قال تعالى:
"الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)"يوسف
عندما خلق الله سبحانه وتعالى آدم علمه الأسماء كلها، والتعلم أيا كان يلزم المتعلم اتخاذ لغة ما، مما يعني أن تعلم آدم للغة سبق تعلم كل الأشياء، وهذا يعني أن آدم كان يعلم أكثر من 12 مليون كلمة هي عدد مفردات اللغة العربية، وعدد مفردات اللغة الإنجليزية هي 600 ألف كلمة، وهكذا كلما تطرقنا لبقية اللغات كانت أقل، وهذا يعني أن اللغة العربية ليست ثرية فحسب، وإنما هي الأثرى على الإطلاق، فقد شاء الله أن يكون الإنسان عبارة عن معمار بشري، والمعمار يلزمه أدوات لبناء داخله كي يسهل تعريفه، فالدين هو أعمدة البناء، واللغة هي اللبنة التي تتم البناء وبها تتضح معالمه، فهي هويته الثقافية والمرتبطة بالمكان أو البيئة التي نشأ فيها، وشاء الله عز وجل أن يكون القرآن بلسان عربي مبين وهو موضوع هذا البحث.
ولا بد من أسباب قوية، لأجلها شاء الله أن تكون لغة القرآن عربية، فلا بد أن لهذه اللغة ميزات من نوع ما، قد نهتدي إليها وقد لا نهتدي، فصاحة العربية وحدها تجب ما دونها حتى لو اتخذ الناطقين بها لهجات محلية قد تستعصي على الفهم أحيانا، فإذا قرأت هذه اللغة بقواعدها سليمة توارت كل اللهجات المحلية الضيقة، حيث أنها الوحيدة المفهومة للسان العربي، ولأن عدونا يتربص بنا الدوائر فلم تغب عنه لغة القرآن، وهو الذي انطلق في بلادنا يبحث وينقب ويدرس كي يخلص إلى جملة من التوصيات التي بها يحتوينا فلا ينطلق المارد الذي حبسه في القمقم، وعادة المرض لايصيب الفرد في مقتل إلا في غفلة منه، لأن اليقظة توجب الحذر والاحتياط، فالقرآن ذو اللسان العربي المبين أنزله الله على قوم يعيشون حياة بدائية لم يتصلوا بأسباب الحضارة ومقتضياتها كما في مصر والشام والعراق (الحضارة فيها قديمة متجذرة متعاقبة) إلا من أسفار للشام واليمن لشراء حاجياتهم والتي بها يسيرون حيواتهم، ما يعني أن معراجهم على حضارات الآخرين كان لمما، ولم يكن لديهم رغبة في محاكاة حياة هذه الشعوب كنوع من الارتقاء والتطور الذي يسعى إليه الإنسان بطبيعة الحال.
هذا العقل العربي كان تميزه واحتفائه فقط لغويا، وكان يقيم لمنتجه الوحيد ومأثرته ألا وهو الشعر أسواقا تشبه المهرجان أو الكرنفال، فيتباهون بأشعارهم التي كانت تعلق على أستار الكعبة فيما يعرف بسوق عكاظ، وبالشعر يصور حياته كاملة جملة وتفصيلا، وسبر أغوار هذه اللغة جعلهم يتفاعلون مع القرآن في سهولة ويسر ودون معوقات، لدرجة أن بعض أئمة الكفر كان يتسسللون ليلا خفية ليسمعوا تلاوة المسلمين له، ذلك العقل الذي كان شبه صفحة بيضاء تلقى القرآن بنقاء سريرة وفطنة وحدس مكنه من الانطلاق يسابق الريح ليشق الأرض ويفسح لنفسه مكانا تحت الشمس، ليس لديه من المعارف سوى القدر اليسير ولكن القرآن أثرى داخله وقوى بناءه فاكتمل لديه "الأعمدة واللبنات" التي أتمت بنائه، فكان حقا له أن يفرد جناحيه ليناهز مجده الثريا، فقط باتباع التعاليم الإلهية التي ساقها الله في القرآن، فمضى على هداه
(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) 90 الأنعام
الذي قاده إلى الأمجاد، وهنا أدرك عدونا مكمن قوتنا وسراجها المنير، ألا وهو القرآن، فحاولوا الإجهاز على القرآن والسنة من مناح شتى سنكتفي هنا بالتعرض للغة موضوع البحث.وبعد سنوات من البحث والتقصي من قبل المستشرقين (أصل الداء) حل إلى بلادنا نابليون بخيله ورجله حاملا في جعبته ما خلص إليه علماؤه (المستشرقون) ليبذر في بلادنا بذور كل ما نعانيه الآن على كل المستويات، وكأنهم صفوا له ديباجة احتوائنا فلا نفلت من قبضتهم، أي هم.
أسباب اهتمام المستشرقين باللغة العربية:
على الرغم من أن لهم طرائقهم التي يتخذونها في دراسة اللغة إلا أنهم ترجموا المتون اللغوية، مثل كتاب سيبويه الذي نشره ديرينبورج عام1881 م والذي ترجمه المستشرق الألماني يانز عام 1895م، وعلى حد تعبيرالمستشرق إلبرت ديتريش أنه قد استفاد من كتاب ألفية بن مالك وشرحها لابن عقيل، كما ترجم الألماني ترامب الأجرومية، كما بدا تأثرهم واضح من النحاة العرب في تناولهم للغة العربية، ولنا أن نذكر أنهم كـ فئة متآمرة، وخدام للاستعمار إلا أن المسلمين أفادوا من مناهجهم ودراساتهم، وكما قال ليبنتز: "اللغة مرآة لحياةالشعب الروحية"
لماذا الاهتمام باللغة بعامة؟ لأنها القدرة على التعبير والمنطق الذي يجلي العقول وبها تتضح ملامح المتحدث (تكلم حتى أراك) لذا هي من المؤثرات بمكان والذي لا يمكن تجاوزه، والمستشرقون المشتغلون على حضارة الشرق ومعتقداته كانت لديهم دوافعهم الحثيثة في دراسة اللغة العربية على وجه التحديد من بينها أو جلها:
دوافع لاهوتية وتنصيرية
دوافع حضارية
دوافع واقتصادية
دوافع علمية وثقافية
الدوافع اللاهوتية والتنصيرية:
يتجلى الربط بين التجارة والتنصير في قول المستشرق "آربري" :
"كل هذه الإشارة إلى التاريخ ضرورية لشرح الروح الجديدة التي تؤجج شعلة الاستشراق البريطاني منذ بداية القرن السابع عشر، فطلب التجارة الرابحة وهو أقوى المشجعات البشرية على النشاط والعمل كان له أثره الطبيعي على ما للأمة من ميول ومجهودات فكرية، فبينما كان التاجر يسعى في تحصيل النفع المادي من علاقاته بالشعوب الشرقية، إذ بالمبشر الإنجيلي يسبقه تارة أو يتبعه حثيثا تارة أخرى، وقد امتلأ حماسة شريفة لأن يحقق أمر معلمه المسيح بالذهاب إلى كل العالم والتبشير بالإنجيل إلى كل مخلوق، وقد وجد أن ممايساعده على تحقيق ما يرمي إليه من الخلاص الروحي أن يتعلم ما للجماعة التي سيلقاها من لغة وطرق تفكير، وقد ازداد هذا التعلم لزوما حين وجد الداعي المسيحي نفسه وجها لوجه أمام دين تبشيري آخر هو الإسلام"
وهذا التصريح بقول آربري عن الإسلام من كونه عقبة في طريق التنصير أدعى للاهتمام باللغة التي نزل بها القرآن، وهذا بديهي وطبيعي جدا، ذلك لأن الإستشراق هو الوجه الآخر للتنصير بالإساس، وقد خرج من أروقة الكنيسة، البعض يقول أنهم خرجوا أثناء الحروب الصليبية والبعض الآخر يقول أنه تلاها مباشرة والقول الأول هو الأرجح، فالتآمر يتضافر ولا يتجزأ، مع العلم بأن أول من أسس كرسي الاستشراق داخل جامعة أكسفورد هو رئيس الأساقفة واسمه "لود" عام 1636م
وكانت الترجمة الأولى للقرآن عام 1143م إلى اللاتينية بتوجيه من الأب "بيتروس فينيرابليس" رئيس دير كلوني في أسبانيا، ولا أدل على كون الاستشراق هو رديف التنصير من قول المستشرق الألماني رودي باريت:
"وكان الهدف من هذه الجهود في ذلك العصر وفي القرون التالية هو التبشير وهو إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين المسيحي"
لذا ترجمة القرآن وكتب الحديث وأمهات الكتب والمخطوطات لم تخلص من لي عنق النص الأصلي ليوافق مآربهم، حتى ترجمتهم الإنجيل للغة العربية كان لخدمة التبشير ولا أدل على ذلك من قول المستشرق يوهان فوك:
"كان أول من اعتنى باللغة العربية علماء الكنيسة المسيحية الذين بذلوا جهدهم في دراسة لغة المسلمين، غير أن هدفهم لم يكن علميا، بل إنهم أرادوا الرد على الإسلام على أساس تراجم لاتينية للقرآن وهداية المسلمين بواسطة تراجم عربية للإنجيل والكتب الأخرى"
ويضيف أن كريستمان ومن تبعه في ألمانيا في ذلك الزمان جعل من دراسته للعربية وسيلة لنشر النصرانية في الشرق.
دوافع حضارية:
بدأت المواجهة مع الإسلام منذ اللحظة الأولى لظهوره، ولكن المواجهة بلغت مداها مع الحروب الصليبية والتي خلص الغرب النصراني منها إلى نتيجة هامة جدا لهم ولنا على حد سواء، وهي أن الأمة الإسلامية قد تضعف ولكنها سرعان ما تستعيد قوتها إذا ما اعتصمت بدينها، فهو الأصل والمنطلق الذي به بلغت حضارتهم مرقى القمة وقلبوا الموازين، وأدركوا أن المواجهة العسكرية لن تؤتى ثمارها دون الاشتغال على إضعافهم حضاريا، وبيت القصيد في ذلك هو القرآن والسنة ولكي تضعف ملكة الإفهام عند المسلمين فلابد من أن تبعد الشقة بينهم وبين اللغة التي نزل بها القرآن، فإن عجزوا على إفهامها انقطعت الصلة بينهم وبين تعاليم المتن الذي جاء به من لا ينطق عن الهوى، وبالطبع بعد بزوغ الصهيونية وتحالفها مع الصليبية كان الإعلام بأنواعه وما يقدم فيه من مادة من أجل أدواتهم لبلوغ مأربهم.
وفي استنكار محرض على تعلم العربية يقول المستشرق الإنجليزي آربري:
"ولكن من الغريب أن المحاربين الصليبيين يبدو وكأنهم أهملوا فرصتهم لتعلم لغة أعدائهم"
وعن ثمار الحروب الصليبية الخاسرة يقول المستشرق الألماني فوك:
"فقد أدرك النصارى بعد عام 1453م أي بعد فتح القسطنطينية أن الأجدى عليهم هو أن يشنوا حربا ثقافية ضد المسلمين حيث يقول:
"ولم يتغير الوضع في بلاد الغرب كلها حتى القرن السادس عشر تقريبا عندما اشتدت الرغبة لدى أهل الغرب في إرسال المبشرين إلى البلاد الإسلامية، بعد أن فتح الأتراك استنبول عام 1453م ثم أخذ بعض أهل العلم يؤمون الشرق ليحصلوا على مخطوطات عربية من استنبول ودمشق وغيرها من مدن الشرق"
ولتعلم اللغة العربية في هذه المنطقة يقول المستشرق ديتريش:
"أخذت أوروبا تبحث في حضارات الشرق، وتخضعها لدراسة عملية موضوعية، ولذلك كانت دراسة اللغات والتعمق فيها ضرورة لا مناص منها"
وقد أوعز المستشرقون لعملائهم في بلادنا بأن الإسلام هو سبب تخلفنا، وكذلك اللغة العربية لأنها معقدة كما يزعمون، وليست بسهولة وسلاسة العامية المحلية لكل قطر واستدلوا على ذلك بالشعر النبطي والأزجال العامية للترغيب بإحلال العامية محل الفصحى.
(وهذا يفك لغز المسوخ التي تنادي بذلك في بلادنا قديما وحديثا، بوق المستشرقين) فنادوا بوجوب تجديد اللغة بإدخال مفردات عامية فيها (كما الدعوة الخبيثة بتجديد الخطاب الديني للمسلمين فقط) وما أحدثته الحداثة وما بعد الحداثة باللغة في الأدب شعرا ونثرا فضلا عن المضمون الذي يدس فيه كل أنواع السموم.
والمستشرقون لا يخفون فخرهم في إحلالهم العامية محل العربية، وأن هذا يعد من تأثيرهم في الحضارة والأدب، وتأثير مفكريهم بجهودهم التراكمية كي نصل إلى ما وصلنا نحن إليه من تدني غير مسبوق.
لقد فطنوا إلى ما يمكن اختراقنا منه، اللغة كسلاح يفوق كل أنواع الأسلحة، وقفوا على ما يقودهم إلى السيطرة على عدوهم، السيطرة الحضارية والثقافية ولا أدل على ذلك من دعوة المستشرق بيار دوبوا لاسترجاع الأرض المقدسة فقد أعلن عن برنامج عام 1306م الذي تستعمر بموجبه أوروبا بلاد الشرق بقيادة ملك فرنسا:
"نادى بإنشاء مدارس لتعليم لغات الشرق لتأهيل الموظفين والضباط والمفاوضين والأطباء والمراسلين، وكذلك الفتيات الأوروبيات اللآتي يمكن تزويجهن بزعماء شرقيين"
أما المستشرق الصهيوني برنارد لويس فيقول عن اللغة العربية:
"وقد وجد الطلبة الإنجليز في الهند لدى دراستهم لغات مسلمي الهند ومدينتهم، أن أبحاثهم وتنقيباتهم تحتم عليهم دراسة العربية التي هي أساس الثقافة الإسلامية في أي لغة من اللغات"
أما المستشرق الإنجليزي وليم بدويل فيقول مرغبا في دراسة العربية:
"أنها لغة الدين الوحيدة وأهم لغة للسياسة والعمل من الجزائر إلى بلاد الصين"
ولأن الأمثلة كثيرة وعصية على الحصر مما أفاءت به قريحة المستشرقين بنتاجهم الضخم، فإننا نتوقف هنا لنمعن النظر في تلك الأقوال آنفة الذكر، فالمؤامرة فجة صريحة، والمستشرقون هم مهندوسو التنصير والاستعمار على حد سواء، وقد أدركوا أهمية اللغة في الوصول لمبتغاهم، إنها الفراء الذي يحمي الجسد من برد الزمهرير فإن نزع عن هذا الجسد الفراء وترك في مرج الجليد فإنه هالك لا محالة.
يقول المستشرق برينو مخاطبا طلابه:
"أتريد يا صاح أن تتعلم الكلام مع الأهالي الذين حولك وأن تختبر المسلمين فى زيارتك لتعرف ما يهمك؟ لاتظن أنى سأعلمك لغة القرآن فهذه اللغة قد ماتت ولايتكلم بها أحد، فهى لاتينية العرب، وهى اللغة التى أنزل الله بها كتاب المسلمين وهى كذالك المستعملة فى جنة " محمد"، وهى لغة الصلوات والاستغاثات والتمنيات أحيانا وسأحبب إليك دراستها فى المستقبل إذا أرادت أن تتذوق حلاوة الاجتماع بالحورالعين"
لاحظ مدى الصلف والغرور الأجوف الذي يتحدث به ذلك المأفون لطلابه،
ومن أجل هذا قام الاستشراق بإدخال تدريس لهجات العرب المختلفة فى مدارسهم وجامعاتهم ومعاهدهم،وفي سنة 1880م ظهر كتاب " قواعدالعربية العامية في مصر" لـ ولهام سبيتا الذى كان أول كتاب في العامية المصرية من الأجانب.
وظهر كتاب "المقتضب فى عربية مصر" لـ فيوت وباول اللذان اتجها فيه وجهةعلمية لتسهيل دراسةالعامية المصرية، تلك التى ضاعت كرامتها على حد قولهما لتركها تنساب مفككة بدون ضوابط حتى أصبحت لاوجود لها كلغة مكتوبة ولم يفتهما أيضا أن يرددا الشكوى من صعوبة اللغة العربية الفصحى وخاصة حروفها الخالية من حروف الحركة.
نلاحظ هنا أن البداية كانت من مصر، القاطرة التي تقود البقية الباقية كما يقول جمال حمدان.
وهناك من دعا إلى استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية، فالمستشرق "فنسك" الذى نشر ، رسائل عديدة مكتوبة بحروف أدبية في اللغة المصرية القديمة ومن بينها رسالة "أجرومية مصرى" ، كتبها على هذا النحو: بل لسان المصرى ومعها أمسلةيقصد: باللسان المصرى ومعها أمثلة ، وهذهالدعوة إلى استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية قصد التيسير تتجاهل أن الإملاء بالعربية أيسر وأكثر انضباطا من الإملاء والكتابة فى اللغتين الفرنسية والانجليزية اللتين تكثر فيهما الحروف،التى تكتب ولاتنطق ، والكلمات التي لها نطق يختلف عن الهجاء.
هذا هو الأصل، أصل الداء كي نعرف أن المسوخ التي تعيش بيننا وتتبنى ذات الدعوات لم يأتوا بجديد وأنهم كالببغاوات يرددون دعوات المستشرقين، أسيادهم دون خجل.
الأدب العربي:
الوجه الآخر للإسلام وقلب العروبة النابض ودماغه المفكر، وبعيدا عن السجال العدائي بين المسلمين والنصارى، المتفاوت في القدر عبر الأزمان، فإن النفس البشرية جبلت على حب الجمال أيا كان منبعه، وهو قاهر النفوس ومطوعها حيثما أشرق، ولا يخفى على أحد جمال الشرق وتجلياته التي تطيب لها النفوس، فجزالة اللغة ورشاقة المفردة وحكي تفاصيل الحياة اليومية ونثر شروح وفيرة لأخلاق البيئة العربية عبرالشعر المنظوم كان كافيا لأن يتمثله الأوروبيون في مكتاباتهم أيا كان جنسها.
ومن الأدباء الأوروبيين الذين تأثروا بالأدب العربي:
"فولتير" الذي قال أنه لم يبدأ كتابة القصة إلا بعد أن قرأ ألف ليلة وليلة أربعة عشر مرة.
"استندال" الذي تمنى على الله أن يمحو من ذاكرته "ألف ليلة وليلة" كي يعيد قراءتها فيستعيد لذته فيها ثانية.
ولم يخفي الشاعر الألماني جوته تأثره بالأدب الإسلامي، كما أن المستشرق الألماني "فردريت روكرت" نقل ديوان الحماسة شعرا إلى الألمانية، كما ترجم مقامات الحريري ترجمة متميزة قال عنها "باريت" يعتبر بحق عينه من الأدب الألماني الذي بلغ الكمال في شكله، ويعتبر أن هذا من أعمال الاستشراق.
ومن الشعراء الإنجليز الذين تأثروا بالأداب الإسلامية الشاعران "توشتر"، "لدكيت"بل وصاغ المستشرقون الأدب الإسلامي على شكل مسلسلات تليفزيونية وإذاعية ومسرحيات، وكذلك للأطفال.
وكأن هذا الفن استحوذ على نفوسهم لدرجة أن شكا أحد الرهبان بالأندلس أن الطلاب الأوروبيون الذين كانوا يفدون للدراسة بمدارس الأندلس يستسيغون العربية ويقبلون عليها أكثر من اللاتينية ويتسابقون على دراستها بل ويقرضون الشعر بالعربية ويفتخرون بذلك الفعل.
كان هذا عندما كان المسلمون أحرارا، لكن عندما أصبح المثقف المسلم إلا ما رحم ربي تابعا لهم يتلقى كل جديد منهم دون فرز أو تنقيح، كما أراد له المستشرقون، أصبح يلهث خلفهم ويسعى لرضاهم، يكتب كما أرادوا بما يحقق مبتغاهم فينا متمثلا فكرهم وثقافاتهم وقيمهم وآرائهم دون خجل، فتحول لمسخ حتى وإن كتب عن النجع والكفر والحارة فهو يقرأ ويكتب بعين مستشرق وليس انطلاقا من جذوره الممتدة في عمق الأرض التي نبت فيها، كي يرضوا عنه ويعترفوا به، ويترجموا له ويعطونه الجوائز، وهذا ما لا تخطئه العين.
كان ولابد أن يؤخذ هذا في عين الاعتبار احتجاج الراهب وشكواه من الطلاب الأوربيين الذي يقبلون على العربية بنهم، فمع خيول نابليون تم نثر كل ما نعانيه ونشكو منه الآن على كل المستويات، وفي ذلك الوقت كانت النفوس مهيضة، والظلام رابض فوق العقول، أرضنا خصبة لاستقبال جديدهم في ظل نضوب معين الحضارة في بلادنا فبدأ علماء نابليون في استكمال مخطط الكنيسة والتي سعت لتنفيذه بالحروب الصليبية ثم بالاستشراق ثم بالاحتلال أيا كانت الدولة المحتلة فالهدف واحد والحرب دينية بالأساس، وكما ألتمعت عيون الأوروبيين بالإعجاب بتفاصيل الحضارة الإسلامية وروافدها، ألتمعت عيون الدارسين والمثقفين العرب بالإعجاب بالحضارة الأوروبية فأقبلوا على التلقي منهم وتمثلهم فكرا وقيمة وسلوكا، كنهج طبيعي من المهزوم المصاب بالصدمة الحضارية، فالتقطوا تعطشهم وأقنعوهم أن سبب تخلفهم هو الإسلام كدين واللغة العربية، واشتغلوا على هذه الفكرة عبر الاحتلال من الفرنسيين إلى الإنجليز إلى غيرهم، كلهم على قلب رجل واحد كي يبلغوا الهدف الرئيسي الذي من أجله قامت الحروب الصليبية.
ولأن الأدب هو لسان الأمة الناطق فكان ولابد من أن يدلو بدلوهم فيه، فلا يترك بالمفردة القرآنية واستلهام روح ومعنى الآيات من أحكام وتعاليم في النصوص الأدبية، بل وإشاعة دونية تمثل الثقافة والفكر العربي بإيعاز من المستشرقين وأكمل هذا المشروع مجموعة من الشعراء الشوام النصارى عام 1921 ولم يخفوا خبيئتهم بل صرحوا بالقول:
"ما كان لنا أن نقف مكتوفي الأيدي أمام الأدب العربي والذي هو الوجه الآخر للإسلام"
ولا يخفي الحداثيون بغضهم للعربية وإن كتبوا بها، ورغبتهم في التخلص من الأحرف العربية واستخدام اللاتينية، وآخرين يرغبون في التخلص من الفصحى والالتزام بالمعاجم وقواعد النحو، فضلا عن دعوات تتردد من آن لآخر باستخدام اللغات المحلية، ويوجز هذا الجزائري الملحد كاتب ياسين الذي كتب مقالا مطولا أنهاه بقوله:
"لقد فرض الإسلام علينا دينا في بلد يقول بالاشتراكية نظاما، وهو أمر على جانب كبير من الخطورة، أضحيت شخصيا موضع حملات صحفية وصفتني بأنني عدو العرب والدين والضاد، فهل من الممكن أن أكون عدوا للغة هذا مع العلم أنني توقفت عن الكتابة بالفرنسية وانصرفت إلى الكتابة بالعربية واللغة المحلية.
في الحقيقة أنني ضد الفصحى، إن استمعت إلى إحدى النشرات التليفزيونية لقلت أنه معيب في الواقع استعمال لغة بليدة جافة متعبة، تعتمد الجمل الطويلة بحيث تخالها بلا نهاية.
لدينا كل الدوافع لمحاربة العروبة الإسلامية لأنها هي التي مع دخول الإسلام الجزائر قضت على الثقافة واللغة الجزائرية وحتى يمنع بعض الجزائريين، وحتى يمنع بعض المدرسين تلاميذهم التكلم بلغة البلاد الأصلية المسماة بالبربر علما بأنها لغة البلاد الأصلية"
والأمثلة من أقوال مثل هذه المسوخ الصاغرة المهطعة للمحتل وأذنابه من المستشرقين
، أصل كل داء في بلادنا أيا كان مسماه عصية على الإحصاء لذا سأكتفي بهذا الأنموذج.
وعلى هذاالدرب سار كتاب الحداثة وما بعد الحداثة الذين تبنوا ذات الفكر بكل مقتضاياته حد انعدام حمرة الخجل، في خضوع مذل واتباع مهين للتيار السائد سعيا خلف الجوائز والنجومية الزائفة دون منجز حقيقي يعتد به، أدب الحداثة منزوع الدسم، لا يورث فن حقيقي ولا ثقافة معبرة عنا قلبا وقالبا وإنما هو أدب مستغرب، ودليل دامغ على نضوب معين المتون الصحيحة داخل الكاتب الذي يعتنق الحداثة وما بعدها.
النحو:
من الدراسات اللغوية التي أولاها المستشرقون اهتماماتهم، على رأسهم الفرنسي رينان والذي قال أن النحو العربي تأثر باليوناني عن طريق السريان ومثله قال الإنجليزي هوفمان، بينما ميركس فتح الباب للنقيضين، الذي يرى أن النحو العربي تأثر باليوناني ومن يرى أنه نشأته إسلامية خالصة، الذين يرونه يوناني يبطنون الاستعلاء، فكيف لمن سكن الصحراء أن ينشأ علم ما حتى ولو كان لغته التي يتحدث بها قبل بدء الدعوة سواء كانوا عاربة أو مستعربة.
