محمد السلاموني - عن الثورة والرواية والأمل والأخلاق

فى السنوات التى أعقبت ثورة 25 يناير مباشرة، تصادف أن كنت عضوا فى إحدى لجان القراءة التابعة لواحدة من المؤسسات الثقافية الرسمية... كانت مهمتى تنحصر فى تقييم النصوص الروائية غير المطبوعة وكتابة التقارير عن مدى صلاحيتها للنشر .
وما دمنا فى اللحظة التى أعقبت الثورة مباشرة، توقعت أن ترد إلينا أعداد هائلة من النصوص الروائية التى تتناول ذلك الحدث التاريخى الكبير، وهو ما حدث بالفعل .
أذكر أيامها أننى قرأت كما ضخما من الروايات، وعلى الرغم من اختلاف أحجامها وأشكالها ، وكذلك الرؤى والمنطلقات والأهداف... إلا أننى لاحظت أن كل تلك الروايات تشترك فى شئ واحد، هو :
"الأمل فى التغيير"...
عادة ما كان الحدث الروائى، يبدأ بواقعة الثورة : أب يضطر للذهاب إلى ميدان التحرير بحثا عن ابنه الشاب، وعندما يرى تضحيات الشبان بأرواحهم ثمنا لمصر أجمل وأكمل، يعيد النظر فى مسيرته الحياتية الفاسدة ويقرر الإنضمام للثورة الحلم ؛ وهى الثيمة الشائعة. / مومس تذهب إلى الميدان أيضا، بحثا عن زبائن، وعندما ترى... تعلن توبتها ./ لص ، يذهب إلى الميدان ليمارس عمله، لكنه يشترى للثوار طعاما بالأموال التى سرقها/ بلطجى، يعمل سرا مع أجهزة الأمن، يذهب إلى الميدان لقمع الثوار، فيرى جثة إبنه ــ وهلم جرا.
إنه < الأمل >
الأمل فى "الفرد"، وفى "عودته إلى الضمير".
هكذا، فالتصور الأيديولوجى الغالب لدى الروائيين الذين تناولوا حدث الثورة، لا يخرج عن كونها "مُرَاجَعة ثورية- إنقلابية- يأتيها الفرد بنفسه لنفسه، على مرجعية شعب يريد وطنا جديدا، هو فردوس أرضى، دستوره الأخلاق وعماده الفرد"...
ملاحظتى الأساسية المتعلقة بتلك الروايات "ولم أشر إليها فى التقارير التى كتبتها، لأن المعيار الذى استندت إليه فى التقييم كان جماليا صرفا"، أقول، ملاحظتى ارتكزت على "الموت الحتمى" للعلمانية، والعقل، والمجتمع المدنى، ومن ثم العلم والأدب والسياسة... نعم، نحن أمام مأدبة روائية، أعدَّها الدراويش لشعب بأكمله، مأدبة مسمَّمَة بكل ما هو ظلامى.
والسؤال الذى كان - ولازال - يطاردنى، هو: أيُعقَل أن يثور شعب بأكمله على "ظلام نسبى" تطلُّعا إلى "ظلام مطلق"... ؟.
نعم، الروائيون الذى تناولوا حدث الثورة، لم يفهموا أن "الرواية" هى النوع الأدبى الذى انبثق تاريخيا مع الثورة البرجوازية، فى الغرب وفى العالم كله، لم يفهموا أن الجماليات الروائية تحتفى بالتجربة الفردية الجديدة "الفردوية"- كـ "تجسيد لمبدأ الذاتية"؛ الفرد بينما يصنع مصيره بنفسه فى علاقته بـ "مبدأ الواقع ، ومبدأ التاريخانية"... وهذا ما فعله "نجيب محفوظ" لدينا، فى سياق تاريخى آخر./ فعن أى أخلاق وعن أى ضمير يتحدث الروائيون المصريون المعاصرون إذن؟.
قبل أن أنهى هذا المقال، أشير فقط إلى أننى أيام الثورة، ذهبت ثلاث مرات إلى ميدان التحرير
، وكنت أعانى من "وجود مياه بيضاء فى عينيا- ولم أكن أرى تقريبا"، فى واحدة من تلك المرات، فى شارع جانبى، أطلقت علينا الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع، وكدت أختنق "أنا الذى أعانى صعوبات فى التنفس منذ مولدى"، الشباب هم الذين أنقذونى...
لكننى لاحظت أن الإسلاميين يهيمنون على الميدان: يحكون قبضتهم على الدخول إليه والخروج منه، يحتلون المنصات والخيام، يديرون الحوارات فى التجمعات المتناثرة هنا وهناك...
وأذكر أننى قلت لأصدقائى: لو سقط نظام مبارك، الإسلاميون سيحكموننا...
وأذكر أن أحدهم اعترض على ما قُلت، وقال: عددهم لا يزيد عن 10 % ، كيف يحكمون؟.
أجبته بأنهم الأكثر تنظيما، وتخطيطا، ثم أن أكثرية الشعب مزودين بذيول دينية...
// هنا المشكلة فلنتوقف هنا:
الجهود التى بذلها التنويريون المصريون والعرب، فى إعادة قراءة التراث الدينى، من منظور برجوازى، أطفأه الإسلاميون بدعاويهم المتمحورة حول "الخلافة"؛ بما هى مبدأ "المستبد العادل"، فى مسمَّاه الحديث "الإمام محمد عبده- نموذجا؛ فهو من أوائل من تحدثوا عنه"، وغيرها من الدعاوى...
باختصار: تحويل مصر إلى مجتمع برجوازى، تحت شعارات التحديث، لم يكن سوى تهجين بين عناصر متناقضة، تراثية قديمة وعلمانية جديدة، لم تأتلف أبدا فى وحدة واحدة، وظل الصراع مشتعلا بينهما إلى الآن...
أما الرواية "التى تناولت الثورة" فلم تع أنها تتحدث عن "فرد - هو ذات أخلاقية مجردة"، سابحة فى ملكوت ضمير غيبوى منقطع عن الواقع والتاريخ، وأنها- فى نهاية الأمر- تضاف إلى تراث المنابر "حيث الوعظ الدينى"، وليس إلى تراث الرواية الحديثة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى