د. سيد شعبان - المقريزي لا يدلس

يوما ما لست أتذكره جيدا، وكنت مشغولا بالبحث مولعا بالتقصي، تراكمت في خزانتي الكتب التي أصابها الزمن بالعتة، سكنتها الأرضة، ففي الأبنية الرطبة تعيش تلك الديدان، تصول وتجول بين الصفحات، تبيض ومن ثم تفرخ أنواعا شتى لكنها تشبه أمهاتها،كتب المقريزي في سفر من أسفاره:
هذه أيام يحلو فيها للرجال أن يلوكوا الكلمات مثل اللبان حين يمضغ تحت أضراس مصابة بالتسوس، يعيدون نفس المفردات ولكن بحركات أيد مختلفة، فالقرود لا تعبث حين تتهارش، كم هي بلهاء حين تنكشف سوءاتها!
إنها دائرة من الفراغ غير المحدود يحيط بالجميع، أخذ يقلب صفحة كتاب باهت الأوراق، حروفه مصبوغة بالحمرة القانية، يرغي ويزبد؛ لكنها الحكمة تنثال، لا ضير فهو يجيد التعاطي مع نوبات الغباء التي تلازمهم.
وحده يفتل شاربه ويتمطى كأنما تناساه الفقر حتى حين، في تلك البلاد يكون للسوط مقام الحمد والرهبة، إنه يعتمد على ضعف ذاكرة المحيطين به، لقد أكلت المتاهة عقولهم!
في حارتنا يخيم العنكبوت بخيوطه المنسوجة من وهم الوهن عند كل باب يربض ثعبان، يحاصرهم الرعب من مفتول الشارب، إنه طويل مثل عود الذرة تميله الريح كل ناحية، في مرة هبت زوبعة أرعبته، طالما كانوا يبيتون وجلين.
يقتات الضعفاء الجبن الممزوج بالخوف، يرتدون أسمالا خيطت لهم، يضرب الزمن بمعوله أركان البناية، لا يشغلهم إلا أن يتعايشوا مع الضنى، يساكنهم الجراد والدم، هذه بلاد لعنت القمر وسبحت بحمد الظلام.
هذا خيال شطح بعقل مولانا الذي سكن مقريز، فبلادنا تفيض عسلا ولبنا صافيا، يختال النيل بين ضفتيه كما لو كان يعابث عذراء ترتخي أطرافها، هذه أوهامه التي دلست علينا، نحن في بلاد معطرة، أحجية يتناقلها الرواة عن حارة مسكونة بالعطر مولعة بالرقص، فالجواري تنثني عند مقدم الأتابك، ويوم يموت الفارس يأتي القيان منشدات شعر الفحولة ويزاد الرزق في الديوان!
لم تكن عادتي تصفح كتابه، لكن القدر ساقني إليه متسربلا بعباءة صوفية أوجعتها كسوة وأدمتني خشونة، ترتع فيها البراغيث كأنما هي في سباق لأن تلتهم بقايا جسدي المنهك، وجدته يذكر أن في برنا يصيد الناس من شرفات المنازل الصغار بالكلاليب، تنعقد في السردايب مزيادات على لحم البشر.
وما يزال " الطبري" مولعا بذكر رسائل" الرسل والملوك" والقلعة تكتسي والأتابك ينظر من الشرفة التي سيهرب منها" أبو الدهب" فم الخليج مسدود، فمجرى العيون تسكنه حيتان وتماسيح، والرواي ينشد، والقيان تهتز خواصرها، والقتيل دمه ما يطل!
والمتبولي يركب حماره، ينزل من الجبل، بيديه طبلة ويصيح وينادي: يا ساكن الحارة صعد مولانا المنارة
الشمس تهتف به والقمر أعد حفاوة!
هرع الجوعى والحفاة صوب شرفة الطلعة، أعطاهم وعدا بالثريد، ففي العيد تحلو المواعيد!
أغلقت سفر المقريزي وقد أصابني الدهش، أنى لمن يعيش في قرن الحداثة أن يقرأ لمن عاش في مقريز، يبتاع العسل من سقاء، ويحتلب العنزة أنى أراد.
