أ. د. أحمد السري - الأديب المؤرخ الدكتور السيد شعبان: سارد سريالي من مصر

وهو سارد وناقد، مغمور بعشق اللغة، فهو ( درعمي) يعيش في مملكة اللغة ملكا متوجا، محاطا بما تهبه من جواهر وأسمار، ريفي عتيق تشرب من هواء الغيط النقي ونسمات النجوع السحرية.
يكتب حكايات، قصصا قصيرة، يرصد لحظات تمتد في كلماته دهورا، وهي لحظات اجتماعية مميزة لا تتيسر رؤيتها إلا لذوي بصيرة خاصة، لحكاياته مقاس واحد، كأنه ألزم نفسه بعدد من الكلمات تفي دوما لاحتضان معانيه وأفكاره، رموزه واستعاراته البلاغية.
أبرز ما يميزه أنه سارد لا يشبه أحدا ( في حدود قراءاتي على الأقل) إنه سريالي بكلمات وألوان خاصة به، يلاعب حواسك بألوان مذهله، ويصر على جعل الحيرة والتسآل هدفا للوحاته الاجتماعية المتنوعة، وكأنه يستوقفك لتنشد ( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل)
يبدأ سهلا واضحا، ثم يأخذ بلبّك، ويدور بك في شعاب التراث وقد اختلط بحاضر عاق، فلوث نقاء الأحلام بتجاعيده ونزواته، بتكبره وخربشات أظافره، يتيه بك شعبان عمدا، فينسيك البداية الأنيقة وترى نفسك وسط أسواق وموالد وبخور ورقصات وجد، تجد نفسك في عالم جديد مشوه ومقهور، ترسمه سرديات شعبان، ثم يتوقف فجأة عند نهاية الحيز الذي اختاره لسردياته.
تتوقف متسائلا، فتعيد القراءة لترى أنه أدخلك من بوابة صغيرة سحرية، إلى عالم روائي كامل مشبوك بخيط حريري دقيق لا يكاد يرى إلا عند أهل الذوق وعشاق السرد والعرفان.
اخترت لكم من سردياته هذه الحكاية ، بعنوان: بنت من دسوق عساها تروق لكم
💥
بنت من دسوق!
💥

يقال إن الراحلين مروا بكفرنا في سنوات الفيضان الذي غمر قرانا حتى ملأ الوادي.
تركوا أثرا في ذاكرة الذين يجتمعون كل ليلة يتبادلون في مسامراتهم حكايات عنهم.
يمثل لي طيف غريب، فارس ملثم تتبعه نخلة عند شاطيء النهر.
ألمح طيف امرأة وجهها يشبه القمر حين يكون بدرا، تحمر وجنتاها، أتبعها فبي ولع بذوات الخد والنهد!
يغلبها حياء الأنثى.
تخطر المراكب راقصة حتى ترسو قبالة دسوق، يتبعني طيف البنت التي تشبه خد القمر، أتمعن في وجوه اللواتي يتهادين في شارع سعد، هذه أعابثها وتلك أغازلها، ثياب تكاد تضج فتنة، شعور متهدلات كأنهن أغصان الصفصاف.
يتردد في سماء دسوق صوت المداح يتملكني الوجد، أخلع عمامتي وأتطوح يمنة ويسرة!
إنها هي تتبع ظلي، في زمن العنوسة تقام سوق الفحول، يجوب الشوارع الخلفية حملة البخور فتعبق المدينة أريجا، لم يغب صاحب المولد، في دسوق حفيد لسيدنا النبي، عمامة خضراء ومسبحة ذات تسعة وتسعين حبة يردد أهل الطريق طالبين المدد!
حينما كنت صغيرا حكوا لي عن بنت حلوة جاءت من بلاد بعيدة، كانت تزورني يوم العيد ترتدي ثوبا فضفاضا.
من يومها وأنا أبحث عن البنت التي تنير في ليالي الشتاء المظلمة، سرقها الغجر ودقوا لها وشما أخضر، بدت كأنها عروس مولد الدسوقي، شيوخ وبهاليل يزحفون، تلك البنت تعشقها القلوب.
في الليلة الفائتة تعاركت القطط والكلاب لم يغمض لي جفن، يبدو أن حدثا ما تلوح بوادره في الأفق، نظرت من ثقب في الباب الذي سكنه الزمن، مقبضه النحاسي ذو الكف النحاسي كم أمسك به أبي!
كان يطرق به كلما أحس بالخطر، لم يعد أحد بعده يحذرنا أو يحدب علينا ما أوجع يتم الكبار!
تتهادى البنت ذات الخد القمري، تتراقص حمامة بيضاء جوار مقام الدسوقي، تدوي صافرة قطار الصحافة منتصف الليل، يهرول باعة الأطعمة الشهية، يرتد صدى القطار فتهتز أبنية المدينة العتيقة.
على مقربة من شاطيء النهر يسكن شيخ مبارك تخرج من الماء كائنات غريبة:
أسماك ذات زعانف صفراء ولها ذيول خضراء، أوراق وأقلام ودفاتر يرسم فيها الصغار سبع لوحات تزدان بسنبلات خضر وأبقار تقودها قطط بيض، يشع وجه الولي نورا، تمطر السماء فوق المدينة فتخرج الأسماك فرحة تتراقص في رحبة الميدان الكبير، يعابث يوسف الصغير أمه التي تتهرب من شواغل البيت متعللة بالصيام؛ يخبرنا بأنها صارت من الأولياء كأبيها الذي يشبه الإمام الشافعي، في بيتنا أحجية يصعب حل ألغازها.
يمد الرجل ذو اللحية البيضاء يده فتقبلها المرأة ذات الخد يشبه حبة التفاح، تزغرد الأسماك العجيبة، تطوف جموع الدراويش بمقام الدسوقي يطلبون المدد، كلما خطوا تقاصرت ثيابهم فبدت سيقانهم كأعواد الذرة ضربتها شمس بؤنة الحجر.
أنظر فلا أجد غير طيف المرأة التي زراتني ليلة العيد، أمسك به فينبح خلفي كلب أسود، في دسوق تكثر الأحلام التي تشبع الجوعى في ليالي الشتاء الطويلة




أ. د. أحمد السري
الأستاذ بجامعة صنعاء.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى