نظر إلى صورته في المرآة طويلاً. ورغم احتراق أغلب لمبات النجفة التي تتوسط سقف الحجرة إلا أنه لم يفشل في ملاحظة اتساع مساحة البقعة فاتحة اللون علي ياقة سترته الداكنة. تحسس موضع البقعة بأنامله برفق دون أن يكون لديه أمل حقيقي أن تزول. دخلت للحجرة زوجته بخطوات وئيدة حاملةً رصةً من الملابس وضعتها برفق على الفراش ثم دنت منه. "ألا تعتذر له؟". لم يجبها بل واصل محاولة إغلاق الزر الأعلى في قميصه وقد تقلصت ملامحه. "لا داعي لإغلاق هذا الزر، ستخفيه رابطة العنق". قالت المرأة ذلك وشدت عقدة رابطة عنقه لأعلى قليلاً فلم يعترض. أتت بكوفية خفيفة حاولت وضعها حول رقبته لكنه أوقفها بإشارة من يده وابتسامة سرعان ما زالت. "سلام عليكم". هكذا قال وهو يتوجه نحو باب الحجرة فأعادت المرأة سؤالها اليائس.."ألا تعتذر له؟". أجابها بنبرة محايدة مكرراً "سلام عليكم" وغادر الحجرة فتمتمت بصوت واهن وهي تتناول رصة الملابس لتضعها في الدولاب "وعليكم السلام". على الدرج بين الطابق الأول حيث يقطن والطابق الأرضي باغته في الظلام قط مسرع دلف من بين قدميه، لكنه نجح في الإمساك بالدرابزين قبل أن يسقط. إستقبله الشارع بنسمة خريفية باردة ففكر أن يعود لأخذ الكوفية الخفيفة لكنه تراجع عن الفكرة سريعاً عندما تذكر أنه سيكون عليه صعود الدرج مرة ثانية عند عودته من دعوة العشاء، فابتسم لحقيقة أنه لم يعد قادراً على صعود درج طابق واحد مرتين في نفس اليوم. تعجب لهدوء الشارع غير المعتاد ثم تذكر أن اليوم عطلة رسمية فأنتابه نوعٌ من الارتياح. في أيام العطلات تكون الشوارع أقل ازدحاماً وأخف ضوضاءً، وربما سيحالفه الحظ فيستقل حافلةً يكون أحد مقاعدها المجاورة للنوافذ شاغراً. هز رأسه تعجباً وقد تذكر سؤال زوجته، "ألا تعتذر له؟"، يالها من حمقاء طيبة. ألا تعلم أنه ينتظر هذا اليوم من كل عام كما ينتظر الأب عودة ابنه الغائب! إنهم رفاق السلاح، لكن ماذا تعرف النساء عن رفقة السلاح؟ ماذا يعرفن عن الخوف الذي يتفجر في صدور الرجال مع سقوط القنابل فيحيلهم وحوشاً يائسة؟ ماذا يعرفن عن صوت الرصاص الذي يعبر فوق الرؤوس كالضحكات الرقيعة فلا يثير في النفس سوى الاستهانة بالعدم؟ أيعتذر عن الدعوة؟ ياله من عار! مرتان فقط في خمسين عامٍ تخلف عن حضور المأدبة التي حرص القائد أن يدعو إليها رجاله في ذات اليوم من كل عام. في المرة الأولى كان قد خضع لتوه لجراحة في عينيه، وفي الثانية كان طريح الفراش من جراء دواء خاطيء وصفته له طالبة طب شابة من بنات الجيران. لكن في المرتين زاره القائد في بيته ودس تحت وسادته ظرفاً دون أن يسأله إن كان بحاجة إليه ودون أن يسمح له بالاعتراض. "نفِذ يا عسكري"، هكذا داعبه ضاحكاً فما كان منه إلا أن أجاب "تمام يا فندم". حقاً رد له محتوى الظرفين لاحقاً لكن يظل الجميل ديناً في العنق. لا، ليس العرفان بالجميل هو ما يجعله مصراً على تلبية الدعوة، بل لأنه لو لم يذهب لأصبح ذلك شهادة بالوفاة لكليهما. لقد رحل كل الرجال في الأعوام القليلة الماضية ولم يبقَ سوى هو والقائد، ثم تأتي العجوز النكدة وتطلب منه أن يعتذر. وتراجع سريعاً في نفسه عن وصفها بالنكدة مبتسماً، لا ليست نكدة بل إمرأة طيبة. وعندما وصل للشارع العمومي المتسع شعر ببرودة الهواء أكثر فأحكم السترة على جسده ودس يديه في جيبي السترة وانتظر وصول حافلة تقله لمقصده. كان الشارع خالياً تماماً من المارة فتأكد أنه سيجد مقعداً خالياً جانب النافذة. "يستر طريقك يا حاج، إعطني شيئاً لله". إلتفت ليجد شابة تمد يدها نحوه وقد حملت على كتفها طفلاً نائماً. إبتسم لمرأى الطفل وأخرج يمناه من جيب السترة ليبحث في جيب بنطاله عن فكة يمنحها للشابة، لكنه فجأة وقع. دفعه من الخلف إلى الأرض شاب لم يتمكن من رؤية ملامحه جيداً. وضعت الشابة يدها على فمه لتكتم صوته بينما أخذ الشاب يفتش سريعاً في جيوبه باحثاً عن أي شيء. عندما تمكن من النهوض كان الشاب والشابة قد قفزا لحافلة أبطئت قليلاً دون أن تتوقف. "إعتذرت له، الجو بارد جداً". هكذا بادر زوجته التي نظرت إليه مندهشةً من عودته المفاجئة. "كيف اعتذرت؟ لقد نسيت هاتفك". قالت ذلك وهي تمد يدها نحوه بالهاتف الصغير، لم يجبها وتناول الهاتف من يدها ودسه في جيب سترته قبل أن يدخل لغرفته ويغلق الباب حتى لا تطارده بأسئلة لا يملك لها إجابة. جلس على طرف الفراش متفكراً. لم يكن قادراً على إخبار قائده بالحقيقة، ولم يكن قادراً على الكذب. لا بأس سيعتذر فحسب دون إبداء سبب. في كل الأحوال لم يكن القائد بحاجةٍ لاعتذار، ففي صباح نفس اليوم انحرفت سيارة مسرعة عن طريقها نحو رصيف به بعض المارة، ولم يستطع عجوز يرتدي ساقاً صناعية من تفاديها في الوقت المناسب.