وللإنصاف فإن المستشرق الفرنسي جيرار تروبو يرى:
"أن علم النحو أعرب العلوم الإسلامية وأبعدها عن التأثير الأجنبي في طوره الأول"
ولنا أن نقول أن اللغات الإنسانية بعامة قطعا تشترك في كثير من التصنيفات،وأولى وأجدر بذلك هي اللغات السامية التي ولدت من أورمة واحدة، وأكثر من هذا فإن أغلب اللغات السامية اندثرت ولم يعد لها وجود يذكر حتى ولو وجد لها حياة في بعض المناطق فهو وجود على استحياء ويختلف عن الأصل الذي كان، مثال على ذلك السريانية التي توجد في أطراف سوريا وبعض المناطق بالعراق، والعبرية التي أحياها اليهود بعد موات، بل إن الأثريين والباحثين إذا أرادوا دراسة اللغات السامية على تنوعها فإن العربية (مرجعيتهم) لا بد أن تكون حاضرة وبقوة فبدونها تصبح الدراسة صعبة إن لم تكن مستحيلة.
تداعيــــــــــــات مرئيــــــة:
جاء الاحتلال الإنجليزي وفي جعبته أجندة نابليون، فقضى على الكتاتيب بالتدريج عبر إنشاء مدارس اللغات، وبث فكرة أن من يلتحق بها هو الأفضل والأرقى والذي ابتدأ بالالتحاق بها الأثرياء والطبقة الراقية بالمجتمع ثم انتشرت انتشار النار في الهشيم، وشاع بيننا الحديث باللغة الأجنبية من استخدام مفرداتها وجملها بدرجات متفاوتة، وأصبح هذا يعد من دواعي الرقي والثقافة والتحضر ودون ذلك تدني وعجرفة وسوقية أحيانا، ففتحت أبواب جهنم على مصراعيها وأصبح الأصل هو الالتحاق بمدارس اللغات، يقبل عليها الجموع كي ينالوا الرقي المزعوم، يزيد من أوار ذلك أن الاشتغال في الوظائف المرموقة يتطلب إجادة لغة أجنبية أو اثنتين.
وهكذا جهود المستشرقين وتلاميذهم في بلادنا أتت ثمارها، فالانحدار والتدني لا حد له ولا حدود، فضلا عن الحديث بالعامية، والتي امتدت إلى بعض النصوص الأدبية فالكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي بأحرف لاتينية لدى شريحة قطاع غير قليل من الشباب خاصة المفتونين بكل ما هو مستورد، والحديث المتداول تتراوح فيه المفردات الأجنبية من المزج مع العربية حتى يبلغ الحديث بلغة أجنبية خالصة في بعض الأوساط، وهم يفعلون ذلك على سبيل التطور والرقي بينما هو ليس إلا التدني والشعور بالنقصتجاه الآخر، ومحاولة التغلب عليها أو التخلص منها بطريقة ما تعد أمر وجوبي ودون ذلك يعد من الجرائم التي يعاقب عليها القانون في الدول التي يتخذونها أنموذج واجب الاقتداء بها، أما عن تسمية المتاجر بأنواعها بأسماء أجنبية فإنها قد تكتب بأصل لغتها، وقد يزداد السب في وجوهنا بأن تكتب مفرداتها الأجنبية بحروف عربية.
إن ما تعانيه لغتنا لهو السبة في وجه حراس اللغة من الأدباء والمشتغلين بتدريسها، وأولي الأمر على تنوعهم وتخصصهم، وهي بحاجة إلى قوانين جادة وصارمة كإجراء فوري واجب النفاذ والتطبيق، ثم إعادة النظر فيما يقدم في وسائل الإعلام على تنوعها وإجراء عملية ترشيح انتقائي للإعلاميين حتى لا يبقى إلا الخلص ممن يجيدون التحدث بلغة الضاد وليس نطق العربية نطقا أعجميا من فاقدي الأهلية، المسوخ المذبذبون، لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، وهذا يجرنا للحديث عن التعليم لأن النماذج آنفة الذكر هي نتاج مؤسساستنا التعليمية (وهذا وحده هم كبير جدا) ولنا أن نسأل كيف يتم التعامل مع العربية في المدارس والجامعات، لو تحدثنا عن تدريس اللغة للأطفال فإننا نصاب بالصدمة لأن واضع منهجها الدراسي يكاد يكون متعمد لأن يبغض الدارس في اللغة العربية من جمود واضح في التناول، فلغتنا هي لغة الجمال والحس الراقي بالأساس والمفترض للطفل في المرحلة الابتدائية أن يدرس له اللغة من خلال تعليمه القراءة والكتابة مع نصوص شعرية بسيطة تخاطب وجدانه وتثريه وترغبه في اللغة وتبثه إتقانها دون افتعال، وقصصا بعينها، ما بين حقيقية لشخصيات نحب أن يتمثلها (كقدوة)، أو قصصا ترفيهية، يتلقي منها جميل الصفات والخلال والأخلاق والقيم الواجب غرسها داخله، تنمو مع لحمه وعظامه كي تصبح جزء من تكوينه فلا نشقى ويشقى عند اشتداد عوده، فنشكو مما نشكو منه اليوم، فضلا عن كون دراسة اللغة في صورة شعر أو قصص ينمي ملكة الخلق والابتكار وإطلاق العنان لخيال الطفل كي تتضح الصورة لديه ويستطيع مستقبلا تحديد ما سوف يتجه إليهبالدراسة والعمل فيه.
ولكن الواقع يناقض هذا تماما كأن الذي يضع منهج اللغة العربية في مختلف مراحل التعليم منوط به تنفير الدارس منها كي يقبل على سواها.
تتبعنا في هذا البحث الموجز دور المستشرقين في التآمر على اللغة العربية، لكن يبقى السؤال، لماذا نستجيب للمؤامرة وننفذها بأيدينا مهطعين؟ ولماذا لا ننتبه للمرض مبكرا قبل أن يسفر عن نفسه بعد تمكنه؟
توصيات:
وبالقطع الحلول كثيرة إن أردنا، اللغة هوية والإجهاز عليها يعرضنا للزلل بل للخطر الماحق، الحرية ليست مفردة نتشدق بها وإنما معنى واجب الرسوخ داخلنا، هذا الامتهان الذي استعرضناه آنفا بتمثل الآخر وتقليده لدليل دامغ على التبعية المهينة والنفوس المهيضة الخانعة، ولكي تكون لنا الندية في التعامل المتبادل لابد أن نمتلك جوهر الأشياء، وأولى مراحل التملك هو تملك ناصية اللغة التي نتعامل بها، تعلم اللغات الأجنبية مندوب وواجب لأسباب كثيرة ليس من بينها الرقي والتمدن، لأن هاتين الصفتان لكي نبلغهما علينا أن نسلك طريقا طويلا، وأولى الخطوات فيه احترام لغتنا وإجادتها وبذل الجهود للحافظ عليها لأن دون ذلك فنحن في هلاك محقق، ورغبة في استدراك الأمر علينا أن نقوم بهذه الاجراءات:
• لا بد أن يعاد النظر في مناهج اللغة العربية في كل المراحل بدلا من محتواها العقيم الضار الآن.
• سن قوانين صارمة لاتخاذ أسماء المحال التجارية بأسماء عربية مكتوبة بلغة سليمة.
• أن تكتب لوحات الإعلانات بلغة سليمة وإلا تزال وهذا يتطلب مراقبة صارمة.
• إعادة الكتاتيب، لأنها تنمي ملكة الحفظ، ويتعود الطالب على كيفية نطق الحروف بلغة سليمة، فضلا عن الغرس المبكر لكل جميل داخل البراعم الناشئة بما يكفينا شرورالتجريف التي نعانيها الآن.
• عدم تدريس لغة أجنبية قبل سن الثانية عشر.
• رفض أي مكاتبات حكومية طالما أنها مكتوبة بلغة غير سليمة.
هذه الدراسة قدمت للمنتدى الثقافي للأصالة والمعاصرة برئاسة دكتور يسري عبد الغني بتاريخ 18/12/2021
الكتب والمراجع:
التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية عبد الرحمن بدوي
المستشرقون ونظرياتهم في نشأة الدراسات اللغوية تأليف دكتور إسماعيل أحمد عمايرة 1992
حضارة العرب جوستاف لوبون
شخصية مصر دكتور جمال حمدان
موسوعة التاريخ الإسلامي دكتور أحمد شلبي (الجزء الخاص بالأندلس)
القاهرة جمال حمدان
وصف مصر زهير الشايب
الاستشراق إدوارد سعيد
حضارة الإسلام المستشرق الإنجليزي هاملتون جب
شمس العرب تسطع على الغرب المستشرقة الألمانية زغريد هونكة
المستشرقون نجيب العقيقي
إلبرت ديرتيش الدراسات العربية في ألمانيا
أحمد تيمور لهجات العرب طباعة الهيئة المصرية العامة للكتاب.
رودي باريت الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية دار الكتاب العربي بالقاهرة
"الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)"يوسف
عندما خلق الله سبحانه وتعالى آدم علمه الأسماء كلها، والتعلم أيا كان يلزم المتعلم اتخاذ لغة ما، مما يعني أن تعلم آدم للغة سبق تعلم كل الأشياء، وهذا يعني أن آدم كان يعلم أكثر من 12 مليون كلمة هي عدد مفردات اللغة العربية، وعدد مفردات اللغة الإنجليزية هي 600 ألف كلمة، وهكذا كلما تطرقنا لبقية اللغات كانت أقل، وهذا يعني أن اللغة العربية ليست ثرية فحسب، وإنما هي الأثرى على الإطلاق، فقد شاء الله أن يكون الإنسان عبارة عن معمار بشري، والمعمار يلزمه أدوات لبناء داخله كي يسهل تعريفه، فالدين هو أعمدة البناء، واللغة هي اللبنة التي تتم البناء وبها تتضح معالمه، فهي هويته الثقافية والمرتبطة بالمكان أو البيئة التي نشأ فيها، وشاء الله عز وجل أن يكون القرآن بلسان عربي مبين وهو موضوع هذا البحث.
ولا بد من أسباب قوية، لأجلها شاء الله أن تكون لغة القرآن عربية، فلا بد أن لهذه اللغة ميزات من نوع ما، قد نهتدي إليها وقد لا نهتدي، فصاحة العربية وحدها تجب ما دونها حتى لو اتخذ الناطقين بها لهجات محلية قد تستعصي على الفهم أحيانا، فإذا قرأت هذه اللغة بقواعدها سليمة توارت كل اللهجات المحلية الضيقة، حيث أنها الوحيدة المفهومة للسان العربي، ولأن عدونا يتربص بنا الدوائر فلم تغب عنه لغة القرآن، وهو الذي انطلق في بلادنا يبحث وينقب ويدرس كي يخلص إلى جملة من التوصيات التي بها يحتوينا فلا ينطلق المارد الذي حبسه في القمقم، وعادة المرض لايصيب الفرد في مقتل إلا في غفلة منه، لأن اليقظة توجب الحذر والاحتياط، فالقرآن ذو اللسان العربي المبين أنزله الله على قوم يعيشون حياة بدائية لم يتصلوا بأسباب الحضارة ومقتضياتها كما في مصر والشام والعراق (الحضارة فيها قديمة متجذرة متعاقبة) إلا من أسفار للشام واليمن لشراء حاجياتهم والتي بها يسيرون حيواتهم، ما يعني أن معراجهم على حضارات الآخرين كان لمما، ولم يكن لديهم رغبة في محاكاة حياة هذه الشعوب كنوع من الارتقاء والتطور الذي يسعى إليه الإنسان بطبيعة الحال.
هذا العقل العربي كان تميزه واحتفائه فقط لغويا، وكان يقيم لمنتجه الوحيد ومأثرته ألا وهو الشعر أسواقا تشبه المهرجان أو الكرنفال، فيتباهون بأشعارهم التي كانت تعلق على أستار الكعبة فيما يعرف بسوق عكاظ، وبالشعر يصور حياته كاملة جملة وتفصيلا، وسبر أغوار هذه اللغة جعلهم يتفاعلون مع القرآن في سهولة ويسر ودون معوقات، لدرجة أن بعض أئمة الكفر كان يتسسللون ليلا خفية ليسمعوا تلاوة المسلمين له، ذلك العقل الذي كان شبه صفحة بيضاء تلقى القرآن بنقاء سريرة وفطنة وحدس مكنه من الانطلاق يسابق الريح ليشق الأرض ويفسح لنفسه مكانا تحت الشمس، ليس لديه من المعارف سوى القدر اليسير ولكن القرآن أثرى داخله وقوى بناءه فاكتمل لديه "الأعمدة واللبنات" التي أتمت بنائه، فكان حقا له أن يفرد جناحيه ليناهز مجده الثريا، فقط باتباع التعاليم الإلهية التي ساقها الله في القرآن، فمضى على هداه
(أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ) 90 الأنعام
الذي قاده إلى الأمجاد، وهنا أدرك عدونا مكمن قوتنا وسراجها المنير، ألا وهو القرآن، فحاولوا الإجهاز على القرآن والسنة من مناح شتى سنكتفي هنا بالتعرض للغة موضوع البحث.وبعد سنوات من البحث والتقصي من قبل المستشرقين (أصل الداء) حل إلى بلادنا نابليون بخيله ورجله حاملا في جعبته ما خلص إليه علماؤه (المستشرقون) ليبذر في بلادنا بذور كل ما نعانيه الآن على كل المستويات، وكأنهم صفوا له ديباجة احتوائنا فلا نفلت من قبضتهم، أي هم.
أسباب اهتمام المستشرقين باللغة العربية:
على الرغم من أن لهم طرائقهم التي يتخذونها في دراسة اللغة إلا أنهم ترجموا المتون اللغوية، مثل كتاب سيبويه الذي نشره ديرينبورج عام1881 م والذي ترجمه المستشرق الألماني يانز عام 1895م، وعلى حد تعبيرالمستشرق إلبرت ديتريش أنه قد استفاد من كتاب ألفية بن مالك وشرحها لابن عقيل، كما ترجم الألماني ترامب الأجرومية، كما بدا تأثرهم واضح من النحاة العرب في تناولهم للغة العربية، ولنا أن نذكر أنهم كـ فئة متآمرة، وخدام للاستعمار إلا أن المسلمين أفادوا من مناهجهم ودراساتهم، وكما قال ليبنتز: "اللغة مرآة لحياةالشعب الروحية"
لماذا الاهتمام باللغة بعامة؟ لأنها القدرة على التعبير والمنطق الذي يجلي العقول وبها تتضح ملامح المتحدث (تكلم حتى أراك) لذا هي من المؤثرات بمكان والذي لا يمكن تجاوزه، والمستشرقون المشتغلون على حضارة الشرق ومعتقداته كانت لديهم دوافعهم الحثيثة في دراسة اللغة العربية على وجه التحديد من بينها أو جلها:
دوافع لاهوتية وتنصيرية
دوافع حضارية
دوافع واقتصادية
دوافع علمية وثقافية
الدوافع اللاهوتية والتنصيرية:
يتجلى الربط بين التجارة والتنصير في قول المستشرق "آربري" :
"كل هذه الإشارة إلى التاريخ ضرورية لشرح الروح الجديدة التي تؤجج شعلة الاستشراق البريطاني منذ بداية القرن السابع عشر، فطلب التجارة الرابحة وهو أقوى المشجعات البشرية على النشاط والعمل كان له أثره الطبيعي على ما للأمة من ميول ومجهودات فكرية، فبينما كان التاجر يسعى في تحصيل النفع المادي من علاقاته بالشعوب الشرقية، إذ بالمبشر الإنجيلي يسبقه تارة أو يتبعه حثيثا تارة أخرى، وقد امتلأ حماسة شريفة لأن يحقق أمر معلمه المسيح بالذهاب إلى كل العالم والتبشير بالإنجيل إلى كل مخلوق، وقد وجد أن ممايساعده على تحقيق ما يرمي إليه من الخلاص الروحي أن يتعلم ما للجماعة التي سيلقاها من لغة وطرق تفكير، وقد ازداد هذا التعلم لزوما حين وجد الداعي المسيحي نفسه وجها لوجه أمام دين تبشيري آخر هو الإسلام"
وهذا التصريح بقول آربري عن الإسلام من كونه عقبة في طريق التنصير أدعى للاهتمام باللغة التي نزل بها القرآن، وهذا بديهي وطبيعي جدا، ذلك لأن الإستشراق هو الوجه الآخر للتنصير بالإساس، وقد خرج من أروقة الكنيسة، البعض يقول أنهم خرجوا أثناء الحروب الصليبية والبعض الآخر يقول أنه تلاها مباشرة والقول الأول هو الأرجح، فالتآمر يتضافر ولا يتجزأ، مع العلم بأن أول من أسس كرسي الاستشراق داخل جامعة أكسفورد هو رئيس الأساقفة واسمه "لود" عام 1636م
وكانت الترجمة الأولى للقرآن عام 1143م إلى اللاتينية بتوجيه من الأب "بيتروس فينيرابليس" رئيس دير كلوني في أسبانيا، ولا أدل على كون الاستشراق هو رديف التنصير من قول المستشرق الألماني رودي باريت:
"وكان الهدف من هذه الجهود في ذلك العصر وفي القرون التالية هو التبشير وهو إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين المسيحي"
لذا ترجمة القرآن وكتب الحديث وأمهات الكتب والمخطوطات لم تخلص من لي عنق النص الأصلي ليوافق مآربهم، حتى ترجمتهم الإنجيل للغة العربية كان لخدمة التبشير ولا أدل على ذلك من قول المستشرق يوهان فوك:
"كان أول من اعتنى باللغة العربية علماء الكنيسة المسيحية الذين بذلوا جهدهم في دراسة لغة المسلمين، غير أن هدفهم لم يكن علميا، بل إنهم أرادوا الرد على الإسلام على أساس تراجم لاتينية للقرآن وهداية المسلمين بواسطة تراجم عربية للإنجيل والكتب الأخرى"
ويضيف أن كريستمان ومن تبعه في ألمانيا في ذلك الزمان جعل من دراسته للعربية وسيلة لنشر النصرانية في الشرق.
دوافع حضارية:
بدأت المواجهة مع الإسلام منذ اللحظة الأولى لظهوره، ولكن المواجهة بلغت مداها مع الحروب الصليبية والتي خلص الغرب النصراني منها إلى نتيجة هامة جدا لهم ولنا على حد سواء، وهي أن الأمة الإسلامية قد تضعف ولكنها سرعان ما تستعيد قوتها إذا ما اعتصمت بدينها، فهو الأصل والمنطلق الذي به بلغت حضارتهم مرقى القمة وقلبوا الموازين، وأدركوا أن المواجهة العسكرية لن تؤتى ثمارها دون الاشتغال على إضعافهم حضاريا، وبيت القصيد في ذلك هو القرآن والسنة ولكي تضعف ملكة الإفهام عند المسلمين فلابد من أن تبعد الشقة بينهم وبين اللغة التي نزل بها القرآن، فإن عجزوا على إفهامها انقطعت الصلة بينهم وبين تعاليم المتن الذي جاء به من لا ينطق عن الهوى، وبالطبع بعد بزوغ الصهيونية وتحالفها مع الصليبية كان الإعلام بأنواعه وما يقدم فيه من مادة من أجل أدواتهم لبلوغ مأربهم.
وفي استنكار محرض على تعلم العربية يقول المستشرق الإنجليزي آربري:
"ولكن من الغريب أن المحاربين الصليبيين يبدو وكأنهم أهملوا فرصتهم لتعلم لغة أعدائهم"
وعن ثمار الحروب الصليبية الخاسرة يقول المستشرق الألماني فوك:
"فقد أدرك النصارى بعد عام 1453م أي بعد فتح القسطنطينية أن الأجدى عليهم هو أن يشنوا حربا ثقافية ضد المسلمين حيث يقول:
"ولم يتغير الوضع في بلاد الغرب كلها حتى القرن السادس عشر تقريبا عندما اشتدت الرغبة لدى أهل الغرب في إرسال المبشرين إلى البلاد الإسلامية، بعد أن فتح الأتراك استنبول عام 1453م ثم أخذ بعض أهل العلم يؤمون الشرق ليحصلوا على مخطوطات عربية من استنبول ودمشق وغيرها من مدن الشرق"
ولتعلم اللغة العربية في هذه المنطقة يقول المستشرق ديتريش:
"أخذت أوروبا تبحث في حضارات الشرق، وتخضعها لدراسة عملية موضوعية، ولذلك كانت دراسة اللغات والتعمق فيها ضرورة لا مناص منها"
وقد أوعز المستشرقون لعملائهم في بلادنا بأن الإسلام هو سبب تخلفنا، وكذلك اللغة العربية لأنها معقدة كما يزعمون، وليست بسهولة وسلاسة العامية المحلية لكل قطر واستدلوا على ذلك بالشعر النبطي والأزجال العامية للترغيب بإحلال العامية محل الفصحى.
(وهذا يفك لغز المسوخ التي تنادي بذلك في بلادنا قديما وحديثا، بوق المستشرقين) فنادوا بوجوب تجديد اللغة بإدخال مفردات عامية فيها (كما الدعوة الخبيثة بتجديد الخطاب الديني للمسلمين فقط) وما أحدثته الحداثة وما بعد الحداثة باللغة في الأدب شعرا ونثرا فضلا عن المضمون الذي يدس فيه كل أنواع السموم.
والمستشرقون لا يخفون فخرهم في إحلالهم العامية محل العربية، وأن هذا يعد من تأثيرهم في الحضارة والأدب، وتأثير مفكريهم بجهودهم التراكمية كي نصل إلى ما وصلنا نحن إليه من تدني غير مسبوق.
لقد فطنوا إلى ما يمكن اختراقنا منه، اللغة كسلاح يفوق كل أنواع الأسلحة، وقفوا على ما يقودهم إلى السيطرة على عدوهم، السيطرة الحضارية والثقافية ولا أدل على ذلك من دعوة المستشرق بيار دوبوا لاسترجاع الأرض المقدسة فقد أعلن عن برنامج عام 1306م الذي تستعمر بموجبه أوروبا بلاد الشرق بقيادة ملك فرنسا:
"نادى بإنشاء مدارس لتعليم لغات الشرق لتأهيل الموظفين والضباط والمفاوضين والأطباء والمراسلين، وكذلك الفتيات الأوروبيات اللآتي يمكن تزويجهن بزعماء شرقيين"
أما المستشرق الصهيوني برنارد لويس فيقول عن اللغة العربية:
"وقد وجد الطلبة الإنجليز في الهند لدى دراستهم لغات مسلمي الهند ومدينتهم، أن أبحاثهم وتنقيباتهم تحتم عليهم دراسة العربية التي هي أساس الثقافة الإسلامية في أي لغة من اللغات"
أما المستشرق الإنجليزي وليم بدويل فيقول مرغبا في دراسة العربية:
"أنها لغة الدين الوحيدة وأهم لغة للسياسة والعمل من الجزائر إلى بلاد الصين"
ولأن الأمثلة كثيرة وعصية على الحصر مما أفاءت به قريحة المستشرقين بنتاجهم الضخم، فإننا نتوقف هنا لنمعن النظر في تلك الأقوال آنفة الذكر، فالمؤامرة فجة صريحة، والمستشرقون هم مهندوسو التنصير والاستعمار على حد سواء، وقد أدركوا أهمية اللغة في الوصول لمبتغاهم، إنها الفراء الذي يحمي الجسد من برد الزمهرير فإن نزع عن هذا الجسد الفراء وترك في مرج الجليد فإنه هالك لا محالة.
يقول المستشرق برينو مخاطبا طلابه:
"أتريد يا صاح أن تتعلم الكلام مع الأهالي الذين حولك وأن تختبر المسلمين فى زيارتك لتعرف ما يهمك؟ لاتظن أنى سأعلمك لغة القرآن فهذه اللغة قد ماتت ولايتكلم بها أحد، فهى لاتينية العرب، وهى اللغة التى أنزل الله بها كتاب المسلمين وهى كذالك المستعملة فى جنة " محمد"، وهى لغة الصلوات والاستغاثات والتمنيات أحيانا وسأحبب إليك دراستها فى المستقبل إذا أرادت أن تتذوق حلاوة الاجتماع بالحورالعين"
لاحظ مدى الصلف والغرور الأجوف الذي يتحدث به ذلك المأفون لطلابه،
ومن أجل هذا قام الاستشراق بإدخال تدريس لهجات العرب المختلفة فى مدارسهم وجامعاتهم ومعاهدهم،وفي سنة 1880م ظهر كتاب " قواعدالعربية العامية في مصر" لـ ولهام سبيتا الذى كان أول كتاب في العامية المصرية من الأجانب.
وظهر كتاب "المقتضب فى عربية مصر" لـ فيوت وباول اللذان اتجها فيه وجهةعلمية لتسهيل دراسةالعامية المصرية، تلك التى ضاعت كرامتها على حد قولهما لتركها تنساب مفككة بدون ضوابط حتى أصبحت لاوجود لها كلغة مكتوبة ولم يفتهما أيضا أن يرددا الشكوى من صعوبة اللغة العربية الفصحى وخاصة حروفها الخالية من حروف الحركة.
نلاحظ هنا أن البداية كانت من مصر، القاطرة التي تقود البقية الباقية كما يقول جمال حمدان.
وهناك من دعا إلى استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية، فالمستشرق "فنسك" الذى نشر ، رسائل عديدة مكتوبة بحروف أدبية في اللغة المصرية القديمة ومن بينها رسالة "أجرومية مصرى" ، كتبها على هذا النحو: بل لسان المصرى ومعها أمسلةيقصد: باللسان المصرى ومعها أمثلة ، وهذهالدعوة إلى استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية قصد التيسير تتجاهل أن الإملاء بالعربية أيسر وأكثر انضباطا من الإملاء والكتابة فى اللغتين الفرنسية والانجليزية اللتين تكثر فيهما الحروف،التى تكتب ولاتنطق ، والكلمات التي لها نطق يختلف عن الهجاء.
هذا هو الأصل، أصل الداء كي نعرف أن المسوخ التي تعيش بيننا وتتبنى ذات الدعوات لم يأتوا بجديد وأنهم كالببغاوات يرددون دعوات المستشرقين، أسيادهم دون خجل.
الأدب العربي:
الوجه الآخر للإسلام وقلب العروبة النابض ودماغه المفكر، وبعيدا عن السجال العدائي بين المسلمين والنصارى، المتفاوت في القدر عبر الأزمان، فإن النفس البشرية جبلت على حب الجمال أيا كان منبعه، وهو قاهر النفوس ومطوعها حيثما أشرق، ولا يخفى على أحد جمال الشرق وتجلياته التي تطيب لها النفوس، فجزالة اللغة ورشاقة المفردة وحكي تفاصيل الحياة اليومية ونثر شروح وفيرة لأخلاق البيئة العربية عبرالشعر المنظوم كان كافيا لأن يتمثله الأوروبيون في مكتاباتهم أيا كان جنسها.
ومن الأدباء الأوروبيين الذين تأثروا بالأدب العربي:
"فولتير" الذي قال أنه لم يبدأ كتابة القصة إلا بعد أن قرأ ألف ليلة وليلة أربعة عشر مرة.
"استندال" الذي تمنى على الله أن يمحو من ذاكرته "ألف ليلة وليلة" كي يعيد قراءتها فيستعيد لذته فيها ثانية.
ولم يخفي الشاعر الألماني جوته تأثره بالأدب الإسلامي، كما أن المستشرق الألماني "فردريت روكرت" نقل ديوان الحماسة شعرا إلى الألمانية، كما ترجم مقامات الحريري ترجمة متميزة قال عنها "باريت" يعتبر بحق عينه من الأدب الألماني الذي بلغ الكمال في شكله، ويعتبر أن هذا من أعمال الاستشراق.
ومن الشعراء الإنجليز الذين تأثروا بالأداب الإسلامية الشاعران "توشتر"، "لدكيت"بل وصاغ المستشرقون الأدب الإسلامي على شكل مسلسلات تليفزيونية وإذاعية ومسرحيات، وكذلك للأطفال.
وكأن هذا الفن استحوذ على نفوسهم لدرجة أن شكا أحد الرهبان بالأندلس أن الطلاب الأوروبيون الذين كانوا يفدون للدراسة بمدارس الأندلس يستسيغون العربية ويقبلون عليها أكثر من اللاتينية ويتسابقون على دراستها بل ويقرضون الشعر بالعربية ويفتخرون بذلك الفعل.
كان هذا عندما كان المسلمون أحرارا، لكن عندما أصبح المثقف المسلم إلا ما رحم ربي تابعا لهم يتلقى كل جديد منهم دون فرز أو تنقيح، كما أراد له المستشرقون، أصبح يلهث خلفهم ويسعى لرضاهم، يكتب كما أرادوا بما يحقق مبتغاهم فينا متمثلا فكرهم وثقافاتهم وقيمهم وآرائهم دون خجل، فتحول لمسخ حتى وإن كتب عن النجع والكفر والحارة فهو يقرأ ويكتب بعين مستشرق وليس انطلاقا من جذوره الممتدة في عمق الأرض التي نبت فيها، كي يرضوا عنه ويعترفوا به، ويترجموا له ويعطونه الجوائز، وهذا ما لا تخطئه العين.
كان ولابد أن يؤخذ هذا في عين الاعتبار احتجاج الراهب وشكواه من الطلاب الأوربيين الذي يقبلون على العربية بنهم، فمع خيول نابليون تم نثر كل ما نعانيه ونشكو منه الآن على كل المستويات، وفي ذلك الوقت كانت النفوس مهيضة، والظلام رابض فوق العقول، أرضنا خصبة لاستقبال جديدهم في ظل نضوب معين الحضارة في بلادنا فبدأ علماء نابليون في استكمال مخطط الكنيسة والتي سعت لتنفيذه بالحروب الصليبية ثم بالاستشراق ثم بالاحتلال أيا كانت الدولة المحتلة فالهدف واحد والحرب دينية بالأساس، وكما ألتمعت عيون الأوروبيين بالإعجاب بتفاصيل الحضارة الإسلامية وروافدها، ألتمعت عيون الدارسين والمثقفين العرب بالإعجاب بالحضارة الأوروبية فأقبلوا على التلقي منهم وتمثلهم فكرا وقيمة وسلوكا، كنهج طبيعي من المهزوم المصاب بالصدمة الحضارية، فالتقطوا تعطشهم وأقنعوهم أن سبب تخلفهم هو الإسلام كدين واللغة العربية، واشتغلوا على هذه الفكرة عبر الاحتلال من الفرنسيين إلى الإنجليز إلى غيرهم، كلهم على قلب رجل واحد كي يبلغوا الهدف الرئيسي الذي من أجله قامت الحروب الصليبية.
ولأن الأدب هو لسان الأمة الناطق فكان ولابد من أن يدلو بدلوهم فيه، فلا يترك بالمفردة القرآنية واستلهام روح ومعنى الآيات من أحكام وتعاليم في النصوص الأدبية، بل وإشاعة دونية تمثل الثقافة والفكر العربي بإيعاز من المستشرقين وأكمل هذا المشروع مجموعة من الشعراء الشوام النصارى عام 1921 ولم يخفوا خبيئتهم بل صرحوا بالقول:
"ما كان لنا أن نقف مكتوفي الأيدي أمام الأدب العربي والذي هو الوجه الآخر للإسلام"
ولا يخفي الحداثيون بغضهم للعربية وإن كتبوا بها، ورغبتهم في التخلص من الأحرف العربية واستخدام اللاتينية، وآخرين يرغبون في التخلص من الفصحى والالتزام بالمعاجم وقواعد النحو، فضلا عن دعوات تتردد من آن لآخر باستخدام اللغات المحلية، ويوجز هذا الجزائري الملحد كاتب ياسين الذي كتب مقالا مطولا أنهاه بقوله:
"لقد فرض الإسلام علينا دينا في بلد يقول بالاشتراكية نظاما، وهو أمر على جانب كبير من الخطورة، أضحيت شخصيا موضع حملات صحفية وصفتني بأنني عدو العرب والدين والضاد، فهل من الممكن أن أكون عدوا للغة هذا مع العلم أنني توقفت عن الكتابة بالفرنسية وانصرفت إلى الكتابة بالعربية واللغة المحلية.
في الحقيقة أنني ضد الفصحى، إن استمعت إلى إحدى النشرات التليفزيونية لقلت أنه معيب في الواقع استعمال لغة بليدة جافة متعبة، تعتمد الجمل الطويلة بحيث تخالها بلا نهاية.
لدينا كل الدوافع لمحاربة العروبة الإسلامية لأنها هي التي مع دخول الإسلام الجزائر قضت على الثقافة واللغة الجزائرية وحتى يمنع بعض الجزائريين، وحتى يمنع بعض المدرسين تلاميذهم التكلم بلغة البلاد الأصلية المسماة بالبربر علما بأنها لغة البلاد الأصلية"
والأمثلة من أقوال مثل هذه المسوخ الصاغرة المهطعة للمحتل وأذنابه من المستشرقين
، أصل كل داء في بلادنا أيا كان مسماه عصية على الإحصاء لذا سأكتفي بهذا الأنموذج.
وعلى هذاالدرب سار كتاب الحداثة وما بعد الحداثة الذين تبنوا ذات الفكر بكل مقتضاياته حد انعدام حمرة الخجل، في خضوع مذل واتباع مهين للتيار السائد سعيا خلف الجوائز والنجومية الزائفة دون منجز حقيقي يعتد به، أدب الحداثة منزوع الدسم، لا يورث فن حقيقي ولا ثقافة معبرة عنا قلبا وقالبا وإنما هو أدب مستغرب، ودليل دامغ على نضوب معين المتون الصحيحة داخل الكاتب الذي يعتنق الحداثة وما بعدها.
النحو:
من الدراسات اللغوية التي أولاها المستشرقون اهتماماتهم، على رأسهم الفرنسي رينان والذي قال أن النحو العربي تأثر باليوناني عن طريق السريان ومثله قال الإنجليزي هوفمان، بينما ميركس فتح الباب للنقيضين، الذي يرى أن النحو العربي تأثر باليوناني ومن يرى أنه نشأته إسلامية خالصة، الذين يرونه يوناني يبطنون الاستعلاء، فكيف لمن سكن الصحراء أن ينشأ علم ما حتى ولو كان لغته التي يتحدث بها قبل بدء الدعوة سواء كانوا عاربة أو مستعربة.
وللإنصاف فإن المستشرق الفرنسي جيرار تروبو يرى:
"أن علم النحو أعرب العلوم الإسلامية وأبعدها عن التأثير الأجنبي في طوره الأول"
ولنا أن نقول أن اللغات الإنسانية بعامة قطعا تشترك في كثير من التصنيفات،وأولى وأجدر بذلك هي اللغات السامية التي ولدت من أورمة واحدة، وأكثر من هذا فإن أغلب اللغات السامية اندثرت ولم يعد لها وجود يذكر حتى ولو وجد لها حياة في بعض المناطق فهو وجود على استحياء ويختلف عن الأصل الذي كان، مثال على ذلك السريانية التي توجد في أطراف سوريا وبعض المناطق بالعراق، والعبرية التي أحياها اليهود بعد موات، بل إن الأثريين والباحثين إذا أرادوا دراسة اللغات السامية على تنوعها فإن العربية (مرجعيتهم) لا بد أن تكون حاضرة وبقوة فبدونها تصبح الدراسة صعبة إن لم تكن مستحيلة.
تداعيــــــــــــات مرئيــــــة:
جاء الاحتلال الإنجليزي وفي جعبته أجندة نابليون، فقضى على الكتاتيب بالتدريج عبر إنشاء مدارس اللغات، وبث فكرة أن من يلتحق بها هو الأفضل والأرقى والذي ابتدأ بالالتحاق بها الأثرياء والطبقة الراقية بالمجتمع ثم انتشرت انتشار النار في الهشيم، وشاع بيننا الحديث باللغة الأجنبية من استخدام مفرداتها وجملها بدرجات متفاوتة، وأصبح هذا يعد من دواعي الرقي والثقافة والتحضر ودون ذلك تدني وعجرفة وسوقية أحيانا، ففتحت أبواب جهنم على مصراعيها وأصبح الأصل هو الالتحاق بمدارس اللغات، يقبل عليها الجموع كي ينالوا الرقي المزعوم، يزيد من أوار ذلك أن الاشتغال في الوظائف المرموقة يتطلب إجادة لغة أجنبية أو اثنتين.
وهكذا جهود المستشرقين وتلاميذهم في بلادنا أتت ثمارها، فالانحدار والتدني لا حد له ولا حدود، فضلا عن الحديث بالعامية، والتي امتدت إلى بعض النصوص الأدبية فالكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي بأحرف لاتينية لدى شريحة قطاع غير قليل من الشباب خاصة المفتونين بكل ما هو مستورد، والحديث المتداول تتراوح فيه المفردات الأجنبية من المزج مع العربية حتى يبلغ الحديث بلغة أجنبية خالصة في بعض الأوساط، وهم يفعلون ذلك على سبيل التطور والرقي بينما هو ليس إلا التدني والشعور بالنقصتجاه الآخر، ومحاولة التغلب عليها أو التخلص منها بطريقة ما تعد أمر وجوبي ودون ذلك يعد من الجرائم التي يعاقب عليها القانون في الدول التي يتخذونها أنموذج واجب الاقتداء بها، أما عن تسمية المتاجر بأنواعها بأسماء أجنبية فإنها قد تكتب بأصل لغتها، وقد يزداد السب في وجوهنا بأن تكتب مفرداتها الأجنبية بحروف عربية.
إن ما تعانيه لغتنا لهو السبة في وجه حراس اللغة من الأدباء والمشتغلين بتدريسها، وأولي الأمر على تنوعهم وتخصصهم، وهي بحاجة إلى قوانين جادة وصارمة كإجراء فوري واجب النفاذ والتطبيق، ثم إعادة النظر فيما يقدم في وسائل الإعلام على تنوعها وإجراء عملية ترشيح انتقائي للإعلاميين حتى لا يبقى إلا الخلص ممن يجيدون التحدث بلغة الضاد وليس نطق العربية نطقا أعجميا من فاقدي الأهلية، المسوخ المذبذبون، لا إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، وهذا يجرنا للحديث عن التعليم لأن النماذج آنفة الذكر هي نتاج مؤسساستنا التعليمية (وهذا وحده هم كبير جدا) ولنا أن نسأل كيف يتم التعامل مع العربية في المدارس والجامعات، لو تحدثنا عن تدريس اللغة للأطفال فإننا نصاب بالصدمة لأن واضع منهجها الدراسي يكاد يكون متعمد لأن يبغض الدارس في اللغة العربية من جمود واضح في التناول، فلغتنا هي لغة الجمال والحس الراقي بالأساس والمفترض للطفل في المرحلة الابتدائية أن يدرس له اللغة من خلال تعليمه القراءة والكتابة مع نصوص شعرية بسيطة تخاطب وجدانه وتثريه وترغبه في اللغة وتبثه إتقانها دون افتعال، وقصصا بعينها، ما بين حقيقية لشخصيات نحب أن يتمثلها (كقدوة)، أو قصصا ترفيهية، يتلقي منها جميل الصفات والخلال والأخلاق والقيم الواجب غرسها داخله، تنمو مع لحمه وعظامه كي تصبح جزء من تكوينه فلا نشقى ويشقى عند اشتداد عوده، فنشكو مما نشكو منه اليوم، فضلا عن كون دراسة اللغة في صورة شعر أو قصص ينمي ملكة الخلق والابتكار وإطلاق العنان لخيال الطفل كي تتضح الصورة لديه ويستطيع مستقبلا تحديد ما سوف يتجه إليهبالدراسة والعمل فيه.
ولكن الواقع يناقض هذا تماما كأن الذي يضع منهج اللغة العربية في مختلف مراحل التعليم منوط به تنفير الدارس منها كي يقبل على سواها.
تتبعنا في هذا البحث الموجز دور المستشرقين في التآمر على اللغة العربية، لكن يبقى السؤال، لماذا نستجيب للمؤامرة وننفذها بأيدينا مهطعين؟ ولماذا لا ننتبه للمرض مبكرا قبل أن يسفر عن نفسه بعد تمكنه؟
توصيات:
وبالقطع الحلول كثيرة إن أردنا، اللغة هوية والإجهاز عليها يعرضنا للزلل بل للخطر الماحق، الحرية ليست مفردة نتشدق بها وإنما معنى واجب الرسوخ داخلنا، هذا الامتهان الذي استعرضناه آنفا بتمثل الآخر وتقليده لدليل دامغ على التبعية المهينة والنفوس المهيضة الخانعة، ولكي تكون لنا الندية في التعامل المتبادل لابد أن نمتلك جوهر الأشياء، وأولى مراحل التملك هو تملك ناصية اللغة التي نتعامل بها، تعلم اللغات الأجنبية مندوب وواجب لأسباب كثيرة ليس من بينها الرقي والتمدن، لأن هاتين الصفتان لكي نبلغهما علينا أن نسلك طريقا طويلا، وأولى الخطوات فيه احترام لغتنا وإجادتها وبذل الجهود للحافظ عليها لأن دون ذلك فنحن في هلاك محقق، ورغبة في استدراك الأمر علينا أن نقوم بهذه الاجراءات:
• لا بد أن يعاد النظر في مناهج اللغة العربية في كل المراحل بدلا من محتواها العقيم الضار الآن.
• سن قوانين صارمة لاتخاذ أسماء المحال التجارية بأسماء عربية مكتوبة بلغة سليمة.
• أن تكتب لوحات الإعلانات بلغة سليمة وإلا تزال وهذا يتطلب مراقبة صارمة.
• إعادة الكتاتيب، لأنها تنمي ملكة الحفظ، ويتعود الطالب على كيفية نطق الحروف بلغة سليمة، فضلا عن الغرس المبكر لكل جميل داخل البراعم الناشئة بما يكفينا شرورالتجريف التي نعانيها الآن.
• عدم تدريس لغة أجنبية قبل سن الثانية عشر.
• رفض أي مكاتبات حكومية طالما أنها مكتوبة بلغة غير سليمة.
هذه الدراسة قدمت للمنتدى الثقافي للأصالة والمعاصرة برئاسة دكتور يسري عبد الغني بتاريخ 18/12/2021
الكتب والمراجع:
التراث اليوناني في الحضارة الإسلامية عبد الرحمن بدوي
المستشرقون ونظرياتهم في نشأة الدراسات اللغوية تأليف دكتور إسماعيل أحمد عمايرة 1992
حضارة العرب جوستاف لوبون
شخصية مصر دكتور جمال حمدان
موسوعة التاريخ الإسلامي دكتور أحمد شلبي (الجزء الخاص بالأندلس)
القاهرة جمال حمدان
وصف مصر زهير الشايب
الاستشراق إدوارد سعيد
حضارة الإسلام المستشرق الإنجليزي هاملتون جب
شمس العرب تسطع على الغرب المستشرقة الألمانية زغريد هونكة
المستشرقون نجيب العقيقي
إلبرت ديرتيش الدراسات العربية في ألمانيا
أحمد تيمور لهجات العرب طباعة الهيئة المصرية العامة للكتاب.
رودي باريت الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية دار الكتاب العربي بالقاهرة