ضربتني الحمى وهي سفير الموت أو كأنها هو، شعرت بيده المرتعشة وقد سرق مني ذاكرتي إلا قليلا.المقريزي لا يدلس
يوما ما لست أتذكره جيدا، وكنت مشغولا بالبحث مولعا بالتقصي، تراكمت في خزانتي الكتب التي أصابها الزمن بالعثة، سكنتها الأرضة، ففي الأبنية الرطبة تعيش تلك الديدان، تصول وتجول بين الصفحات، تبيض ومن ثم تفرخ أنواعا شتى لكنها تشبه أمهاتها، كتب المقريزي في سفر من أسفاره:
هذه أيام يحلو فيها للرجال أن يلوكوا الكلمات مثل اللبان حين يمضغ تحت أضراس مصابة بالتسوس، يعيدون نفس المفردات ولكن بحركات أيد مختلفة، فالقرود لا تعبث حين تتهارش، كم هي بلهاء حين تنكشف سوءاتها!
إنها دائرة من الفراغ غير المحدود يحيط بالجميع، أخذ يقلب صفحة كتاب باهت الأوراق، حروفه مصبوغة بالحمرة القانية، يرغي ويزبد؛ لكنها الحكمة تنثال، لا ضير فهو يجيد التعاطي مع نوبات الغباء التي تلازمهم.
وحده يفتل شاربه ويتمطى كأنما تناساه الفقر حتى حين، في تلك البلاد يكون للسوط مقام الحمد والرهبة، إنه يعتمد على ضعف ذاكرة المحيطين به، لقد أكلت المتاهة عقولهم!
في حارتنا يخيم العنكبوت بخيوطه المنسوجة من وهم الوهن عند كل باب يربض ثعبان، يحاصرهم الرعب من مفتول الشارب، إنه طويل مثل عود الذرة تميله الريح كل ناحية، في مرة هبت زوبعة أرعبته، طالما كانوا يبيتون وجلين.
يقتات الضعفاء الجبن الممزوج بالخوف، يرتدون أسمالا خيطت لهم، يضرب الزمن بمعوله أركان البناية، لا يشغلهم إلا أن يتعايشوا مع الضنى، يساكنهم الجراد والدم، هذه بلاد لعنت القمر وسبحت بحمد الظلام.
هذا خيال شطح بعقل مولانا الذي سكن حارة المقارزة في بعلبك، وجاء إلينا ؛ بلادنا تفيض عسلا ولبنا صافيا، يختال النيل بين ضفتيه كما لو كان يعابث عذراء ترتخي أطرافها، هذه أوهامه التي دلست علينا، نحن في بلاد معطرة، أحجية يتناقلها الرواة عن حارة مسكونة بالعطر مولعة بالرقص، فالجواري تنثني عند مقدم الأتابك، ويوم يموت الفارس يأتي القيان منشدات شعر الفحولة ويزاد الرزق في الديوان!
لم تكن عادتي تصفح كتابه، لكن القدر ساقني إليه متسربلا بعباءة صوفية أوجعتها كسوة وأدمتني خشونة، ترتع فيها البراغيث كأنما هي في سباق لأن تلتهم بقايا جسدي المنهك، وجدته يذكر أن في برنا يصيد الناس من شرفات المنازل الصغار بالكلاليب، تنعقد في السردايب مزيادات على لحم البشر.
وما يزال " الطبري" مولعا بذكر رسائل" الرسل والملوك" والقلعة تكتسي والأتابك ينظر من الشرفة التي سيهرب منها" أبو الدهب" فم الخليج مسدود، فمجرى العيون تسكنه حيتان وتماسيح، والراوي ينشد، والقيان تهتز خواصرها، والقتيل دمه ما يطل!
والمتبولي يركب حماره، ينزل من الجبل، بيديه طبلة ويصيح وينادي: يا ساكن الحارة صعد مولانا المنارة
الشمس تهتف به والقمر أعد حفاوة!
هرع الجوعى والحفاة صوب شرفة الطلعة، أعطاهم وعدا بالثريد، ففي العيد تحلو المواعيد!
أغلقت سفر المقريزي وقد أصابني الدهش، أنى لمن يعيش في قرن الحداثة أن يقرأ لمن عاش في حارة المقارزة، يبتاع العسل من سقاء، ويحتلب العنزة أنى أراد، وتوفي في مصر عصر يوم الخميس 16 رمضان سنة 845 هـ بالقاهرة ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بحوش الصوصية البيبرسية..
ضربتني الحمى وهي سفير الموت أو كأنها هو، شعرت بيده المرتعشة وقد سرق مني ذاكرته إلا قليلا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى