فتحي عثمان - خصومة الروح والجاذبية والأجساد المحمولة جوا

ما من ثنائية شغلت الإنسان مفكرا وشاعرا ومتأملا كثنائية الروح والجسد. تلك الثنائية العجيبة تدخل عليها الجاذبية الأرضية فتجذب مكونيها: الجسد والروح جذبا نحو الأسفل. لكن الروح، بطبعها الخفيف الشفيف طائر يرفرف نحو وكناته في العلياء، وبين فيزياء الجذب وتوق الانعتاق نحلق معا.

العطسة الأولى وعشرة الأيام:

عشرة الأيام بين الروح والجسد بدأت عندما تغلغل الروح إلى خيشوم آدم فعطس العطسة الأولى وحمد الله، فبدأت سيرة الحمد الآدمي مقابل سيرة الكفران الشيطاني، وقبلها رأي الشيطان آدم جسدا صلصالا فأحتار فيه ومصيره. وبدأت العشرة من الخلق، وبدأ آدم في تأمل محيطه ونفسه وكانت العيون نافذة الروح على الجسد والغير.

وصارت العشرة محط تأمل الأقوام. فرأي الفراعنة أن الروح تفارق الجسد فراقا مؤقتا لتعود إليه، فأهتموا بالجسد تحنيطا وحفظا وبنوا له الأهرام، فعندما تعود الروح يوما ستجد صاحبها الجسد باقيا دون فناء بصحبة ممتلكاته المحفوظة حتى القطط. وفي هند تناسخ الأرواح حد الأعمال الشاقة، تقفز الروح من جسم إلى جسم جيئة وذهابا ثوابا وعقابا، من جليل إلى حقير حسب طيبها وخبثها. وضمن ذلك ينهك الجسد بالصيام والإجهاد حتى يزوى، لصالح نقاء الروح. والبعض في اليونان عد الجسد محبسا للروح. في زمن لاحق غاص روني ديكارت في متاهات ثنائية الجسد والروح حتى صرح أخيرا بأن الروح والجسد يلتقيان في الغدة الصنوبرية. قديما وعندما كان الموت يأتي وديعا للراقدين، كان البصر يتبع الروح فتتابع العيون طيران الروح. أما اليوم فبسيارة مفخخة أو صاروخ موجه نحو سيارة دفع رباعي سعة سبعة أرواح تتفتت الأجسام؛ وعندما تنفض الروح عنها غبار ورائحة البارود تجد أنها كصاحبها الجسد لم تسلم من الأذى الجسيم.

من تفاحة نيوتن إلى تفاحة جوبز: الطين والحنين:

حلم عباس بن فرناس بالطيران والانعتاق، ولأنه لم يتملك جناح الطير وقع على زمكه فكسره. وحتى في زمن الأخوين رايت وأبولو 11 كان الطيران محاكاة لطيران الروح وتحليقها في الأعالي ولكن الجسد المشدود بحبال الجاذبية الأرضية وحنينها إلى الطين شد الإنسان إلى الأسافل وإلى القبر حيث الإضجاع، وكما قال حكيم المعرة: ضجعة الموت رقدة يستريح الجسم فيها. ومنذ كشف قانون الجاذبية بدأت محاولة الاحتيال للانتصار للروح على حساب الجاذبية، حتى أصبح الإنسان هو الكائن المحمول جوا والمربوط بحزام الأمان أثناء الطيران، ومرورا بتفاحة ستيف جوبز وصولا إلى تفاحة افتراضية ربما في الكوكب الأحمر سنعيش خصومة الجاذبية والروح إلى حين.

عندما لا يكون الموت بينونة كبرى:

في زمان لا يعرف فيه المقتول قاتله، كما قال صلاح عبد الصبور هل يوجد موت بدون ألم؟
ارتبط الموت عندنا بالألم: الم المحتضر والمحيطين به من الأحبة. لم يعد أحد من مملكة الموت ليخبرنا عما أذا كان الموت مؤلما، ولكننا من أسقامنا نعرف أن الألم للجسد والعذاب للروح. وعندما يقع البين، أي عندما تبين الروح عن الجسد، وتفارقه، تكون موزعة مشاعرها متأرجحة بين فرحة العودة إلى عالم مثل افلاطون، أو الفردوس المفقود، وبين حسرتها على فراق صاحبها الجسد.
وفي الواقع تشير حالات مقاربة الموت إلى أن الروح تحتفظ بمسافة من الجسد، وغالبا، ما تكون مسافة علوية: أي تنظر إليه، وبدون خوف، من أعلى ) كتجربة الراحل صائب عريقات
قبل وفاته عندما مر بتجربة مماثلة. (
الشعر والصوفية هما أفضل محدث حول رحلات الروح، حتى انقسامها بين حبيبين، وهنا يكون الظمأ هو مظهر عذاب الروح كما يقول الشاعر مصطفى عبد الرحمن في قصيدة "تلك الصخرة" التي غناها الفنان السوداني العاقب محمد حسن بصوته العذب، ويصف فيها روح معلقة بين حنين وظمأ:

يا حبيبي ظمئت روحي وحنت للتلاقي
وهفا قلبي إلى الماضي وناداني اشتياقي
آنا ظمآن ألاقي من حنيني ما ألاقي
فأسقني وأملا من النور من ليالي البواقي

ولا يكف الشعر شرقا وغربا في التحليق مع الروح في سموها. فهذا شاعر داغستان العظيم رسول حمزاتوف، في ترجمة أبو بكر يوسف أوردها البروفيسور صالح عضيمة يحلم فيها حمزاتوف بأنه مات وغادرت روحه عشها:
حلمت بأني قد مت
وحين تحسست صدري حزينا
وجدت عشا خاويا،
في موضع القلب
ويتابع في علوه النوراني تشييع جنازته
ويسأل نفسه: ترى أبكي على حياة ولت
أم لأنني أعيش؟
حياة ولت كانت بصحبة جسد، وعيش في عالم جديد. مسكينة هي الروح حين تكون في الجسد تحلم بالطيران وعندما تطير يقتلها الحنين إلى الجسم وعشرة السنين.

وها هو أبو المتنبئ ينصح بما يجب قبل فراق الروح للجسد:

ذر النفس تأخذ وسعها قبل بينها
فمفترق جاران دارهما العمر


ويصور درويش مغادرة الروح كتحليق جماعي نحو وطن الطيور حيث يطل الراحلون على الأرض:
"ونحن سنهرب من زمن لم يهيئ له بعد، هاجسنا، سنمضي إلى وطن الطير سربا من البشر السابقين، نطل من حصى أرضنا من ثقوب الغيوم نطل على أرضنا، من كلام النجوم نطل على أرضنا."

وقديما كان الشعر والحكمة والمتصوفة في تجلياتهم وفي شعرهم أقرب للروح وفهمها.
ويزور عضيمة أبا العلاء في وحدته، وهو الذي يرى كما يرى حكيم اليونان بأن الروح حبسها الجسد:

ما زالت الروح في دعة
حتى استقرت بحكم الله في الجسد

ولا يكتمل حديث عن الروح لا تزينه حكمة مولانا الرومي صاحب "المثنوي"، وهو القائل: أنا لست هذه البشرة، أنا لست هذه الملامح، لكن الروح التي تسكنهما.

ثم...

الروعة في يقين هادئ يسكن الحنايا بأن ذبول الجسد ليس هو نهاية المطاف، قد تغادرنا ابتسامة محبوبة أثيرة، ولكن بلسم ملامستها لأرواحنا يظل هو الخالد، مصدقا لقول نيتشه بأن "الروح هي التي تدثر الجسد"، ثم إذا غادرته فإنها تتنظر لحظات اللقاء الوشيك الذي لا تشك فيه أبدا.

من أجل طيران حر وتحليق بعيد عليك أولا فك الأحزمة؛ فأنت وكما قال سي. إس لويس: “لا تملك روحا. أنت روح. أنت تملك جسدا."





1643217437919.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى