إن مثلي يا علي يجب أن يُحبس فى قمقم مختوم.
فاجأها صمت الحلم المتكرر الملعون، الذي يعصر بحياتها، ويحولها فى لحظات كثيرة إلى جبل حزن ناصع البياض، مثقوب بعينين خضراوين اللون، يلمع محجريهما ببريق لعنة ما تؤرق منامها وتجعل الأبرياء قتلة .
لماذا أنت أيها الأب لطيف.. لماذا احتضنك حلمي الميت.. لماذا أنت ؟
آه يا علي يا ريتني ما كبرت ولا عرفت نفسي أكتر من كده.. وأفضل أغني ورا صوتك الحلو يا حبيبي.. " حبيبي يوم ما عرفته كان قطة مغمضه لو صادف قال بحبك يقولها بلخبطة، وفى يوم وليلة فتح، لقيته يا عيني ادردح واتعلم الشقاوة وبقى آخر عفرته، مع إني يوم ما عرفته كان قطة مغمضه ".
لابد أن فى عقل كل إنسان منا، عته ما، ولابد أن يمارسه ويبجله حتى يصل إلى ذروة الموقف مع حياته.
كل الرقة، كل المحبة، كل العزاء لك أيها الأب لطيف ، يُقال أن أصابته رصاصة طائشة ، فى أثناء تنفيذ إحدى العمليات العسكرية ،التي تمقتها أمي وتجعل منامها مستحيلاً، وتشحذ عقلها تفكيراً وتحجر مُقلة عينيها عن أي بصيص بمجرد أن يغيب زوجها الضابط المتمرد الغاضب الناقم على مشورة أبيه القوي من إحدى عائلات الصعيد المترامية الأطراف، هو من زج به في هذا الشقاء الأبدي ، اللواء عصمت شكري عبد الرحيم القوصي، وجده البكباشي، ابن الفلاحين المخلص، من كثرة تنقله عملا بين الفلاحين. كان رجل نادر الطبيعة عما تعارف عليه، رجلاً يُتقن الحديث، عن نسب العائلات وأصلها وسلالاتها وامتدادها عبر الأزمان والوصول بها إلى آخر جذورها ، لقد كان رجل الناس الأول فى مجالس الكيف، ومجالس الحكم والنزاع والأفراح والمآتم، رجل الإتحاد، والنظام، والعمل، أين هو من حفيده لطيف فاكهته ؟!
كما كان يطلق عليه جده فهو أكثر الناس شبهاً به وتمثلاً فى شخصيته.
تقسمين يا كفاح : " والله ما كنت نائمة، ولم أكن مستيقظة أيضاً ، ولم يكن حُلمَّا عابراً " ، بل كان روحك الممسوسة، تحلق فى الأفق، وتدخل الدائرة السوداء فى عقلك، ترين نفسك تتدحرجين ككرة جولف صغيرة على ربوة عالية حجرية ليس بها أى استواء أو خضار تسقطين سقطة الموت المفاجئ ، ويحدث اللبس بينك وبين خيالات ناصعة عن حياة أخرين ؛ التي ستصبح بعد لحظات لهم مجرد لوحات حياتية قديمة وعابرة، ثم على مرآى بصرك المشوش تلمحين لأول مرة أبانا متياس بردائه الأسود ، وجبته الثمينة ، وعينيه اللتين تعرف بالبصيرة ، وتقول أحكاماً. وهو يشيرلها بحدة قائلا بألم :
أنت مليئة يا ابنتي.. لا رجاء منك ، ولا سبيل تذهبين إليه .
سمعت من يطأون بقدم ثقيلة، يطرقون طرقات تعلمين بها أنه ملمس الموت الفاجع ولكن من هو؟ من هو ؟ ، فالنداء دائماً يختارها هى الميتة، هي المجاز، هي الملهمة للقدر، هي وحي إلهامه. يالا.. العجب من عزرائيل هذا! هل أصبح له أيضاً ملهم يفتح شهيته ؟!
كفاح يا جبل الحزن الأبيض. كم أنت صغيرة بما يكفي لأن تكوني بهذا الكم الميتافيزيقي المرعب، وأنت لا زلت بعد فتاه في سن العشرين .. كيف كان هذا؟ نعم لقد فعلها علي وفعلتها معه بكل تفاني واستمراء لذيذ لحب شاب بينهما خلف أسوار البيوت المهجورة فى شارع الحب والنشوة، تصطف الشجرات الكبيرة الشاهقة على جانبيه، لا يسير به إلا العشاق، تتسلل أوراق الأشجار أنوار الأعمدة الكهربائية البيضاء فتبدو الإضاءة خافتة لا تسمح إلا لحالة الحب .
قولي اسم يا علي.
لديده ولا هريسه.
لأ صحيح يا علي، إنت بتسمي الناس من أشكالهم.. شكلي يتسمى إيه؟
ملاك رهيب يالديده .. هريسه.
إيه هوو ده ... كداب.
شهقت كفاح ، ورفعت رأسها ، وفتحت عينيها من قبلة الذكرى الثقيلة لتتجول بين الأشياء التي تمر بيننا ونظنها رحلت ، ولكننا لا نصرح بها أبداً، وبعد يأس من جوف أعماقها تفقد الإحساس بالتماهي مع الذكريات وبين الفعلي والحقيقي لاختلاف منطق شريعة الكون عن منطق العرف السائد.. تعترف قائلة :
" سكين تذبحني به نظرات أمي الناقمة على فعلتي كلما اعترضت كلامها وأفعالها ولكن واأسفاه ما ممكن أصبح لا يمكن أن يكون ... هكذا.. أخبرني علي.
وتستطرد حسرتها : " أكل هذا يفسر غضبي عليك أيها الأب لطيف، هل بلا إرادة مني تدخل دائرة هذه الأزمة العمياء؟ أعلم أن هذه المؤامرة لم تكن من تدبيرك ، وإن كانت من صنعك، عندما تم اعتقال علي بتهمة الاشتباه فى عملية قتل أعضاء حكومية مهمة لمجرد أنه جار الأستاذ عبد النبى المعروف بتاريخه السياسي، هذه المرأة الفاضلة القادرة على تدبير الشر بكل فجاجة تكابد ، وتهلك الآن فى مسالك العذاب دونما نهاية، فليس هناك من يستطيع أن يُعيد الموتى،هي من أبعدت علي عني اعتقاداً منها أنه طامع في أموالي التي سارثها من أبي المتوفي زوجها السابق، هذا غير طليقها الأول الذى أنجبت منه أختي الكبيرة المتزوجة "سوزان".. أختي سوزان .. يا إلهي إنها ماتت مع زوجها وطفليها فى حادث سيارة لا مثيل له فى بشاعته، ألا تذكرين يا كفاح كان ذلك فى ليل يوم عصيب من حياتك الحافلة صباح بدء امتحانات المرحلة الإعدادية التي كدت أن ترسبي بها ، وأنهت على كل تاريخك الدراسي القديم المتقدم، ألا تذكرين أيضاً أن هذا تم مباشرة بعد رؤية نفس الحلم ".
ثوان واقشعر بدنها، ثم تهدلت عضلاتها، وخاضت لحظات رهيبة مختلطة فى خيالها بصور الموتى ممن لم ترهم وممن رأتهم بعين الوهم فى أحلامها المضطربة، فأصابها دوار، فأغمضت جفنيها . ثم قالت بحزن :
" أما أنا فلا أجد في الدنيا كلها خطورة تبرر النذالة، هكذا تحدث علي "
جاء يوم جنازة الأب لطيف كانت أمي ملقاة على السرير أعصابها منهارة تعيش حالة الوجود والعدم كمن يحتضر، أي وجهة نظر ستسلكها هذه المرأة التعسة وقد فقدت ثلاثة أزواج ولم تتخطى بعد العقد الخامس من عمرها . إنها ليست مسألة سن يا كفاح، كنت أعرف حبها له، وأرى فيه تجسيداً لثقافة الجواري، ولكن هل كان يحبها أم لا ؟ لا أعرف. كان شخصية غريبة الأطوار، وغامض في بعض الأحيان ، ولكن لم يعد يهمني صفاته أو غرابته. ما يهم الآن .. أننا أصبحنا امرأتين كئيبتين فى منزل كبير مكون من طابقين لا يسكنه غير أختى الصغيرة.من الأب لطيف والخادمة والبواب فنحن نعيش فى فيلا قديمة عتيقة الطراز والأحداث فى إحدى مدن الصعيد النائية لا ترتبط كثيراً بحياة الآخرين، وأمي كانت تقضي وقتها بين ادارة مصنع لصنع الورق ومستلزمات الكتابة وزوجها التى هى على انتظار له دائماً.
تركت الجنازة التي أراها متمثلة فى رقدة أمي التى ما زلت المح شعاع ضوء شمس منشوراً على جبينها، ذهبت بذهني لليوم السابق لموته، حيث أخذنى الأب لطيف، بعد توصية لأمي جاءت من أحد المجاذيب حتى أشفى من حب علي وعصياني، إلى أحد الأديرة الموجودة فى إحدى قرى مدينتي بني سويف، "العذراء مريم"، مكان مر عليه المسيح عليه السلام والعائلة المقدسة، يوجد به أبونا "متياس" وابنه "فانوس" من أشهر القساوسة الملهمين في حل العقد النفسية وتطهير النفس من كل ضغائن، لكن هل له أن يشفيني من أحلام الموت القاتلة ؟! وإن كان لا يستطيع فهل له المقدرة على أن يُنسيني حب علي كما تظن أمي؟ .. عجباً من هؤلاء البشر الذين لا يدركون نجم الحب الأشهب، إنني لم أعهد فى نفسي فساداً مثل صديقاتي المنتشرات فى مدرسة التجارة الثانوية المشتركة ، ولم أكن لأشترك بتاتاً في إحكام ألاعيبهن على المدرسات والمدرسين ، وخاصة أبلة سميحة (نفسيه) لقب يحوي مأساة، يقولون أنها أحبت ومات حبيبها فى الحرب فرفضت الزواج والحب ، وقبلت الحياة عانساً وحيدة جرباء خرفاء، كانت تعاقب البنات بخلع أحذيتهن في الفناء المدرسي تحت شمس الصيف الحارقة أو برد الشتاء القارس، كم هو متاح ورخيص جداً أن تتم علاقات شرعية وغير شرعية بين أى ولد وبنت في سن المراهقة بعد. لكنه كان بعيداً جداً ألا أحب علي سليل الأسرة المتوسطة الحال النزيه فى كل أفعاله، المتعلم تعليمَّا عالَّيا، مدرس مادة الرياضيات ، بمركز لا يحسد عليه بملكات عقله الذي يعج بحصاد الأرقام وابتلاعها فى عقله بفراسة وألمعية واسعة، علي صاحب الصدر الأسمرالداكن كركوة القهوة، بخديه حمرة، وغمازتان يفتكان بمشاعري، حين أنظر إلى وجهه يتضح به الظلال الزرقاء تحت جفنه العلوي والسفلي، لا ينقصه اللهب الشهير بالرؤيا والكشف المنبعث من عينيه السوداوين الثاقبة.. تلقيني في جوف العالم المطلق لأيام طوال بحب يجعلني ألهث وأعبث بكل تمرد داخل انفاس قلبه، وفمه المعتكر برضاب فمي الملتاع .
يا لاكمدك ! يا كفاح المسكينة تحملين مشنقتك طوال الوقت وتصعدين بها دوماً إلى طريق العذاب، وإن كان الأب لطيف يقول دائماً، مشيراً إلىَّ بسبابته كأنه يحذرني :
حزن الرجال غير حزن النساء يا طفلتي المدللة.
هو لم يكن يفهم أنه لا يعنيني حزن رجل كان أم امرأة . ما يشغلني في كل لحظة من الشقاء. أننا مشاريع فاشلة تبحث عن وجودها بأي ترهات ممكنة ، ولا تقع تحت طائلة القانون والنظام والعرف.
ها أنا الطفلة المدللة تشير بسبابتها أيضاً إليك أيها الأب لطيف، وعليك فقط أن تسمع
ـ ألا تذكر أنك سكرت حتى الثَّمالة حتى ذهب عقلك تماماً وكدت أن تقتل نفسك ؛ عندما ماتت أمك، وطلبت نقلك حتى تهرب بأقصى سرعة وأقصى إنقاذ لحالتك التي يرثى لها من الحزن عليها .
أنت أيها الأب لطيف ألم تعشق فتاة عذراء فى السابعة عشرة .
أنت أيها الأب لطيف هل تنكر، أنك سليل أسرة كفت عن العطاء حين بددت كل ميراثك على اللهو والنساء، وحاكت لك ملكة انتهاز الفرص الرابحة أن تتزوج أمي ، وكأنك تحتسي كأسا تنهلها جرعة واحدة دون أن تلتصق بشفتك كدودة العَّلق كي تعفيك من المسؤولية.. طلبت المتعة فدهمتك قبل المتعة طاقة التحمل ، ماذا تتحدى غير مخدرك و نساؤك، تطارحهن الغيرة السوداء وفراش عفن من حقن التلوث والألم والبحث عن النسيان دومَّا بين جنبات الإرهاق والخضوع والالتباس اللانهائي، أشبه بالنائمين فى غرفة الإنعاش محسوب عليهم دقات القلب والنبض والضحك، ولن أنسى أنك تهوى ارتداء ساعتك فى معصمك أثناء نومك الطفولي سهوًا، ولن أنسى أيضا أن هذه القوالب المنشأة على صرح خاو هى تسلسل منطقي أفضل بالنسبة لك مهما كثرت مظالمه من شريعة عادلة بلا منطق مفهوم .
الأب لطيف الرجل ذي الشطرين، صاحب الحكايات المثيرة والصمت المثير المتعاطف معي دوماً يحرص على تسليتي وتعزيتي بكل إخلاص ولا أعلم لماذا؟! رجل بوليسي تحليلاته وتصوراته وحواراته كلها عسكرية جدَّا ، رجولة مستخلصة من عائلة صعيدية بحتة، رجل بهذه الأوصاف، ألا يمنحني نظرات احتقار وسند داعرة، فأنت من تفهم أن الحب للرجال كما هو الحزن للرجال، وحين أتفوه بأقرب مسمي لك الأب لطيف، المضمون والشكل .
وأنا أستقي أحكامي عليك من رؤية ملامح وجهك الدائري العريض كرغيف المطرحة الشديد السمار والهيبة، وقد امتلأ بالتجاعيد الغائرة كأنها سكك ودروب من يمتلك رغبة جامحة أن يقلب الدنيا من أجل بلده، وفجأة تنقلب السيارة ويرحل الوجه المبتسم، ليموت موتاً أنيقَّا، أهو حسد أم شفقة عليك أيها الرجل ذي الصوتين " صوت منخفض ببحة مميزة ، وتارة جهوريًا ، أدوات الحلاقة، مستلزمات الدخان وخاصة ملازمك الطبق السلستين الفضي اللامع كالمرآة تعكس روحك الوحيدة اللاصقة به وفيه لتفريغ شحنات الدمارمن أنواع الكيف المختلفة .
ثم تتفوه بحكمة تنبع من قرارك الحزين :
استمتع بحياتك كيفما شئت.
