نمتَ متأخرا ، واستيقظتَ متأخرا . تناولتَ وجبة الفطور . كلما خرجتَ من المرحاض ، تحمد الله وتشكره ، وأنت تتذكر شخصا من الماضي عانى من الإمساك . كان دائما يسأل عمّن يريد الدخول إلى المرحاض ، فهو عندما يدخل ، ويُغلق عليه الباب ، قد يبقى على هذه الحال ساعة أو أكثر .
بعد ذلك حملتَ حقيبتك ، وكيس القٌمامة ، وخرجتَ إلى المقهى . سرتَ على رجليك نصف المسافة . ثم امتطيتَ دراجتك العادية . لا يمكن أن تستمر في السير راجلا . الرصيف يحتله أصحاب الدكاكين والمقاهي والباعة المتجولين . وسماسرة السيارات المستعملة . فكرت مرة أن تقدم طلبا لعمدة المدينة بأن تخصص للمارة طائرات هليكوبتر لاجتياز بعض الممرات أو الأزقة .
وجدتَ طاولتك المفضلة فارغة . مع وباء كورونا ، تعودت على الجلوس بمفردك . كلما تقدمتَ في العمر قلّ عدد الأصدقاء . إذا فقدتَ أحدهم لا تجد من يُعوضه . تحرسكَ عناية الله ، وتعويذة (الخميسة)* . حين قررتَ وضع واحدة خلسة في رأس السلسلة التي تغلق الحقيبة ، وثانية في حمّالة المفاتيح ، اعتقدت أنها ستحميك من العين ، وتحمي المفاتيح من الضياع ، والحقيبة من السرقة .
لا تنسى أن ثلاث كاميرات خلف رأسك . اليوم لم تعد المقاهي والحانات والمطاعم والشوارع وحتى الدكاكين في حاجة إلى بصاصين ومخبرين يراقبون حركة الناس ، ويرفعون التقارير إلى من يهمهم الأمر . التكنولوجيا أصبحت تقوم بذلك ، وبشكل أدق وأفضل . من يهمهم الأمر لم يعودوا في حاجة إلى البحث عن كتب ماركس ولينين وماو تسي تونج ومهدي عامل والنشرات الخاصة بالمنظمات السرية ، لذلك إذا أردت أن تكون مزعجا ، فعليك حماية المناطق الحساسة من جسمك ، ووضع قفل عليها حتى لا تُفاجأ بصورها منتشرة في وسائط التواصل الاجتماعي ، كما حدث مع المحامي جاحظ العينين .
سيأتي النادل ، ويضع أمامك القهوة السوداء بدون سكر ، وستُخرج قارورة الماء من حقيبتك والنظارات والهاتف ، وتضعهم فوق الطاولة . كورونا أعفاك من عادة قديمة أدمنتَ عليها مثل ما يُدمن البعض على تناول المخدرات . وساعدك الشيخ جوجل على التخلص من الجرائد الورقية . ما عدا ذلك ، كل شيء بقي على حاله .
ماذا لو فتحتَ قناة ، وصوّرتَ روتينك اليومي مثل ما تفعل بعض النساء بمفردهن ، أو مع رفقة ؟ أنت لن تدخل إلى المطبخ وغرفة النوم والصالون ، تتبع امرأة مثل الكلب ، لا يعرف أحد إن كانت زوجتك أو أختك أو صديقتك ، وتأخذ صورا لمؤخرتها . ولا تملك بضاعة يمكن أن تشُدّ الناس ، وترفع نسبة المشاهدة في (اليوتيب) أو (الانستغرام) .
افتح الهاتف ، وانظر إلى أحد المؤرخين والمفكرين الكبار ، وهو يُلقي درسا افتتاحيا في مؤسسة علمية مشهورة . لا يتعدى عدد الميكروفونات الموضوعة أمامه ثلاثة . وقد تكون للطلاب أو لإدارة المؤسسة ، وانزل إلى أسفل الفيديو ودقّق في نسبة المشاهدة والإعجاب والتعليقات . لا بد أن تخجل إذا انتقلت إلى قناة (أمي نعيمة)* ، وهي تجلس بجانب مدخل حديقة تتناول (رايبي)* ، وتستغل بذكاء مظهر الأم القروية ، وتُقلّد لكنتها البدوية . تتحدث عن كل شيء ، ولا تقول أي شيء ، يُمكن أن يُفيد الناس . تُقدم رأيها حول كورونا ، والخز يعلو أسنانها الأمامية ، وتنفي كيفما اتفق وجود الوباء الذي أخذ أرواح العديد من الناس ، ومنهم بعض أصدقائك ، وتستشهد بأولياء الله الصالحين . ويتفاعل معها عشرات الآلاف من المعجبين والمعجبات . وتظهر في فيديو آخر ، وقد خضعت لعملية تجميل ، ترتدي سروالا ومعطفا صوفيا ، وقصة شعر فوق الكتفين جعلت وجهها أكثر إشراقا . تُصرّح بأنها تربح دخلا شهريا يفوق أو يعادل أجر وزير . وتنفي بأنها دعت الله بأن يُصيب السرطان أصابع من يضع علامة عدم الإعجاب على ما تنشره من أوساخ كما ادعى خصومها ، الذين اتهموها بالإساءة إلى مرضى السرطان ، وتؤكد بأنهم بدافع الحسد ، يرغبون فقط في تحطيمها ، وسرقة جمهورها .
سألتَ نفسك :
ـ يا أخي !
ـ لا أحب أن تناديني بهذه الصفة ! فأنا لست أخاك !
ـ من تعتقد نفسك ؟ أنت مجرد عجين ! ألعب به كما أشاء ، وأصنع منه ما أريد ! حسنا لن أدعوك بهذه الصفة ، ولا باسمك الشخصي حتى يتعرف عليك الناس . سأتنازل هذه المرة لتطييب خاطرك . هل تعجبك صفة يا فلان ؟
ـ ها نحن عدنا إلى الخصام من جديد . سيدي أنت تتوهم أنك تعرف كل شيء عني ، وتتحدث عما أقوم به كأنك أنت أنا ! تأكد بأنك واهم ! ولا تعرف شيئا إلا ما أسمح لك أنا بمعرفته !
كل يوم تكررُ نفس ما فعلته بالأمس . تشربُ القهوة من غير سُكّر ، تفتحُ الهاتف ، تقرأُ الأخبار ، تطّلعُ على أسعار الخضر والفواكه ، وتشكو من ارتفاعها ، ولا تذهب إلى السوق لاقتنائها . الكاميرات الثلاث خلف رأسك لا تعلم بأنه لو تعلق الأمر بشخصك لدعوتَ الناس إلى الاستغناء عن أشياء كثيرة ، مثل الغاز وزيت المائدة والبطاطس ، واللحوم الحمراء ، وقناة أمي نعيمة ، ورقصة (الطراكس)* . لم تنس أنك مثل الموظف الذي خاطب صديقا له في الحانة ، وقال بأنه لا يتوفر إلا على رئة واحدة ، عكس البعض الذي يتنفس من رئتين ، وهو يقصد بالرئة الراتب الشهري .
فكرت أكثر من مرة في تنظيم وقت معين ، تجلس فيه تقرأ أو تكتب ، لكنك لم تنجح في التنفيذ ، لسبب بسيط هو أن حياتك تسودها الفوضى . تُقرّر وأنت خارج من البيت ، أنك ستأخذ سيارة أجرة ، وستذهب إلى المدينة القديمة . اشتقت أن تسير تائها في أسواقها العتيقة . يشدّك حنين جارف لتُكحل عينيك بسحر الألوان ، وتشمّ رائحة التراب التي تفوح من جدران الأزقة والدروب . تمر سيارة أجرة فارغة بالقرب منك . لا تُلوّح لها بيدك ، ولا تُنادي على السائق . تلتفت ثم تُغيّر رأيك ، وتذهب دون تعرف إلى أين ! تمرّ بجانب متجر (ديكاتلون) ، ولا تشعر حتى تجد نفسك في الداخل ، تتجول بين أجنحته . تقتني حذاء رياضيا بلا جوارب ، وأنت تكره الرياضة ، وتقول بأنها تعمل لك حساسية في الروح ، وكأنك تتعمد الخلط بين الجلد والروح والجوارب .
المهم مرّ وقتٌ طويل ، وأصبح من سابع المستحيلات أن تتعود على حياة جديدة ومُنتظمة ، تخضع للعقل والتنظيم ، كأن تتناول الطعام في وقت محدد ، وتنام وتستيقظ في وقت محدد ، وتضع برنامجا لما ستعمله في اليوم والأسبوع والشهر ، وتتقيد به ، وتكذب أيضا بانتظام مثل بعض السياسيين ، وفقهاء (النيت)* .
لقد أصبحت مثل ذلك الراعي الذي اشترى سيارة من أوروبا ، وبدل أن يجتاز امتحانا في قانون السير ، ويحصل على رخصة سياقة ، ويسافر في طريق واضح ومعبد ، وضعها فوق الجمل ، ولم يحدد الهدف الذي سيرحل إليه ، فتاهَ في الصحراء .
