دفعهم إلى تحمل فراق بلادهم وأهليهم إلى حيث تلقي بهم يد الترحال طلبا للعلم ، وكأني بالمولى : شمس الدين ، ثم :شهاب الدين أحمد الكوراني الشافعي ثم الحنفي ، كأني به واحد من هؤلاء العلماء الذين فارقوا أوطانهم ، وودعوا أهليهم وداعا لا لقاء بعده طلبا للعلم ...
... تذكر المصادر التاريخية أن الكوراني ولد عام 813 /١٤١١ ، في قرية " جلولاء" من أعمال "كوران" القريبة من " شهرزور" - حلبجة " ، الآن ، التابعة لمحافظة السليمانية الكردية شمال شرق العراق - ، وقد خرج من تلك المنطقة من الأجلة والكبراء ، والأئمة والعلماء ، وأعيان القضاة والفقهاء ، ما يفوت الحصر عده ، ويعجز عن إحصائه النفس ومده ، وأغلب فقهائها شافعيو المذهب ....
.... العجيب في أمر الكوراني أن يتطلع الى المعالي ولم يبلغ من العمر مبلغ الرجال ، تعلقت روحه واشرأبت نفسه إلى مدينة القاهرة - عاصمة دولة سلاطين المماليك - ، التي طبقت شهرتها آفاق العالم الاسلامي بأزهرها ومدارسها وعلمائها ، فحمل على ظهره ما تيسر له حمله من كتب العلم ، وما خف من الثياب ، موليا وجهه شطر كعبة العلم في مصر - رحل رحيلا دون رجعة - وعمره لم يتجاوز الثانية عشر عاما على أحسن تقدير ...!!...
... تنقل الكوراني بين مراكز الحضارة الإسلامية - في طريقه إلى القاهرة - متتلمذا على علماء تلك الحواضر العلمية ، فتتنوعت مشاربه ، و توسعت مداركه ، لتعدد شيوخه وأساتذته ، فنهل من علم علماء : حصن كيفا - بلدة تركية قديمة - ، وجزيرة ابن عمر ، ودياربكر ،وبغداد ، ودمشق _ أقام بها خمسة أعوام - ، و القدس ، ثم ألقت به عصا الترحال إلى مدينة القاهرة عام 835/١٤٣٢ ، وكان عمره اثنين وعشرين عاما ، خالي الوفاض ، فقيرا جدا ، لايملك فتيلا ولا قطميرا...!!..
... وهكذا أخذ ( بضم الأول وكسر الثاني ) الكوراني بالقاهرة ، حاضرة الجامع الأزهر والمدارس العلمية والعلماء ، الذين ذاع صيتهم وعمت شهرتهم العالم الاسلامي ، فانكب على طلب العلم من أكابر علمائها كالمقريزي ، وابن حجر ، والشرواني ، وغيرهم من الأعلام ، فكان نابغا مرموقا بين طلاب العلم ، حتى قال عنه المقريزي :" ... قرأ علي - أي على المقريزي - صحيح مسلم والشاطبية ، فبلوت منه براعة وفصاحة ومعرفة تامة لفنون من العلم ، ما بين فقه وعربية وقراءات وغير ذلك " ،هذا إلى جانب إجادته اللغات : الكردية والعربية والفارسية والتركية ...
.... أتم الكوراني تحصيله العلمي ، فلما أجازه أساتذته ، حرص على حضور "مجالس الكبار " ، كمجلس قراءة صحيح البخاري الذي يحضره السلطان ، وأهلته اللغات التي أجادها للتواصل مع كبار المباشرين من العلماء والأمراء ، كان من بينهم " كاتب السر " في مصر " كمال الدين محمد البارزي - ت856 /١٤٥٢ - صهر السلطان جقمق -ت857 /١٤٥٣- الذي نعته ابن تغري بردي ب " عظيم الديار المصرية وعالمها ورئيسها " ، وعرف - أي البارزي - بالشهامة والكرم والإحسان إلى طلبة العلم -لاسيما الغرباء - ، ومحبتهم وإجراء الرواتب الشهرية والسنوية عليهم ، نوه البارزي بالكوراني ، وقدمه إلى صهره السلطان الظاهر جقمق ، فقربه إليه ، وصار أحد ندمائه وخواصه ، فعلا شأنه وارتفعت مكانته ، وانثالت الدنيا عليه : من وظائف ورواتب وعطايا ، وتزوج الحسناوات " مرة بعد أخرى ،لمزيد رغبته في النساء ، مع كونه مطلاقا " ...!!....
.... أقام الكوراني في القاهرة تسعة أعوام ينعم برغيد العيش والقرب من السلطان وكبار العلماء والمباشرين والوزراء ، إلى أن نكب نكبة هزت كيانه وزلزلت أركانه ، فقد اتهم بسب الإمام أبي حنيفة النعمان -رضي الله - في مباحثة جرت بينه وبين " حميد الدين النعماني " - ت٨٧٦/١٤٦٢ - ، الذي ادعي أنه من ذرية أبي حنيفة ، فلما أمر السلطان بسجنه وتقديمه للمحاكمة ، حكم عليه بالجلد والنفي إلى بلادالشام ، فخرج منفيا - بعد جلده ثمانين جلدة - مخفورا إلى دمشق سنة844/١٤٤١ ، بعد أن بيع أثاثه ، وأخرجت وظائفه ومرتباته ، وطلقت نساؤه ، وزال عنه مجده وجاهه ...!!....
.... كان وقع تلك النكبة التي مني بها الكوراني كالصاعقة ، شديد الألم على نفسه ، لنفيه من القاهرة " كعبة العلم " التي هفت إليها روحه منذ أن كان صبيا ، وطرده شريدا لايملك من حطام الدنيا شيئا ، لكنه قرر المخاطرة والخروج رفقة قافلة الحج الشامي لأداء فريضة الحج ، ومحاولة العودة الى القاهرة ، لعله يتمكن من دخولها واستعادة مكانته التي فقدها ، غير أنه تم إلقاء القبض عليه في مدينة " الطور" المصرية ، وأعيد - تحت حراسة مشددة - إلى الشام ....!!...
... رجع الكوراني إلى دمشق مهيض الجناح ، متدثرا بالكآبة والحزن ، وظن أن أبواب الفرج قد غلقت في وجهه ، غير أنه التقى بشيخ الإسلام في الدولة العثمانية ، المولى " شمس الدين محمد يكان " - ت 875-1453- الذي ناظره ، فوقف على مكانة الكوراني العلمية ، وقرر اصطحابه ليقدمه هدية للسلطان العثماني " مراد الثاني " -ت ٨٢٤/١٤٢١ - الذي كان حريصا على استقطاب كبار العلماء من العالم الاسلامي لبناء نهضة الدولة العثمانية ، ويعلق الشوكاني -ت ١٢٥٠/١٨٣٤ - على معاناة الكوراني ونفيه من القاهرة ، وذهابه إلي الدولة العثمانية قائلا : لاجرم أن الله قد أبدله بسلطان خير من سلطانه ، وجيران أفضل من جيرانه ، ورزق أوسع مما منعوه منه ، وجاه أرفع مما حسدوه عليه ...
.... يعد انتقال الكوراني إلي الدولة العثمانية - في عهد السلطان مراد الثاني - حدثا تاريخيا ، كان له عظيم الأثر في فتح مدينة القسطنطينية ، فلقد طلب السلطان مراد الثاني من الكوراني تغيير مذهبه الديني ، فصار حنفيا ، ثم عينه معلما لولده وولي عهده محمد - أمير مانيسا - ، فكان للكوراني - ولغيره من العلماء ، أثر كبير في إقناع الأمير محمد أن فتح مدينة القسطنطينية سيكون على يديه ، وتذكر المصادر التاريخية أن الكوراني كان يقول للأمير محمد :
... يابني : آمل أن تنال هذا الفتح الكبير ، إلا أنني لا أريدك أن تكون سلطانا جاهلا ، بل أريدك أن تكون حاكما عالما صاحب فراسة ، لاسيما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن القسطنطينية ستفتح ، وأكد ذلك في حديثه الشريف : لتفتحن القسطنطينية ، فلنعم الأمير أميرها ، ولنعم الجيش ذلك الجيش ...، ثم يواصل الكوراني نصحه للأمير محمد قائلا : إن هذا الفتح المشرف الذي بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ومدح صاحبه ، سيتحقق على يد سلطان عادل عالم ، وأرغب - من كل قلبي - أن تبادر الى تحقيقه بعد استكمال تربيتك وتعليمك ....
.....كان للدور الذي قام به الكوراني والمولى آق شمس الدين والمولى خسرو وغيرهم في تربية الأمير محمد أثر عظيم ، فلقد وقر في قلبه أنه المقصود بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فسعى جاهدا إلى فتحها عام 857-1453، وقام رجال الدين ودراويش الطرق الصوفية بدور محمود في تشجيع المقاتلين وحثهم على الثبات والصبر ، كانت أصداء التكبيرات في صفوف المجاهدين ، والدعاء الذي ردده رجال الدين وغيرهم ، يتجسد أمواجا من المقاتلين المتسورين أسوار مدينة القسطنطينية ، فتحققت البشارة النبوية ، وتم الفتح بعون الله ....
... عاش الكوراني حياة مترفة في العاصمة العثماية تفوق حياته في القاهرة التي نفي منها ، فكان أثيرا لدى تلميذه السلطان محمد الفاتح _ ت٨٨٦/١٤٨١ - ، رغم قسوته ومعاقبته إياه بالضرب في مرحلة تعليمه ، فلم يتقيد بالبروتوكولات التي تقيد بها غيره من العلماء والأمراء عند مثولهم بين يدي السلطان ، وكثيرا ما نصح السلطان بتحري الحلال في مأكله ومشربه ، رفض قبول منصب الوزارة - رغم المغريات التي تحيط بها - ، اختلف مع تلميذه الفاتح ، فرحل إلى مصر في عهد السلطان قايتباي - ت ٩٠١/١٤٩٦ - ، الذي رحب بقدومه ، وحاول إغراءه بالإقامة الدائمة في القاهرة ، غير أن الكوراني اعتذر عن قبول عرض قايتباي وآثر العودة إلي العاصمة العثمانية ، استجابة لإلحاح السلطان الفاتح الذي لم يستطع - على فراقه - صبرا .....
.... تولى الكوراني منصب " قاضي عسكر " الدولة العثمانية ، ثم تولى منصب " شيخ الاسلام " عام 855-1480 ، وخلف آثارا علمية جليلة - رغم ضيق وقته - ، منها :
غاية الأماني في تفسير السبع المثاني
الكوثر الجاري على رياض البخاري
الدرر اللوامع مع شرح جمع الجوامع
وقصائد شعر كثيرة
... ترك الكوراني أوقافا كثيرة ، منها : جوامع ومدارس ومكاتب لتحفيظ القرآن الكريم ، ومدرسة لتدريس الحديث النبوي ، أطلق عليها " دار الحديث " ....
.... ظل الكوراني يشغل منصب شيخ الاسلام في الدولة العثمانية ، مقربا من السلاطين الذين عاصرهم ، الى أن وافاه أجله سنة 893-1488 ، في العاصمة العثمانية " إستانبول " ، فصلى عليه السلطان العثماني " بايزيد الثاني "-ت ٩١٨/١٥١٢- ومن دونه ، وفي " يوم وفاته امتلأت المدينة بالضجيج والبكاء ، من الصغار والكبار حتى النساء والصبيان ، وكانت جنازته مشهودة ، وانثلمت بموته ثلمة من الاسلام "........


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى