مدحت عبد الجواد - جماليات السرد في قصص دكتور سيد شعبان

آثرت في حديثي عن جماليات النص السردي هنا، أن أسلك منهجًا متكاملًا ، لا يعتمد مدرسة بعينها دون غيرها، ولايرجح مدرسة نقدية على غيرها، بل يعتمد على تذوقي لقصص من نوع خاص يغاير المألوف المعتاد، ويتجاوز حدود العصر؛ لذا لا أدعي زهوًا أنني سأقتله بحثًا بل هى قراءة محب للأدب عاشق للجمال ،،،،
وكان منهجى أن لا أدرج هنا شواهد من قصص القاص لسببين :
أولهما : كي لايطول المقال ويتشتت معه ذهن القاريء ، ويفقد المقال ثمرته المرجوة .
وآخرهما : ليصبح لدى كل قاريء شغوف بهذا الفن أن يرجع للمصدر بنفسه؛ فينهل منها متعته ويعمل جهده .
تحليل البيئة والشخصية : لا أسلم تسليمًا قاطعًا لأصحاب الآراء التي تعزل النص عن صاحبه، وتفصل بينهما فصلًا وكأن النص هبط من السماء أو مات صاحبه، ولن أدخل في جدل مع أصحاب هذه الآراء، ولكن يقيني أن النص يظل أبدًا ودائمًا يحمل صفات وسلوكات صاحبه ، ويظل ترجمان مشاعره التي تأثرت بالبيئة المحيطة بها، غير أني في ذات الوقت لا أحب من يطيلون الوقوف عند هذا المنحى ويثقلونه بالأعباء، وينحون بالنص على هذه الفكرة يلحون عليها حتى تصبح منتهى غايتهم .
أديبنا هو وليد العصر الذي نحياه بكل ما فيه من تقلبات وصراعات، وبكل ما فيه من حسنات وعيوب ، لا يأثره مذهبًا دينيًا أو يستحوذ عليه فكر دون غيره ، إنما هى عين الفنان والناقد المبدع، وعدسته التي تلتقط الصور بتشابكها وتنوعها غير أن خلف هذه العين يقبع الإحساس الرقيق الشفيف، والعدسة الواعية التي تدرك ما لايدركه الآخرون ، وإن أهم ما يميزه أنه جمع ثقافة الريف المصري الأصيل و ثقافة التمدن والتحضر، لكنه لم يحيا حياة الإقطاعيين في الريف بل عاش حياة الكادحين، وتمرس بحكى الجدات، وألف حياة البسطاء بل وطحنته وعركته بكل ما فيها ، وعندما انتقل إلى المدينة لم تبهره أضواؤها ولم تسرقه حكاياتها ، بل ظل يحن إلى الريف دائمًا، يعود إلى ذكرياته الأولى ، ذلك لأنه يملك قلبًا رقيق المشاعر عطوفًا ، بل تشعر معه ، وأنت تطالع قصصه أنه يعاني غربة تمثل فارقًا بين القيم وصراعًا للبحث عن الذات، وخوفًا شديدًا على مايملكه من قيم تصارع للبقاء في وجه مفاسد الحضارة وملذاتها....
العنوان : يمثل العنوان أحد المفاتيح التأويلية لأي نص إن لم يكن أهمها، وهو ظاهرة متألقة متنوعة مشرقة في قصص فارسنا الألمعي ، فتراه يتكيء كثيرًا على الجملة الاسمية بما تحمله من الثبات ، لكنه يعطيك المبتدأ وينتظر منك أن تبحث في ثنايا قصصه عن الخبر، ويدهشك بما يضفيه على المبتدأ من هالة، وغموض ورمزية وتعلق بالتراث كل هذا في آن واحد ( سيدنا الخضر / الأحدب / ولد من الغجر /...) وعليك أن تستحضر صورة الخضر التي تعرفها من ثقافتك الإسلامية ، فإذا به يجعلك أمام صورة أخرى، وشخصية جديدة تطالعك لأول مرة، وتدهشك بحركتها السردية ، وعليك أن تستعد، ويستعد عقلك؛ لتستقبل سيلا سرديًا سريع الحركة إذا ما ذهبت تبحث عن الخبر، وإذا ما دفعك الفضول للبحث عن الخبر ...
شلال السرد ...الإعصار السردي :
استميحك عذرًا لهذا العنوان، ولكن حقًا هذا ما ستواجهه عندما تبدأ بالقراءة للفارس المبدع ، فستجد الحكي يلفك من هنا وهناك ، ويدور بك في دوامة الشلال، فإن كنت مسلحًا بالفكر الثاقب والعقلية الواعية، فأنت ستجد هذا الشلال يشبه تلك المتعة التي تخرج بها عندما تركب الشلال في ملاهي المدينة، وستشعر بتلك السعادة، وتحب أن تكرر الرحلة مرارًا ومرارًا ، وإن كنت ممن لا يجيدون السباحة في بحر الفن القصصي سيلفك إعصار يؤرق مضجعك، وقد تخشى أن تعود إليه ثانية ، فإن كنت ممن يقرأون للتسلية في آخر الليل فابحث لك عن صديق آخر فلن تتحمل قوة البيان، ولن تقوى على كثافة السرد ، وإن كنت ممن يحبون اقتحام البيان ويتلذذون بجماله فأهلًا بك في ميدان الفارس العملاق .
القصص عنده يعد مزيجًا من عوالم التأمل في الريف لكنه لايرصد واقعًا، وينقله نقلًا بل يمزج بينه وبين الثقافة وبينه وبين التراث وبينه وبين الرمزية ؛ ليصبح في النهاية عالمًا خاصًا فريدًا لاشبيه له حرفيًا في أرض الواقع، بل يصدمك بخيال لشخص يرصد الصراعات النفسية لشخوصه كما يرصد تشابكها، ويربط بينها في لوحة بيانية لاينزلق السرد معها إلى العامية، ولايتعالى على متلقيه من أبناء العصر الحالي
يميل إلى التشخيص باستخدام الصور البلاغية؛ لتشكيل لوحاته الفنية ، يتجاوز الموصوف الحدثي من خلال حركة السرد والرمزية والتراث .
الذات المقنعة في قصصه : لكل أديب أوكاتب رسائل يتوجه بها إلى المتلقي ، تلك الرسائل تتخفى في العمل القصصي خلف قناع الشخصيات والأحداث والسرد ، ومن آن لآخر تظهر في قصص الفارس فيما يشبه الحكمة حينًا ، أو الحكي التراثي تارة أخرى غير أنه استطاع أن يوظفه توظيفًا نافعًا يخدم قصصه ، كما أن رسائله تدور حول قيم ، وسلوكات لشرائح داخل المجتمع، ومعتقدات تخلق بها أصحابها ، وأهم ما يميز الفارس القصصي أنه يعرضها بكل جوانبها ، بل وأحيانًا يلح عليها، وكثيرًا ما يحللها ويتعمق فيها نفسيًا غير أنه لا يتدخل مطلقًا بحال من الأحوال؛ لينقدها أو ينكرها، ولعله بذلك يترك الفرصة للمتلقي أن يتفاعل معها ويتحاور معها، دون أن يوجه رأيه ، وقد كان بإمكانه أن يسلك هذا الصنيع متخفيًا خلف شخوص قصصه .
علاقة الشخصيات بحركة السرد : لعل هذا الأمر من اختراعي، أو من وهم مشاعري، فإنني أجزم أن هناك ترابط دائمًا بين سرعة السرد ، والانتقال بين لوحاته الفنية وبين شخوصه ، حتى إذا أدار القاص حوارًا فإنه حتمًا يتأثر في أسلوبه وسرعته بالمتحاورين، فإن حديثي عن صياد سيحتم على البطء في السرد، وحديثي عن سيارة مسرعة سيحتم على سرعة السرد ، وهذا ما تستشعره مع شخوص الفارس القصصي فأحيانًا يتوقف متمهلًا ليعطيك أدق التفاصيل الدقيقة ، وملامح تصف شخوصه حتى لتجعلك تشعر أنك تراها رؤى العين ، وتارة يعطيك سرعة في التنقل تندفع من عواطف الخوف أو الفزع التي تنتاب الشخوص ، ولاشك أن هذا التنقل يدغدغ المشاعر ويحفز القاريء؛ ليشعر في النهاية أنه سقط في وسط القصص دون شعور، وكأنه صار واحدًا من شخوص القاص .
دلالة الأسماء في قصص الفارس:
وظف الفارس الأسماء في قصصه توظيفًا دلاليًا مؤثرًا في طبيعة القصص، ومهيمنًا على السرد فدائمًا الأسماء ترتبط بالأحداث ، وتتناسب مع الحكي، وتعطي دلالة رمزية، وتبعث برسائل تراثية تعمق الشعور بالسرد، وهذا ما دأب عليه فارسنا .
التبئير: كثيرًا مايستخدم القاص التبئير الداخلي معتمدًا على أسلوب المتكلم؛ ليلج من خلاله إلى عالمه القصصي، وأما التبئير الخارجي بصيغة الغائب فقد ورد قليلا ومتناغمًا مع طبيعة القصص وحركة السرد، ولعل ذلك أضفى على قصصة واقعًا معيشيًا ينبع من السرد .
نوع القصص : لن تستطيع أن تضع تصنيفًا دقيقًا للقصص عند دكتور سيد ؛ لأنه يمزج بين مختلف أنواع القصص فتجد الحكي النفسي الذي يتوغل في تفسير أغوار الطبيعة البشرية ، ويتوغل في العمق الاجتماعي بوصف شخوصه وتطورها الفردي، كما تجد الرمزية المرتبطة بعمق التراث، كما تطالعك اللوحات الرومانسية الممتزجة بالإحساس بالغربة الحالمة التي تبحث عن عالم المثل بين طبقات المجتمع.
المزج بين ( المونولجية الأحادية... الحوارية ) : يجمع القاص بين المونولوجية الأحادية التي تنبع من حوار النفس وحديثها ، وبين حوار من طبيعة خاصة ، فليس الحوار حوارًا مباشرًا بين الشخصيات القصصة بل هو حوار بين شرائح الطبقات أو اللوحات الفنية التي تتصادم معًا؛ لتصنع مزيجًا رائعًا من التناغم والتفاعل ذي طبيعة خاصة ودقيقة تتنامى سريعًا وتتطور مع السرد .
كما يحدث أن يصاب أبطاله بالمثالية المجردة التي قد يصاب أبطالها بخيبة الأمل نظرًا للفشل في تحقيق الطموحات والآمال؛ لتصادمهم مع واقع اجتماعي صعب .
الحبكة الفنية : لا يعمد القاص في قصصة إلى حبكة فنية أو تقديم مشكلة تصل إلى ذروتها مع تطور السرد ، فإن ذهبت تبحث عن هذا النوع من القصص فلن تصادفه في قصص دكتور سيد؛ لأن طبيعة السرد تتشكل عنده بطريقة مغايرة ، فهو يقدم شرائح فنية اجتماعية تشبه اللوحات الجميلة ، وكأنها سيرة ذاتية موضوعية، ثم يعيد ترتيبها ليس وفق الترتيب المنطقي المتوقع في تقدير الشخص العادي بل وفق رؤية فنية خاصة تنبع من شعوره بالجمال الفني للبناء القصصي كله، ويربط بين تلك الشرائح بروابط تتولد من داخل السرد، قد تبدو غير واضحة المعالم في نظر غير الحصيف، لكنها عميقة في جوهرها ترتكز على عمق التراث فيقدم ويؤخر ثم يعود مرتكزًا على قوة السرد؛ ليربط الأحداث معًا ..
كما أنه يتمكن من الرؤية بالخلف وأعني بها أنه سارد عالم بكل شيء حول شخوصه، وحاضر مع شخوصه في كل مكان وهى معرفته بالأخبار السرية لشخوصه وما يدور خلف الجدران ، فهو يرى أكثر مما ترى الشخصية غير أنه لايقدم للقاريء تفسيرات يسبق ما تراه الشخصية بل يرى معها ما تراه ويترك للقاريء التفسير ، والسارد عنده غالبًا ما يكون غير مشارك في القصة بل يكون خارج الحكي .
وقد يتفرع عن الحكي الرئيس حكي فرعي ثم يتفرع هو الآخر لأفرع تقل أو تكثر، غير أن موهبته الفذة تجعله ممسكًا بزمام الأمور فلا يغفل عن حكيه الأصل، ولا ينسى بطله فإذا به يعود بك دون شعور، وقد تشبعت بخلفية منطقية حول البطل، وكأنك تمتلك تفسيرًا لسير السرد وتسعد بمنطقية الأحداث .
الشخصية : تمثل الشخوص التي يتحدث عنها القاص مفارقات غريبة ، وتثير تساؤلات جدلية ، فهى ليست شخصيات منطقية نصادفها كثيرًا في حياتنا ، وليست صفاتها البدنية أو سلوكاتها كغيرها من الشخصيات بل تجدها محملة بالمعاناة الاجتماعية حينًا وترمز لعادات وتقاليد شائعة حينًا وحتى تصرفاتها تخرج عن المألوف تجاه المواقف الحياتية ، ومن المعلوم أن الملفوظات الفعلية تعتمد في تقديم أفعال الشخصية غير أنه يتميز بقلة استخدام الروابط الحرفية بل يجعل من الأفعال روابط تسير تباعًا مع السرد ، غير أنه يقدم وصفًا مغايرًا لصفات الشخصية فلا يصفها جملة بل تفصيلًا دقيقًا لملامحها ، وكأنه يضعها على مجهر، أضف لما يقدمه عنها من أبعاد نفسية تؤهله لعقد الصراع النفسي وسرد الحدث.
الزمن وإيقاع السرد : يمتد الزمن لدى القاص وقد يطول ليصل إلى أجيال، فهو يتعامل معه دون حدود ضيقة لمفهوم الزمن بل يجيء ويذهب بحرية شديدة ، يسترجع الزمن الماضي ويتقدم إلى الحاضر وفق شعوره الفني .
ويتحدد سرعة الإيقاع بحسب وتيرة سير الأحداث وسرعتها أو بطئها، ولدى القاص سرعة شديدة في سير الأحداث ودرجة تكثيفها قلما تجدها لدى غيره، فهو يختذل ويختصر ويكثف ويحذف وفق موهبة رائعة في التعامل مع اللغة، ولعل هذا ما دفعني سابقًا أن أطلق مصطلحًا ( شلال السرد أو الاعصار)
المكان : الأماكن في الأعمال القصصية ليست مجرد حدودًا هندسية بل تمثل المفاهيم والتصورات والتوقعات الاجتماعية، و طبيعة البيئة التي تدور فيها أحداث قصص الدكتور سيد تعبر عن ذلك أصدق تعبيرًا، كما أنه يراعي ديناميكية المكان وتفاعل الانتقال ، والألفة للأماكن، فهى بيئة غير متوقعة فأحيانًا تكون البيئة ريفية لكنها مختلفة في تركيبها ، وتارة البيئة غجرية ، لكنه يجعل القاريء أمام صورة تخيلية للمكان يرسمها القاص بريشته الفنية التي تنبع من الحكي الرائع .
تنوع الصيغ : ينوع القاص في الصيغ السردية الوصفية والحكي وغيرها مستخدمًا لغة لاتغلب عليها الفصحى القديمة التي تغلق على الأفهام ولامنحدرًا إلى العامية التي تحط من قدر الأدب ، بل يستخدم الفصحى السلسة اليسيرة التي تحقق المتعة ولا يصعب على متوسطي الثقافة فهمها، وهو بذلك يضيف ميزة وفضلا يساعد على حماية اللغة ومراعاة تطورها.
أخيرًا ... أدعو الله للفارس الرائع الأديب د/ سيد شعبان ... بالتوفيق في مسيرته الفنية وأعماله القصصية.








1641807062505.png 1641807132096.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى