إستقبله سكرتير العيادة بالحفاوة المعهودة. تبادل معه بعض عبارات المجاملة ونقده قيمة الكشف والبقشيش المعتاد. "ستدخل بعدهما فوراً". قال السكرتير ذلك وهو يشير لرجل وشاب يجلسان متجاورين في ركن بهو الانتظار. لم يكن هناك غيرهما فاطمئن أنه لن ينتظر طويلاً. إتجه لأحد المقاعد الوثيرة المواجهة للنافذة الضخمة المطلة على الشارع الرئيسي. حيا الجالسَين بإيماءة صامتة من رأسه وهو يجلس. رد الشاب تحيته بابتسامة محايدة، أما الرجل الذي كان يحدق في الأرض فلم يبدُ عليه أنه شعر بوجوده. مد بصره لخارج النافذة فوقعت عيناه على فتاة ضخمة تنظر نحوه من إعلانٍ ضخمٍ إحتل سقف أحد البنايات العالية. ضيق عينيه في محاولة لقراءة نص الإعلان لكن بعد المسافة حال دون ذلك. عاد ببصره للرجل والشاب الجالسين في الركن. كان الرجل لا زال غارقاً في شروده بينما انهمك الشاب في النظر لشاشة هاتفه. تفرس في ملامحهما فراعهُ الشبه العجيب الذي يجمع بين الرجل وابنه. لولا أثر الزمن الذي لا يفلت منه أحد لظن من رآهما أنهما توأمان. هو أيضاً كان نسخةً من أبيه، أما ابنتاه فلم ترثا منه شيئاً سوى بشرته الداكنة. لم يخبرهما أنه يتردد على الطبيب منذ ستة أشهر. لم يجد في إخبارهما فائدة ترتجى. كبراهما منشغلة ببيتها وطفليها، والصغرى تعمل في الصباح وتنكب في المساء على كتبها استعداداً لمناقشة الدكتوراة. لن يثمر إخبارهما باضطراب خفقان قلبه سوى عن إصابتهما بالقلق. ربما لو كان أنجب ولداً كهذا الشاب الجالس أمامه لصارحه بمتاعبه وألقى عليه بأحماله. وتساءل هل يكون حظ الصغيرة أفضل من شقيقتها فتحظى بشابٍ ميسور الحال كهذا الشاب الوسيم. فرغم بساطة ثياب الشاب إلا أن أناقة الأب وساعته الثمينة تعلنان بلا لبس عن ثراء أصيل. وفجأة رفع الأب رأسه فتلاقت عيناهما لبرهة قبل أن يعود الرجل للتحديق في الأرض ثانيةً. ربما تكون حالته سيئة، لكن توفر المال على أي حال يجعل مجابهة القدر أيسر. وانفتح باب حجرة الكشف لتخرج منه امرأة ذكرته بزوجته الراحلة. تبادلت المرأة عبارتين مع السكرتير ثم غادرت العيادة. نادى السكرتير على الأب وابنه ودعاهما للدخول. انتفض الأب واقفاً وقد أمسك بأحد يديه حافظة أشعات كبيرة، ومد يده الأخرى نحو الشاب الذي تناولها بيد واستند بالأخرى على مسند الكرسي حتى تمكن من القيام. سارا ببطء نحو حجرة الكشف بينما عاود هو التحديق خارج النافذة. كانت فتاة الإعلان لا تزال تنظر نحوه وتمكن من قراءة النص المكتوب رغم بعد المسافة.