كان تصوير الفيلم التاريخي الكبير يجري على بعد عشرين كيلومترا من مدينة مراكش. و كنت مجرد تقني مساعد في فريق التصوير الثاني. مجرد ترس صغير في آلة كبيرة تقوم بعمل جبار في خلاء أعيد تشكيله بشكل خارق: كنا نصور فيلم «الرسالة». و كان المشاركون من أجناس وفئات متنافرة. ولكن روحا جماعية عجيبة راحت تبرز وتهيمن ? شيئا فشيئا - إلى حد أن نجم النجوم الممثل أنطوني كوين ( حمزة عم الرسول في الفيلم ) صار يتحدث بمودة ? وهو في لباس وماكياج التصوير- إلى أفراد من الكومبارس المغربي (الذين هم من أبناء الناحية الأمازيغ )، متبادلا معهم السجائر وكؤوس الشاي.
وكان هذا منظرا سينمائيا سورياليا غير محسوب.
ولكن بالنسبة إلي ? أنا التقني المساعد في فريق التصوير الثاني - يبقى أنطوني كوين هو زوربا الإغريقي.
فأنا بصراحة منذ أن شاهدت فيلم المخرج كاكويانيس ? و أعدت مشاهداته مرات لا تحصى- صرت لا أتصور الممثل أنطوني كوين إلا في صورة البطل اليوناني الساحر زوربا... زوربا الإغريقي وهو يدافع ?بأسنانه- عن الأرملة الحسناء إرين باباس ( بالطبع أنا هنا أخلط بين الشخصية والممثلة ). ثم هو يرقص الرقصة الزورباوية الشهيرة ? السيرتاكي - بجوار البحر.وهكذا - لما لمحت لأول مرة زوربا الإغريقي ( يلزم أن أقول الممثل أنطوني كوين ) يدخل إلى البلاتو متقمصا شخصية حمزة عم الرسول أحسست فجأة أن حمزة ? فارس الصحراء المغوار- صار قريبا جدا من قلبي.ولكن الاقتراب من نجم النجوم ( أنطوني كوين ) -بالعكس- لم يكن متيسرا: ففريق التصوير الثاني -الذي أشتغل فيه- كان ينصب كاميراته في البعيد. ومع ذلك ? تصوروا - فقد أتيحت لي فرصة عجيبة حيث رأيت عن قرب زوربا الإغريقي في ثياب وماكياج حمزة عم الرسول... يدخن وحيدا فريدا.
حدث هذا بعد أن راجت إشاعة عجيبة بأن أنطوني كوين -نجم النجوم- أغرم بفتاة أمازيغية من الكومبارس المغربي.
كانت الفتاة مغربية أمازيغية قحة ، بقصة على الجبين العريض، وعينين هما (أنا متأكد أن التعبير سيعجب كثيرا العاشق زوربا الإغريقي) سفينتان أوديسسيتان مبحرتان في المجهول. فلقد اقتربت من فتاة الكومبارس ورأيتها بعد أن تأكد الخبر وصار هو الحديث الجاري. وبان لي بأن الفتاة الأمازيغية غير معنية تماما بتقرب الممثل الكبير منها الذي لم تسمع باسمه قط : فهي مخطوبة لابن عمها وهي هنا فقط لتربح بعض الفلوس تساهم بها في زفافهما.ولما تردد الخبر العجيب بأن نجم النجوم ينوي الذهاب إلى القبيلة لخطبة البنت من أهلها، قلت على غرار البطل المثقف في فيلم زوربا الإغريقي: زوربا المسكين وقع هذه المرة وقعته الكبرى.
وبدأ التحضير لتصوير إحدى المعارك الكبرى وبطلها هو حمزة عم الرسول. لكن أين البطل؟ أين الممثل؟ أين نجم النجوم؟ - تساءل المخرج العربي العالمي الحائر.
- أين زوربا الإغريقي؟ تساءلت أنا التقني المساعد في فريق التصوير الثاني.
وعاد مساعد المخرج الأول يخبر المخرج بأن المستر أنطوني كوين غير موجود في الكارافان. بل إنه لم يظهر له أثر منذ أن علم ? هذا الصباح - بأن فتاة الكومبارس غير معنية تماما بتقربها منه.فزفر المخرج الكبير الدخان الذي مصه مصا من غليونه الهولندي وقال قولة ستصير مثلا: يفعلها الكومبارس ويدفع ثمنها المخرج !
وألغي تصوير المشهد بتكاليفه الباهظة.وذهبت أفتش عن زوربا الإغريقي في غابة النخيل المراكشية المجاروة ( لو كنا في جزيرة كريت لذهبت أفتش عنه بجوار البحر ). ولمحت الرجل النحيل والعملاق بثياب وماكياج حمزة عم الرسول جالسا أسفل نخلة صحراوية حقيقية يدخن ويبحلق في الفراغ. فدنوت. ولما أحس بوجودي أدار وجهه و نظر نحوي في شرود مؤثر ( لقطة سينمائية مكبرة). فتغلبت على ترددي وتقدمت (لقطة سينمائية بطيئة ). و فجأة نزعت الجاكتة الجلدية السوداء ورميتها بعيدا (لقطة مسرحية بارعة)، وشمرت عن ذراعي ثم بسطتهما على شكل صليب، وثنيت ركبتي اليمنى وتقدمت خطوة إلى أمام ثم خطوة إلى خلف، وبدأت رقصة السيرتاكي وموسيقي البارع ثيودوراكيس تقصف داخلي. فانتصب زوربا الإغريقي فجأة مبهورا (وكان في ثياب حمزة عم الرسول بالكامل: العمامة الشامخة، والبرنوس العربي، والسيف الهلالي متدليا على الجنب)، ونط يشبك ذراعه الأيسر بذراعي الأيمن... وبدأنا نرقص معا الرقصة الزورباوية المجنونة... نرقص في صمت غابة النخيل المراكشي المطبق...