نزلت من عربة (كبود) إلى أخرى لبلدة (بياض العرب) التي تتبع بندربني سويف في المحافظة ، فالعربة لا تذهب إلى ديرالعذراء مباشرة، إلا فى أيام المواسم فهي مزار له قيمته المقدسة وزائرون من كل الأنحاء، وكان ذلك فى يوم صيفي من شهر بؤونة، نزلت عند ممشى الفنطاس الترابي، اجتزت المسافة داخل المدقات الريفية مارةعلى المقابر والشيخ (علي) حيث اشتهر المكان بمدافن للمسيحيين والمسلمين، تبركا بالسيدة ( العذراء مريم ) ، هذه المرة لم يكن الموضوع برمته مجرد نزهة كما كان من قبل مع الأب لطيف، بل كنت أحمل فى طياتي عبء السؤال الحائر، هل هذه حقيقة يا أبونا القس؟ أن تتحقق الأحلام، وإن كانت خرافات، لماذا حدث لأبي وأختي والأب لطيف ؟ حيث رن جرس التليفون كعادته ووجدت شفتاي سريعاً تردد فى رعب الحدس : إنه الموت، فكان الأب لطيف بعد رؤية حلمي اللعين، هل المصادفة تتكرر؟ حتى لو كانت على مدى سنوات، فى قلبي جرح ملئ بالغضب العارم ، وماذا أفعل يا إلهي تجاه هذا؟
قبل مدخل الكنيسة يوجد فسحة ترابية كبيرة ترتكن إليها السيارات ، ومخبز صغير الحجم، عمال، عساكر، بعض المخبرين وحاجز حديدي ممتد ، بعد ذلك يبدأ ظهور المبنى القديم المتماسك إلى حد ما، بأنفاس الرب وأرواح أحبائه (فالرفض تام لمجرد دق مسمار فيه). لونه رصاصي باهت ، يبدأ بكافتيريا الشاطئ إلى أن تدخل بهو الكنيسة من باب مرسوم بمربعات رمادية .
أجلس على حواف ورد النيل أنظر إلى ما تفعله تلك العصفورة ، أريد أن اقترب منها أشعر بها وهي تندفع طائرة فى السماء ها هي هناك تقف على الوردة الصفراء وهي لونها أبيض.. إنها ليست جميلة فقط، بل وغريبة أيضاً.. ها أنا ألقي جسدي الثقيل وأشعر جداً بحس الطيران كلما اقتربت منها وفجأة صرخت صرخة مدوية وأنا أسمع صوتاً ينقذنى :
يا مجنونة هتغرقي .
نهضت من رقدتي على أريكة فى إحدى حجرات الكنيسة الخاصة بالقساوسة، وإن لم أكن قد أفقت من محنة الموت والتعبير المأساوي والمتوحد المستترداخلي تحت جبل الحزن ، الثقيل بأيامه وأحلامه وطموحه والحب العملاق، أشعر بأن روحي مكتملة مستقلة تماماً عن العالم الخارجي لا تسمع ولا تخاطب إلا همساً داخليا.
جلست أمام القس يبعث في نفسي الطمأنينة والراحة بكل ما أوتي من قوة روحية، رفعت النظر إلى وجهه فكان أبيض كامل البراءة يشع رضا عجيب ونضرة، اندهشت لهما وجاء فى عقلي : " أهذا هو القس المبارك الذى يُقال عنه إن روحه طاهرة ، وتفتك بكل الأرواح الشريرة ؟ كان الصليب يظهرموشوما فى رسغ إحدى يديه ببروزواضح ، ثم يحمل مجسدًا كبيرًا له ، ويضعه على رأسي كمن يتلمس مكان اللعنة ، وعن غير عمد سقطت رأسي داخل راحة يداي على ركبتاي ، وأجهشت فى بكاء لا مثيل له قائلا لي بغضب :
هل أنت نادمة على فعلتك الإنتحارية؟
رفعت روحي أشهق من البكاء دون رد.
ناولني كوباً من الماء وبعض المناديل الورقية وقال مستفسرًا :
هل تظنين فى نفسك الجنون لما يحدث لك من غرائب الأمور، ولا تحدث لغيرك.
نظرت إليه وقد وصلت لنهاية التعب وأشعر أن جسدي ينزف دماء حزن العالم بأكمله، وخاطبنى الهسهاس الذي بداخلي :
" سيدي القس إنني أتنفس ذعر الأحلام الملعونة، أعيش وأتحدث وأفكر فى تفاصيل من رحلوا عني كأني جثة محنطة من زمن وجودها الأصلي معهم، ليس هناك من توازن يصلب عودي الهش، ليس هناك من فضائل لمعنى حياتي ، ليس هناك من أفكار حاسمة تمكنني من التكيف، وعندما أؤهل نفسى أن أنهي الماضى، لا أجرؤ وكأنه جرح متقيح لا يتأتى له أبداً أن ينفجر وكأني أعمل جاهدة ضد نفسي ".
" أيها القس المبارك لفحني بعباءة هذا الهيكل المقدس، عبقني بريح هذه النورانية التي تطفو على وجهك كضوء الشمس القوي العفي اجعل ربك القريب بقلبك الناطق بقلوب كل التعساء أن يرحم قلبي الصغير من الظمأ، ويهبني الارتواء من مذاقك النقي وروحك الخالصة لوجه الرب الرحيم ".
قال القس مستعطفاً يرثي لحالي :
ـ ماذا بك يا ابنتي هل ترين أن كل سبلك قد سدت؟
ثم فجأة دخل الضابط (النبطشي) متأهباً لدوره قائلاً باقتحام :
سنفتح المحضر يا آنسة ونظر إلى القس كمن تذكر شيئا وقال :
عفواً يا أبونا هل تسمح لي بفتح المحضر؟
قلت وقد استجمعت ما بقي من عقلي وموقفي :
ليس هناك من شئ لتفتح المحضر، ما حدث كان حادثاً عابراً ليس له أية علاقة بالإنتحار، لقد وقع خاتمي فى الماء ونزلت أبحث عنه فكدت أن أغرق
نظر إلىَّ الضابط وهو يقلب بأصابع يده مسبحة ذات لون طوبي وقال مستهتراً:
ـ كيف هذا؟!
نظرت له بقصد الإمعان، فلمحت علامة الصلاة على جبهته وأن كانت هيئته المتعجرفة وهو ينظر إلىَّ مقتَّا كأنني أضعت عليه وجبة دسمة، فقلت فى نفسي غيظَّا : ربما هذه موضة، ثم قلت بقوة :
لا شئ يا حضرة الضابط وأرجو أن تسمح لي بالانصراف فأنا متعبة، وملابسى قد جفت بعض الشئ سأقوم بتأجير عربة خاصة لنقلي إلى المنزل.
أنت .. أنت الوحيد أيها الأب لطيف من تشعر بإحساسي المميت، والمشاهد تدار أمامي بخناجر تقتلني لابد أنك حقيقة مغرم بتلك الفتاة أهي مراهقة بعد سن الخمسين يا رجل البوليس، وربما دائما ما نطمح فى أشياء كثيرة في معاني كاملة تنالنا ولا ننال منها إلا أقل القليل.
تمارين الحياة أقاويل وأحاديث عن اقتحام العالم الآخر، تفرغ عقلك بالتدريج كلما زادت ساعات مشاهدتك TV، ألتفت لمرات عديدة لألتقط بداية الكذب وأزيح الستارعما تريد ولا تستطيع التعبيرعنه ، تفتك بك الرغبة التي تبدو على وجهك المكفهر وتدخل تحت تأثير سجائرك الملفوفة بعلامة الجودة إلى انتعاشات مزرية، لا تتفوه بكلمات ذات مغزى. لا تسأل عن أي معلومات مفيدة، إنها تمارين لإلغاء الحياة وإفساد أي طموح، تمارين الثرثرة البليدة عن أيام العز القديم ، عن جلسات أبيك الشجاع وجدك الهمام والصحبة الحلوة ولعب الورق والكونكان والجوكر وعن متعة الكيف من غير دخان ولا نار، أمثال أصدقاء أبيك الشيخ سلامة وأحكام المعلم مناع وأنت تهذي بأن دور كل شخص منهما مرتبط بالحس القومي والتواصل واستيعاب ما يحدث والاستمتاع بتداول وتنوع الكيف كالحشيش بالشيكولاته التي توضع فى قوالب ثلجية، والحشيش بالتفاح بعد نزع قلب التفاحة ووضعه بها ثم غلقها، ومناقد الحشيش التي تكبس فى غرف مغلقة ، وتعتمد على حاسة الشم فى التلذذ بالدخان المنعش دون أي جهد تبذله، وعن إكسير الحياة المتمثل في : (الكنكة المعبقة بنفحات الحشيش) ؛ الذي تصحو عليه لتحقق الإفاقة الصباحية كالعادة.
الحكاية لم تكن مجرد جلسات للتسامر والسخرية والضحك، إنه كان مبدأ، فإذا لم يوجد الحشيش أقلعوا عن متعة الكيف (فهو رقم واحد) مهما ظهر من أصناف أخرى، هذا وإن زاد الأمر حدة عند الحفيد لطيف بلعب القمار وادمان برشامات الهلوسة ثم البودرة التي أطاحت بماله وعقله، وأصبح يُسمى المقامر المراهق. وبعد توالي الأيام والسنوات شرب اللعب والخسارة بملعقة الحياة ليكون خير مجرب خير معلم، أتذكر الآن فقط جملتك أيها الأب لطيف وما فعلته بك تلك الفتاة العذراء وعن قبلتها التي أحسست معها أن الشمس تشرق بداخلك لأول مرة وهي تجمع بين الوجه البرئ وخبرة حواء منذ الأزل، أصبح هذا الرجل كالصياد المراهق بصوته الثقيل النبرة المركز فى اتجاهه لمن؟ ولماذا؟ تفتح حوارات (الخربشة)، أى المداعبة، تنقر بها على الأذهان والقلوب المفتوحة بطاقة غامضة تغوي بها من ينصت إليك وأنت تجعل من العار مجداً، ومن القسوة سحراً مكللاً بهالة الإجرام، تخطو خطواتك المهيبة بثقة زائدة مستقاة من إدمان الكيمياء النظيفة كما أطلقت عليها بديل حبوب الهلوسة ،وأحيانا تخاطر بصمت موحي يعلن بأنك لن تبوح بكل الأسرار، فلعل لأرومتك التي أكلت المخدرات، وكسرت ناب الشر ودمثته تكفي أن تطرح طيبتك ومحبتك المقنعة بالغوص لقاع الأمورلفتح حوار معك وهلوسات لا حصر لها عن أمجادك الزائفة، وتقول بعظمة وأنت تتمم حلاقة ذقنك :
عمتي دبحت ليَّا ديك شركسي.. طيب ما أنا ديك.
حين أقف فى الشارع وسط جمع من البشر أرى الحياة خصبة ووثيرة ،رغم عبورها العبثي،لكن بها عمق ما لا يُسبر غوره بسهولة ، وحين أكون بمفردي قابعة فى مربع صغيرعلى مخدعي الخاص أرى الحياة كأحواض السمك كل بألوانه وكل بقناعاته.. وكل سمكة تشاهد وتتابع وتنتظرصياد و حارس الموت الأمين على صيده ،و فجأة يخترقني صوت جارتي وصديقتي فاطمة :
حلمت امبارح يا كفاح إني راكبة أتوبيس أبو ربع جنيه ورايحة بيه فرنسا .. هروح لضيا أخويا تفتكري هاييجي ؟
مالك يا فاطمة .. أكيد هاييجي.
بالحق شيماء جالها عريس.. مش عارفة تعمل إيه بتحب الواد محمد جارها.
ترفض.
أبوها مصمم.. ههه (تضحك نصف ضحكة). تعرفى إنه متجوز بس أبوها بيقول الراجل يجيبه والجواز قل الأيام دي.
شيماء ها تعمل إيه ؟
أبداً ياختي عيطت وقعدت تخرَّف وتقول مادام ماعرفش يحبنى يبقى يجوزني . هو ده الراجل الشرقي (ضحكت ضحكة طويلة زاعقة) :
وبعدين.. وافقت يعني (والضحكة مستمرة بشكل أقل).
أه.. وعايزكي تروحي بكره معاها علشان تتفقوا على الكوافير.
ثم قالت وهي ترقن بحاجبيها :
أه مش الراجل بجيبه ياروحي.
ها ها ها .. هههههههه.
طيفك الصامد يهاجمني فى كل مكان، ألتقط رائحتك رائحة الريحان ريحاناً غير ريحان الأرض الذى كنت تجلبه لى دائمَّا، ألمح يقظتك وحياتك الضائعة، أعرف بماذا تفكر وتحلم؟ أنت العريف وأنا فتاته المهجورة حبيبها مشغول عنها بأفعال الحياة الفقيرة المريرة، إنني أنتظره وهو ينتظر أن يتنحى عنها عذاب الضمير، إنها هنا تتألم تتذمر تزعق ولا تتمرد فهي الفتاة المهجورة.
لابد أنني استقيت أحكامي هذه من قراءة الروايات وكتب أخرى أهداني الكثير منها الحبيب علي، وأبتهج جداً عندما نصل سوياً فى نفس اللحظة إلى قرار واحد حينئذ تبدو لي نفسي كتاباً مغلقا أشعر بأنه لا يمكن أن يصبح كتاباً مفتوحا، فأوراقه الأولى ممزقة تمامًا.
تعرف يا علي وأنا صغيرة كنت برسم الخرايط بإيدي بشكل جميل مضبوط خالص.. آه والله أكيد كنت برسمها بإحساس المسافات وأنا بقيس الأميال بمجرد النظر.. ده كان زمان يا علي.
قالت كفاح هذا ووجهها يعلوه شئ من الوجوم، فقد أدركت أنها تخاطب نفسها والفراغ فقط.. سكتت لدقائق معدودة ثم قامت فجأة مفزوعة، ها هي كمن استيقظ مرعوباً على نداء خفي ثم فجأة أخرى يتوقف النداء عندئذ تكون القصة قد تخلقت واكتملت فيما أسميه القصة، النسبي، المطلق ، الحياة التي هي أعلى مراحل السديم.
الحب سمكة صبية يرعاها الرب، وكلما مرت السنوات على كفاح ، تبرق من عينيها
الخضراوين لمعة حزينة مضيئة، خاصة حيث تجمع شعرها وتصنع منه كعكة لا تناسب هذه المهرة كما كان يمزح علي قائلاً : إنتِ مهرتي ياكفاح مهما غبت عني.
حين تحصل على تصريح زيارة علي تشعر أنها امتلكت نصف السعادة التي تكتمل برؤية علي، والتى أيضاً ضاعت كلها حين رأت علي أقرب إلى خيال بشبح يرتدي رداء الحزن الناصع ،الذى هو الفعل الماضى المستمر، ولا سبيل إلى محوه من كتاب الوجود السابق دون حاضر أو مستقبل ، وخصلات من مفرقه الأسود الجميل قد أبيضت تماماً، لم يعد الفتى الأسمر، بل رداءً أسودًا ، كلما أمعنت النظر فى تقاطيع وجهه بنظرات شبه جنونية، أوشكت أن تولول ولكنها كظمت عويلها وفركت يديها بدلا من ذلك، شاحب البياض وقد انسحب الدم منه مصرة أن ترفض هذا الخطأ الفادح، فحاولت أن تفتح فمها لتصرخ بشئ، إلا أن فمها بقي مفتوحاً، ما الحائل الذى يمنعها ويصدها عنه؟ يا لها من غبية! الحائل كان بداخلها وداخله فعلي أحب أن يبكي ولكنه لم يكن ممن يبكون، ثم كان سكوت وإطراق طويل ترى به الهواء العابر يتمزق والقرائن تتواتر ولكنهما لم يجرؤا على إذاعة هواجسهما.
حتى قال باستعطاف يائس :
هطلع امتى يا كفاح؟
قريب يا علي.
عاملة إيه؟
كويسة.
علي!
نعم ياكفاح.
قولي نكتة.
مرة واحدة خان الخليلي قتله.
ها ها .. يستاهل يا علي.
هدى توفيق
مصر
فاجأها صمت الحلم المتكرر الملعون، الذي يعصر بحياتها، ويحولها فى لحظات كثيرة إلى جبل حزن ناصع البياض، مثقوب بعينين خضراوين اللون، يلمع محجريهما ببريق لعنة ما تؤرق منامها وتجعل الأبرياء قتلة .
لماذا أنت أيها الأب لطيف.. لماذا احتضنك حلمي الميت.. لماذا أنت ؟
آه يا علي يا ريتني ما كبرت ولا عرفت نفسي أكتر من كده.. وأفضل أغني ورا صوتك الحلو يا حبيبي.. " حبيبي يوم ما عرفته كان قطة مغمضه لو صادف قال بحبك يقولها بلخبطة، وفى يوم وليلة فتح، لقيته يا عيني ادردح واتعلم الشقاوة وبقى آخر عفرته، مع إني يوم ما عرفته كان قطة مغمضه ".
لابد أن فى عقل كل إنسان منا، عته ما، ولابد أن يمارسه ويبجله حتى يصل إلى ذروة الموقف مع حياته.
كل الرقة، كل المحبة، كل العزاء لك أيها الأب لطيف ، يُقال أن أصابته رصاصة طائشة ، فى أثناء تنفيذ إحدى العمليات العسكرية ،التي تمقتها أمي وتجعل منامها مستحيلاً، وتشحذ عقلها تفكيراً وتحجر مُقلة عينيها عن أي بصيص بمجرد أن يغيب زوجها الضابط المتمرد الغاضب الناقم على مشورة أبيه القوي من إحدى عائلات الصعيد المترامية الأطراف، هو من زج به في هذا الشقاء الأبدي ، اللواء عصمت شكري عبد الرحيم القوصي، وجده البكباشي، ابن الفلاحين المخلص، من كثرة تنقله عملا بين الفلاحين. كان رجل نادر الطبيعة عما تعارف عليه، رجلاً يُتقن الحديث، عن نسب العائلات وأصلها وسلالاتها وامتدادها عبر الأزمان والوصول بها إلى آخر جذورها ، لقد كان رجل الناس الأول فى مجالس الكيف، ومجالس الحكم والنزاع والأفراح والمآتم، رجل الإتحاد، والنظام، والعمل، أين هو من حفيده لطيف فاكهته ؟!
كما كان يطلق عليه جده فهو أكثر الناس شبهاً به وتمثلاً فى شخصيته.
تقسمين يا كفاح : " والله ما كنت نائمة، ولم أكن مستيقظة أيضاً ، ولم يكن حُلمَّا عابراً " ، بل كان روحك الممسوسة، تحلق فى الأفق، وتدخل الدائرة السوداء فى عقلك، ترين نفسك تتدحرجين ككرة جولف صغيرة على ربوة عالية حجرية ليس بها أى استواء أو خضار تسقطين سقطة الموت المفاجئ ، ويحدث اللبس بينك وبين خيالات ناصعة عن حياة أخرين ؛ التي ستصبح بعد لحظات لهم مجرد لوحات حياتية قديمة وعابرة، ثم على مرآى بصرك المشوش تلمحين لأول مرة أبانا متياس بردائه الأسود ، وجبته الثمينة ، وعينيه اللتين تعرف بالبصيرة ، وتقول أحكاماً. وهو يشيرلها بحدة قائلا بألم :
أنت مليئة يا ابنتي.. لا رجاء منك ، ولا سبيل تذهبين إليه .
سمعت من يطأون بقدم ثقيلة، يطرقون طرقات تعلمين بها أنه ملمس الموت الفاجع ولكن من هو؟ من هو ؟ ، فالنداء دائماً يختارها هى الميتة، هي المجاز، هي الملهمة للقدر، هي وحي إلهامه. يالا.. العجب من عزرائيل هذا! هل أصبح له أيضاً ملهم يفتح شهيته ؟!
كفاح يا جبل الحزن الأبيض. كم أنت صغيرة بما يكفي لأن تكوني بهذا الكم الميتافيزيقي المرعب، وأنت لا زلت بعد فتاه في سن العشرين .. كيف كان هذا؟ نعم لقد فعلها علي وفعلتها معه بكل تفاني واستمراء لذيذ لحب شاب بينهما خلف أسوار البيوت المهجورة فى شارع الحب والنشوة، تصطف الشجرات الكبيرة الشاهقة على جانبيه، لا يسير به إلا العشاق، تتسلل أوراق الأشجار أنوار الأعمدة الكهربائية البيضاء فتبدو الإضاءة خافتة لا تسمح إلا لحالة الحب .
قولي اسم يا علي.
لديده ولا هريسه.
لأ صحيح يا علي، إنت بتسمي الناس من أشكالهم.. شكلي يتسمى إيه؟
ملاك رهيب يالديده .. هريسه.
إيه هوو ده ... كداب.
شهقت كفاح ، ورفعت رأسها ، وفتحت عينيها من قبلة الذكرى الثقيلة لتتجول بين الأشياء التي تمر بيننا ونظنها رحلت ، ولكننا لا نصرح بها أبداً، وبعد يأس من جوف أعماقها تفقد الإحساس بالتماهي مع الذكريات وبين الفعلي والحقيقي لاختلاف منطق شريعة الكون عن منطق العرف السائد.. تعترف قائلة :
" سكين تذبحني به نظرات أمي الناقمة على فعلتي كلما اعترضت كلامها وأفعالها ولكن واأسفاه ما ممكن أصبح لا يمكن أن يكون ... هكذا.. أخبرني علي.
وتستطرد حسرتها : " أكل هذا يفسر غضبي عليك أيها الأب لطيف، هل بلا إرادة مني تدخل دائرة هذه الأزمة العمياء؟ أعلم أن هذه المؤامرة لم تكن من تدبيرك ، وإن كانت من صنعك، عندما تم اعتقال علي بتهمة الاشتباه فى عملية قتل أعضاء حكومية مهمة لمجرد أنه جار الأستاذ عبد النبى المعروف بتاريخه السياسي، هذه المرأة الفاضلة القادرة على تدبير الشر بكل فجاجة تكابد ، وتهلك الآن فى مسالك العذاب دونما نهاية، فليس هناك من يستطيع أن يُعيد الموتى،هي من أبعدت علي عني اعتقاداً منها أنه طامع في أموالي التي سارثها من أبي المتوفي زوجها السابق، هذا غير طليقها الأول الذى أنجبت منه أختي الكبيرة المتزوجة "سوزان".. أختي سوزان .. يا إلهي إنها ماتت مع زوجها وطفليها فى حادث سيارة لا مثيل له فى بشاعته، ألا تذكرين يا كفاح كان ذلك فى ليل يوم عصيب من حياتك الحافلة صباح بدء امتحانات المرحلة الإعدادية التي كدت أن ترسبي بها ، وأنهت على كل تاريخك الدراسي القديم المتقدم، ألا تذكرين أيضاً أن هذا تم مباشرة بعد رؤية نفس الحلم ".
ثوان واقشعر بدنها، ثم تهدلت عضلاتها، وخاضت لحظات رهيبة مختلطة فى خيالها بصور الموتى ممن لم ترهم وممن رأتهم بعين الوهم فى أحلامها المضطربة، فأصابها دوار، فأغمضت جفنيها . ثم قالت بحزن :
" أما أنا فلا أجد في الدنيا كلها خطورة تبرر النذالة، هكذا تحدث علي "
جاء يوم جنازة الأب لطيف كانت أمي ملقاة على السرير أعصابها منهارة تعيش حالة الوجود والعدم كمن يحتضر، أي وجهة نظر ستسلكها هذه المرأة التعسة وقد فقدت ثلاثة أزواج ولم تتخطى بعد العقد الخامس من عمرها . إنها ليست مسألة سن يا كفاح، كنت أعرف حبها له، وأرى فيه تجسيداً لثقافة الجواري، ولكن هل كان يحبها أم لا ؟ لا أعرف. كان شخصية غريبة الأطوار، وغامض في بعض الأحيان ، ولكن لم يعد يهمني صفاته أو غرابته. ما يهم الآن .. أننا أصبحنا امرأتين كئيبتين فى منزل كبير مكون من طابقين لا يسكنه غير أختى الصغيرة.من الأب لطيف والخادمة والبواب فنحن نعيش فى فيلا قديمة عتيقة الطراز والأحداث فى إحدى مدن الصعيد النائية لا ترتبط كثيراً بحياة الآخرين، وأمي كانت تقضي وقتها بين ادارة مصنع لصنع الورق ومستلزمات الكتابة وزوجها التى هى على انتظار له دائماً.
تركت الجنازة التي أراها متمثلة فى رقدة أمي التى ما زلت المح شعاع ضوء شمس منشوراً على جبينها، ذهبت بذهني لليوم السابق لموته، حيث أخذنى الأب لطيف، بعد توصية لأمي جاءت من أحد المجاذيب حتى أشفى من حب علي وعصياني، إلى أحد الأديرة الموجودة فى إحدى قرى مدينتي بني سويف، "العذراء مريم"، مكان مر عليه المسيح عليه السلام والعائلة المقدسة، يوجد به أبونا "متياس" وابنه "فانوس" من أشهر القساوسة الملهمين في حل العقد النفسية وتطهير النفس من كل ضغائن، لكن هل له أن يشفيني من أحلام الموت القاتلة ؟! وإن كان لا يستطيع فهل له المقدرة على أن يُنسيني حب علي كما تظن أمي؟ .. عجباً من هؤلاء البشر الذين لا يدركون نجم الحب الأشهب، إنني لم أعهد فى نفسي فساداً مثل صديقاتي المنتشرات فى مدرسة التجارة الثانوية المشتركة ، ولم أكن لأشترك بتاتاً في إحكام ألاعيبهن على المدرسات والمدرسين ، وخاصة أبلة سميحة (نفسيه) لقب يحوي مأساة، يقولون أنها أحبت ومات حبيبها فى الحرب فرفضت الزواج والحب ، وقبلت الحياة عانساً وحيدة جرباء خرفاء، كانت تعاقب البنات بخلع أحذيتهن في الفناء المدرسي تحت شمس الصيف الحارقة أو برد الشتاء القارس، كم هو متاح ورخيص جداً أن تتم علاقات شرعية وغير شرعية بين أى ولد وبنت في سن المراهقة بعد. لكنه كان بعيداً جداً ألا أحب علي سليل الأسرة المتوسطة الحال النزيه فى كل أفعاله، المتعلم تعليمَّا عالَّيا، مدرس مادة الرياضيات ، بمركز لا يحسد عليه بملكات عقله الذي يعج بحصاد الأرقام وابتلاعها فى عقله بفراسة وألمعية واسعة، علي صاحب الصدر الأسمرالداكن كركوة القهوة، بخديه حمرة، وغمازتان يفتكان بمشاعري، حين أنظر إلى وجهه يتضح به الظلال الزرقاء تحت جفنه العلوي والسفلي، لا ينقصه اللهب الشهير بالرؤيا والكشف المنبعث من عينيه السوداوين الثاقبة.. تلقيني في جوف العالم المطلق لأيام طوال بحب يجعلني ألهث وأعبث بكل تمرد داخل انفاس قلبه، وفمه المعتكر برضاب فمي الملتاع .
يا لاكمدك ! يا كفاح المسكينة تحملين مشنقتك طوال الوقت وتصعدين بها دوماً إلى طريق العذاب، وإن كان الأب لطيف يقول دائماً، مشيراً إلىَّ بسبابته كأنه يحذرني :
حزن الرجال غير حزن النساء يا طفلتي المدللة.
هو لم يكن يفهم أنه لا يعنيني حزن رجل كان أم امرأة . ما يشغلني في كل لحظة من الشقاء. أننا مشاريع فاشلة تبحث عن وجودها بأي ترهات ممكنة ، ولا تقع تحت طائلة القانون والنظام والعرف.
ها أنا الطفلة المدللة تشير بسبابتها أيضاً إليك أيها الأب لطيف، وعليك فقط أن تسمع
ـ ألا تذكر أنك سكرت حتى الثَّمالة حتى ذهب عقلك تماماً وكدت أن تقتل نفسك ؛ عندما ماتت أمك، وطلبت نقلك حتى تهرب بأقصى سرعة وأقصى إنقاذ لحالتك التي يرثى لها من الحزن عليها .
أنت أيها الأب لطيف ألم تعشق فتاة عذراء فى السابعة عشرة .
أنت أيها الأب لطيف هل تنكر، أنك سليل أسرة كفت عن العطاء حين بددت كل ميراثك على اللهو والنساء، وحاكت لك ملكة انتهاز الفرص الرابحة أن تتزوج أمي ، وكأنك تحتسي كأسا تنهلها جرعة واحدة دون أن تلتصق بشفتك كدودة العَّلق كي تعفيك من المسؤولية.. طلبت المتعة فدهمتك قبل المتعة طاقة التحمل ، ماذا تتحدى غير مخدرك و نساؤك، تطارحهن الغيرة السوداء وفراش عفن من حقن التلوث والألم والبحث عن النسيان دومَّا بين جنبات الإرهاق والخضوع والالتباس اللانهائي، أشبه بالنائمين فى غرفة الإنعاش محسوب عليهم دقات القلب والنبض والضحك، ولن أنسى أنك تهوى ارتداء ساعتك فى معصمك أثناء نومك الطفولي سهوًا، ولن أنسى أيضا أن هذه القوالب المنشأة على صرح خاو هى تسلسل منطقي أفضل بالنسبة لك مهما كثرت مظالمه من شريعة عادلة بلا منطق مفهوم .
الأب لطيف الرجل ذي الشطرين، صاحب الحكايات المثيرة والصمت المثير المتعاطف معي دوماً يحرص على تسليتي وتعزيتي بكل إخلاص ولا أعلم لماذا؟! رجل بوليسي تحليلاته وتصوراته وحواراته كلها عسكرية جدَّا ، رجولة مستخلصة من عائلة صعيدية بحتة، رجل بهذه الأوصاف، ألا يمنحني نظرات احتقار وسند داعرة، فأنت من تفهم أن الحب للرجال كما هو الحزن للرجال، وحين أتفوه بأقرب مسمي لك الأب لطيف، المضمون والشكل .
وأنا أستقي أحكامي عليك من رؤية ملامح وجهك الدائري العريض كرغيف المطرحة الشديد السمار والهيبة، وقد امتلأ بالتجاعيد الغائرة كأنها سكك ودروب من يمتلك رغبة جامحة أن يقلب الدنيا من أجل بلده، وفجأة تنقلب السيارة ويرحل الوجه المبتسم، ليموت موتاً أنيقَّا، أهو حسد أم شفقة عليك أيها الرجل ذي الصوتين " صوت منخفض ببحة مميزة ، وتارة جهوريًا ، أدوات الحلاقة، مستلزمات الدخان وخاصة ملازمك الطبق السلستين الفضي اللامع كالمرآة تعكس روحك الوحيدة اللاصقة به وفيه لتفريغ شحنات الدمارمن أنواع الكيف المختلفة .
ثم تتفوه بحكمة تنبع من قرارك الحزين :
استمتع بحياتك كيفما شئت.
نزلت من عربة (كبود) إلى أخرى لبلدة (بياض العرب) التي تتبع بندربني سويف في المحافظة ، فالعربة لا تذهب إلى ديرالعذراء مباشرة، إلا فى أيام المواسم فهي مزار له قيمته المقدسة وزائرون من كل الأنحاء، وكان ذلك فى يوم صيفي من شهر بؤونة، نزلت عند ممشى الفنطاس الترابي، اجتزت المسافة داخل المدقات الريفية مارةعلى المقابر والشيخ (علي) حيث اشتهر المكان بمدافن للمسيحيين والمسلمين، تبركا بالسيدة ( العذراء مريم ) ، هذه المرة لم يكن الموضوع برمته مجرد نزهة كما كان من قبل مع الأب لطيف، بل كنت أحمل فى طياتي عبء السؤال الحائر، هل هذه حقيقة يا أبونا القس؟ أن تتحقق الأحلام، وإن كانت خرافات، لماذا حدث لأبي وأختي والأب لطيف ؟ حيث رن جرس التليفون كعادته ووجدت شفتاي سريعاً تردد فى رعب الحدس : إنه الموت، فكان الأب لطيف بعد رؤية حلمي اللعين، هل المصادفة تتكرر؟ حتى لو كانت على مدى سنوات، فى قلبي جرح ملئ بالغضب العارم ، وماذا أفعل يا إلهي تجاه هذا؟
قبل مدخل الكنيسة يوجد فسحة ترابية كبيرة ترتكن إليها السيارات ، ومخبز صغير الحجم، عمال، عساكر، بعض المخبرين وحاجز حديدي ممتد ، بعد ذلك يبدأ ظهور المبنى القديم المتماسك إلى حد ما، بأنفاس الرب وأرواح أحبائه (فالرفض تام لمجرد دق مسمار فيه). لونه رصاصي باهت ، يبدأ بكافتيريا الشاطئ إلى أن تدخل بهو الكنيسة من باب مرسوم بمربعات رمادية .
أجلس على حواف ورد النيل أنظر إلى ما تفعله تلك العصفورة ، أريد أن اقترب منها أشعر بها وهي تندفع طائرة فى السماء ها هي هناك تقف على الوردة الصفراء وهي لونها أبيض.. إنها ليست جميلة فقط، بل وغريبة أيضاً.. ها أنا ألقي جسدي الثقيل وأشعر جداً بحس الطيران كلما اقتربت منها وفجأة صرخت صرخة مدوية وأنا أسمع صوتاً ينقذنى :
يا مجنونة هتغرقي .
نهضت من رقدتي على أريكة فى إحدى حجرات الكنيسة الخاصة بالقساوسة، وإن لم أكن قد أفقت من محنة الموت والتعبير المأساوي والمتوحد المستترداخلي تحت جبل الحزن ، الثقيل بأيامه وأحلامه وطموحه والحب العملاق، أشعر بأن روحي مكتملة مستقلة تماماً عن العالم الخارجي لا تسمع ولا تخاطب إلا همساً داخليا.
جلست أمام القس يبعث في نفسي الطمأنينة والراحة بكل ما أوتي من قوة روحية، رفعت النظر إلى وجهه فكان أبيض كامل البراءة يشع رضا عجيب ونضرة، اندهشت لهما وجاء فى عقلي : " أهذا هو القس المبارك الذى يُقال عنه إن روحه طاهرة ، وتفتك بكل الأرواح الشريرة ؟ كان الصليب يظهرموشوما فى رسغ إحدى يديه ببروزواضح ، ثم يحمل مجسدًا كبيرًا له ، ويضعه على رأسي كمن يتلمس مكان اللعنة ، وعن غير عمد سقطت رأسي داخل راحة يداي على ركبتاي ، وأجهشت فى بكاء لا مثيل له قائلا لي بغضب :
هل أنت نادمة على فعلتك الإنتحارية؟
رفعت روحي أشهق من البكاء دون رد.
ناولني كوباً من الماء وبعض المناديل الورقية وقال مستفسرًا :
هل تظنين فى نفسك الجنون لما يحدث لك من غرائب الأمور، ولا تحدث لغيرك.
نظرت إليه وقد وصلت لنهاية التعب وأشعر أن جسدي ينزف دماء حزن العالم بأكمله، وخاطبنى الهسهاس الذي بداخلي :
" سيدي القس إنني أتنفس ذعر الأحلام الملعونة، أعيش وأتحدث وأفكر فى تفاصيل من رحلوا عني كأني جثة محنطة من زمن وجودها الأصلي معهم، ليس هناك من توازن يصلب عودي الهش، ليس هناك من فضائل لمعنى حياتي ، ليس هناك من أفكار حاسمة تمكنني من التكيف، وعندما أؤهل نفسى أن أنهي الماضى، لا أجرؤ وكأنه جرح متقيح لا يتأتى له أبداً أن ينفجر وكأني أعمل جاهدة ضد نفسي ".
" أيها القس المبارك لفحني بعباءة هذا الهيكل المقدس، عبقني بريح هذه النورانية التي تطفو على وجهك كضوء الشمس القوي العفي اجعل ربك القريب بقلبك الناطق بقلوب كل التعساء أن يرحم قلبي الصغير من الظمأ، ويهبني الارتواء من مذاقك النقي وروحك الخالصة لوجه الرب الرحيم ".
قال القس مستعطفاً يرثي لحالي :
ـ ماذا بك يا ابنتي هل ترين أن كل سبلك قد سدت؟
ثم فجأة دخل الضابط (النبطشي) متأهباً لدوره قائلاً باقتحام :
سنفتح المحضر يا آنسة ونظر إلى القس كمن تذكر شيئا وقال :
عفواً يا أبونا هل تسمح لي بفتح المحضر؟
قلت وقد استجمعت ما بقي من عقلي وموقفي :
ليس هناك من شئ لتفتح المحضر، ما حدث كان حادثاً عابراً ليس له أية علاقة بالإنتحار، لقد وقع خاتمي فى الماء ونزلت أبحث عنه فكدت أن أغرق
نظر إلىَّ الضابط وهو يقلب بأصابع يده مسبحة ذات لون طوبي وقال مستهتراً:
ـ كيف هذا؟!
نظرت له بقصد الإمعان، فلمحت علامة الصلاة على جبهته وأن كانت هيئته المتعجرفة وهو ينظر إلىَّ مقتَّا كأنني أضعت عليه وجبة دسمة، فقلت فى نفسي غيظَّا : ربما هذه موضة، ثم قلت بقوة :
لا شئ يا حضرة الضابط وأرجو أن تسمح لي بالانصراف فأنا متعبة، وملابسى قد جفت بعض الشئ سأقوم بتأجير عربة خاصة لنقلي إلى المنزل.
أنت .. أنت الوحيد أيها الأب لطيف من تشعر بإحساسي المميت، والمشاهد تدار أمامي بخناجر تقتلني لابد أنك حقيقة مغرم بتلك الفتاة أهي مراهقة بعد سن الخمسين يا رجل البوليس، وربما دائما ما نطمح فى أشياء كثيرة في معاني كاملة تنالنا ولا ننال منها إلا أقل القليل.
تمارين الحياة أقاويل وأحاديث عن اقتحام العالم الآخر، تفرغ عقلك بالتدريج كلما زادت ساعات مشاهدتك TV، ألتفت لمرات عديدة لألتقط بداية الكذب وأزيح الستارعما تريد ولا تستطيع التعبيرعنه ، تفتك بك الرغبة التي تبدو على وجهك المكفهر وتدخل تحت تأثير سجائرك الملفوفة بعلامة الجودة إلى انتعاشات مزرية، لا تتفوه بكلمات ذات مغزى. لا تسأل عن أي معلومات مفيدة، إنها تمارين لإلغاء الحياة وإفساد أي طموح، تمارين الثرثرة البليدة عن أيام العز القديم ، عن جلسات أبيك الشجاع وجدك الهمام والصحبة الحلوة ولعب الورق والكونكان والجوكر وعن متعة الكيف من غير دخان ولا نار، أمثال أصدقاء أبيك الشيخ سلامة وأحكام المعلم مناع وأنت تهذي بأن دور كل شخص منهما مرتبط بالحس القومي والتواصل واستيعاب ما يحدث والاستمتاع بتداول وتنوع الكيف كالحشيش بالشيكولاته التي توضع فى قوالب ثلجية، والحشيش بالتفاح بعد نزع قلب التفاحة ووضعه بها ثم غلقها، ومناقد الحشيش التي تكبس فى غرف مغلقة ، وتعتمد على حاسة الشم فى التلذذ بالدخان المنعش دون أي جهد تبذله، وعن إكسير الحياة المتمثل في : (الكنكة المعبقة بنفحات الحشيش) ؛ الذي تصحو عليه لتحقق الإفاقة الصباحية كالعادة.
الحكاية لم تكن مجرد جلسات للتسامر والسخرية والضحك، إنه كان مبدأ، فإذا لم يوجد الحشيش أقلعوا عن متعة الكيف (فهو رقم واحد) مهما ظهر من أصناف أخرى، هذا وإن زاد الأمر حدة عند الحفيد لطيف بلعب القمار وادمان برشامات الهلوسة ثم البودرة التي أطاحت بماله وعقله، وأصبح يُسمى المقامر المراهق. وبعد توالي الأيام والسنوات شرب اللعب والخسارة بملعقة الحياة ليكون خير مجرب خير معلم، أتذكر الآن فقط جملتك أيها الأب لطيف وما فعلته بك تلك الفتاة العذراء وعن قبلتها التي أحسست معها أن الشمس تشرق بداخلك لأول مرة وهي تجمع بين الوجه البرئ وخبرة حواء منذ الأزل، أصبح هذا الرجل كالصياد المراهق بصوته الثقيل النبرة المركز فى اتجاهه لمن؟ ولماذا؟ تفتح حوارات (الخربشة)، أى المداعبة، تنقر بها على الأذهان والقلوب المفتوحة بطاقة غامضة تغوي بها من ينصت إليك وأنت تجعل من العار مجداً، ومن القسوة سحراً مكللاً بهالة الإجرام، تخطو خطواتك المهيبة بثقة زائدة مستقاة من إدمان الكيمياء النظيفة كما أطلقت عليها بديل حبوب الهلوسة ،وأحيانا تخاطر بصمت موحي يعلن بأنك لن تبوح بكل الأسرار، فلعل لأرومتك التي أكلت المخدرات، وكسرت ناب الشر ودمثته تكفي أن تطرح طيبتك ومحبتك المقنعة بالغوص لقاع الأمورلفتح حوار معك وهلوسات لا حصر لها عن أمجادك الزائفة، وتقول بعظمة وأنت تتمم حلاقة ذقنك :
عمتي دبحت ليَّا ديك شركسي.. طيب ما أنا ديك.
حين أقف فى الشارع وسط جمع من البشر أرى الحياة خصبة ووثيرة ،رغم عبورها العبثي،لكن بها عمق ما لا يُسبر غوره بسهولة ، وحين أكون بمفردي قابعة فى مربع صغيرعلى مخدعي الخاص أرى الحياة كأحواض السمك كل بألوانه وكل بقناعاته.. وكل سمكة تشاهد وتتابع وتنتظرصياد و حارس الموت الأمين على صيده ،و فجأة يخترقني صوت جارتي وصديقتي فاطمة :
حلمت امبارح يا كفاح إني راكبة أتوبيس أبو ربع جنيه ورايحة بيه فرنسا .. هروح لضيا أخويا تفتكري هاييجي ؟
مالك يا فاطمة .. أكيد هاييجي.
بالحق شيماء جالها عريس.. مش عارفة تعمل إيه بتحب الواد محمد جارها.
ترفض.
أبوها مصمم.. ههه (تضحك نصف ضحكة). تعرفى إنه متجوز بس أبوها بيقول الراجل يجيبه والجواز قل الأيام دي.
شيماء ها تعمل إيه ؟
أبداً ياختي عيطت وقعدت تخرَّف وتقول مادام ماعرفش يحبنى يبقى يجوزني . هو ده الراجل الشرقي (ضحكت ضحكة طويلة زاعقة) :
وبعدين.. وافقت يعني (والضحكة مستمرة بشكل أقل).
أه.. وعايزكي تروحي بكره معاها علشان تتفقوا على الكوافير.
ثم قالت وهي ترقن بحاجبيها :
أه مش الراجل بجيبه ياروحي.
ها ها ها .. هههههههه.
طيفك الصامد يهاجمني فى كل مكان، ألتقط رائحتك رائحة الريحان ريحاناً غير ريحان الأرض الذى كنت تجلبه لى دائمَّا، ألمح يقظتك وحياتك الضائعة، أعرف بماذا تفكر وتحلم؟ أنت العريف وأنا فتاته المهجورة حبيبها مشغول عنها بأفعال الحياة الفقيرة المريرة، إنني أنتظره وهو ينتظر أن يتنحى عنها عذاب الضمير، إنها هنا تتألم تتذمر تزعق ولا تتمرد فهي الفتاة المهجورة.
لابد أنني استقيت أحكامي هذه من قراءة الروايات وكتب أخرى أهداني الكثير منها الحبيب علي، وأبتهج جداً عندما نصل سوياً فى نفس اللحظة إلى قرار واحد حينئذ تبدو لي نفسي كتاباً مغلقا أشعر بأنه لا يمكن أن يصبح كتاباً مفتوحا، فأوراقه الأولى ممزقة تمامًا.
تعرف يا علي وأنا صغيرة كنت برسم الخرايط بإيدي بشكل جميل مضبوط خالص.. آه والله أكيد كنت برسمها بإحساس المسافات وأنا بقيس الأميال بمجرد النظر.. ده كان زمان يا علي.
قالت كفاح هذا ووجهها يعلوه شئ من الوجوم، فقد أدركت أنها تخاطب نفسها والفراغ فقط.. سكتت لدقائق معدودة ثم قامت فجأة مفزوعة، ها هي كمن استيقظ مرعوباً على نداء خفي ثم فجأة أخرى يتوقف النداء عندئذ تكون القصة قد تخلقت واكتملت فيما أسميه القصة، النسبي، المطلق ، الحياة التي هي أعلى مراحل السديم.
الحب سمكة صبية يرعاها الرب، وكلما مرت السنوات على كفاح ، تبرق من عينيها
الخضراوين لمعة حزينة مضيئة، خاصة حيث تجمع شعرها وتصنع منه كعكة لا تناسب هذه المهرة كما كان يمزح علي قائلاً : إنتِ مهرتي ياكفاح مهما غبت عني.
حين تحصل على تصريح زيارة علي تشعر أنها امتلكت نصف السعادة التي تكتمل برؤية علي، والتى أيضاً ضاعت كلها حين رأت علي أقرب إلى خيال بشبح يرتدي رداء الحزن الناصع ،الذى هو الفعل الماضى المستمر، ولا سبيل إلى محوه من كتاب الوجود السابق دون حاضر أو مستقبل ، وخصلات من مفرقه الأسود الجميل قد أبيضت تماماً، لم يعد الفتى الأسمر، بل رداءً أسودًا ، كلما أمعنت النظر فى تقاطيع وجهه بنظرات شبه جنونية، أوشكت أن تولول ولكنها كظمت عويلها وفركت يديها بدلا من ذلك، شاحب البياض وقد انسحب الدم منه مصرة أن ترفض هذا الخطأ الفادح، فحاولت أن تفتح فمها لتصرخ بشئ، إلا أن فمها بقي مفتوحاً، ما الحائل الذى يمنعها ويصدها عنه؟ يا لها من غبية! الحائل كان بداخلها وداخله فعلي أحب أن يبكي ولكنه لم يكن ممن يبكون، ثم كان سكوت وإطراق طويل ترى به الهواء العابر يتمزق والقرائن تتواتر ولكنهما لم يجرؤا على إذاعة هواجسهما.
حتى قال باستعطاف يائس :
هطلع امتى يا كفاح؟
قريب يا علي.
عاملة إيه؟
كويسة.
علي!
نعم ياكفاح.
قولي نكتة.
مرة واحدة خان الخليلي قتله.
ها ها .. يستاهل يا علي.
هدى توفيق
مصر