* العلم الثقافي 17 - 1 - 2010
وكان هذا منظرا سينمائيا سورياليا غير محسوب.
ولكن بالنسبة إلي ? أنا التقني المساعد في فريق التصوير الثاني - يبقى أنطوني كوين هو زوربا الإغريقي.
فأنا بصراحة منذ أن شاهدت فيلم المخرج كاكويانيس ? و أعدت مشاهداته مرات لا تحصى- صرت لا أتصور الممثل أنطوني كوين إلا في صورة البطل اليوناني الساحر زوربا... زوربا الإغريقي وهو يدافع ?بأسنانه- عن الأرملة الحسناء إرين باباس ( بالطبع أنا هنا أخلط بين الشخصية والممثلة ). ثم هو يرقص الرقصة الزورباوية الشهيرة ? السيرتاكي - بجوار البحر.وهكذا - لما لمحت لأول مرة زوربا الإغريقي ( يلزم أن أقول الممثل أنطوني كوين ) يدخل إلى البلاتو متقمصا شخصية حمزة عم الرسول أحسست فجأة أن حمزة ? فارس الصحراء المغوار- صار قريبا جدا من قلبي.ولكن الاقتراب من نجم النجوم ( أنطوني كوين ) -بالعكس- لم يكن متيسرا: ففريق التصوير الثاني -الذي أشتغل فيه- كان ينصب كاميراته في البعيد. ومع ذلك ? تصوروا - فقد أتيحت لي فرصة عجيبة حيث رأيت عن قرب زوربا الإغريقي في ثياب وماكياج حمزة عم الرسول... يدخن وحيدا فريدا.
حدث هذا بعد أن راجت إشاعة عجيبة بأن أنطوني كوين -نجم النجوم- أغرم بفتاة أمازيغية من الكومبارس المغربي.
كانت الفتاة مغربية أمازيغية قحة ، بقصة على الجبين العريض، وعينين هما (أنا متأكد أن التعبير سيعجب كثيرا العاشق زوربا الإغريقي) سفينتان أوديسسيتان مبحرتان في المجهول. فلقد اقتربت من فتاة الكومبارس ورأيتها بعد أن تأكد الخبر وصار هو الحديث الجاري. وبان لي بأن الفتاة الأمازيغية غير معنية تماما بتقرب الممثل الكبير منها الذي لم تسمع باسمه قط : فهي مخطوبة لابن عمها وهي هنا فقط لتربح بعض الفلوس تساهم بها في زفافهما.ولما تردد الخبر العجيب بأن نجم النجوم ينوي الذهاب إلى القبيلة لخطبة البنت من أهلها، قلت على غرار البطل المثقف في فيلم زوربا الإغريقي: زوربا المسكين وقع هذه المرة وقعته الكبرى.
وبدأ التحضير لتصوير إحدى المعارك الكبرى وبطلها هو حمزة عم الرسول. لكن أين البطل؟ أين الممثل؟ أين نجم النجوم؟ - تساءل المخرج العربي العالمي الحائر.
- أين زوربا الإغريقي؟ تساءلت أنا التقني المساعد في فريق التصوير الثاني.
وعاد مساعد المخرج الأول يخبر المخرج بأن المستر أنطوني كوين غير موجود في الكارافان. بل إنه لم يظهر له أثر منذ أن علم ? هذا الصباح - بأن فتاة الكومبارس غير معنية تماما بتقربها منه.فزفر المخرج الكبير الدخان الذي مصه مصا من غليونه الهولندي وقال قولة ستصير مثلا: يفعلها الكومبارس ويدفع ثمنها المخرج !
وألغي تصوير المشهد بتكاليفه الباهظة.وذهبت أفتش عن زوربا الإغريقي في غابة النخيل المراكشية المجاروة ( لو كنا في جزيرة كريت لذهبت أفتش عنه بجوار البحر ). ولمحت الرجل النحيل والعملاق بثياب وماكياج حمزة عم الرسول جالسا أسفل نخلة صحراوية حقيقية يدخن ويبحلق في الفراغ. فدنوت. ولما أحس بوجودي أدار وجهه و نظر نحوي في شرود مؤثر ( لقطة سينمائية مكبرة). فتغلبت على ترددي وتقدمت (لقطة سينمائية بطيئة ). و فجأة نزعت الجاكتة الجلدية السوداء ورميتها بعيدا (لقطة مسرحية بارعة)، وشمرت عن ذراعي ثم بسطتهما على شكل صليب، وثنيت ركبتي اليمنى وتقدمت خطوة إلى أمام ثم خطوة إلى خلف، وبدأت رقصة السيرتاكي وموسيقي البارع ثيودوراكيس تقصف داخلي. فانتصب زوربا الإغريقي فجأة مبهورا (وكان في ثياب حمزة عم الرسول بالكامل: العمامة الشامخة، والبرنوس العربي، والسيف الهلالي متدليا على الجنب)، ونط يشبك ذراعه الأيسر بذراعي الأيمن... وبدأنا نرقص معا الرقصة الزورباوية المجنونة... نرقص في صمت غابة النخيل المراكشي المطبق...
* العلم الثقافي 17 - 1 - 2010