قد لا تكون مسئولا عن هذا الوضع . جميل أنك لم ترضعَ من حليب الصيدليات . يحسدونك ويقولون بأن حليب أمك صحّي ، ويقوّي العاطفة والمناعة ، والارتباط بالأسرة ، والموت من أجلها . ولولاه لفتكت بك المجاعات والأوبئة التي توالت على البلاد والعباد . ووجدت نفسك معلقا بين الحياة والموت في أحد مستشفيات المدينة التي تُشبه المقابر . المشكل هو أنك ترضع بغير انتظام . كلما صرختَ أو بكيتَ ، فأنت جائع ، ولا بد من إغلاق فمك ، وإلهائه بمصّ ثدي أمك . لا أحد يعلم إن كنت مصابا بمرض غير الطبيب . والطبيب بينك وبينه سبع سماوات . يكفي أن حرارة جسمك عادية ، إذن فأنت جوعان . أمك المسكينة مشغولة طيلة اليوم . يجب أن تعجن ، وتهيئ الفطور ، وطعام الغذاء والعشاء ، وتغسل الأواني والثياب ، وتنشر القمح وتنقيه . وترضعك بين هذا وذاك ، ثم تحملك على ظهرها ، وتشدّك بإزار ، فتشعر بالدفء وتنام . لا بد أن تنام أطول فترة ممكنة في النهار ، وبالتالي ستستيقظ أطول فترة ممكنة في الليل .
إذن أنتَ رضعتَ حُبّ الفوضى والنوم مع حليب أمك ، ولذلك يكره عقلك الباطن النظام والضوء وأحكام العقل والقانون . تعوّدتَ على هدم العالم الذي تقرأ عنه في الكتب قبل أن يُبنى على أرض الواقع . بمنطق ما وراءَ البحار أنت عدوُّ نفسك .
المعجم :
ـ (الخميسة) : قلادة من فضة تتخذ شكل كف اليد . يعتقد الناس أنها تعويذة تحمي من العين .
ـ (أمي نعيمة) : سيدة تتقمص دور امرأة قروية فتحت قناة في اليوتيب ، وحققت شهرة واسعة في المغرب ، تتناول أحداث الساعة ، وتعلق عليها بطريقتها الخاصة .
ـ (رايبي) : مشروب يُصنع من لبن الحليب ، ويُضاف إليه سائل أحمر ، يُحبه سكان البوادي كثيرا .
ـ (الطراكس) : اسم آلة تُستعمل في تعبيد الطرق وتزفيتها ، وأطلقه البعض كوصف لإحدى الراقصات التي تشبه هذه الآلة في حركاتها ، فتُعبّد وتُزفّت شهوة من يتابعها.
مراكش 10 فبراير 2021
بعد ذلك حملتَ حقيبتك ، وكيس القٌمامة ، وخرجتَ إلى المقهى . سرتَ على رجليك نصف المسافة . ثم امتطيتَ دراجتك العادية . لا يمكن أن تستمر في السير راجلا . الرصيف يحتله أصحاب الدكاكين والمقاهي والباعة المتجولين . وسماسرة السيارات المستعملة . فكرت مرة أن تقدم طلبا لعمدة المدينة بأن تخصص للمارة طائرات هليكوبتر لاجتياز بعض الممرات أو الأزقة .
وجدتَ طاولتك المفضلة فارغة . مع وباء كورونا ، تعودت على الجلوس بمفردك . كلما تقدمتَ في العمر قلّ عدد الأصدقاء . إذا فقدتَ أحدهم لا تجد من يُعوضه . تحرسكَ عناية الله ، وتعويذة (الخميسة)* . حين قررتَ وضع واحدة خلسة في رأس السلسلة التي تغلق الحقيبة ، وثانية في حمّالة المفاتيح ، اعتقدت أنها ستحميك من العين ، وتحمي المفاتيح من الضياع ، والحقيبة من السرقة .
لا تنسى أن ثلاث كاميرات خلف رأسك . اليوم لم تعد المقاهي والحانات والمطاعم والشوارع وحتى الدكاكين في حاجة إلى بصاصين ومخبرين يراقبون حركة الناس ، ويرفعون التقارير إلى من يهمهم الأمر . التكنولوجيا أصبحت تقوم بذلك ، وبشكل أدق وأفضل . من يهمهم الأمر لم يعودوا في حاجة إلى البحث عن كتب ماركس ولينين وماو تسي تونج ومهدي عامل والنشرات الخاصة بالمنظمات السرية ، لذلك إذا أردت أن تكون مزعجا ، فعليك حماية المناطق الحساسة من جسمك ، ووضع قفل عليها حتى لا تُفاجأ بصورها منتشرة في وسائط التواصل الاجتماعي ، كما حدث مع المحامي جاحظ العينين .
سيأتي النادل ، ويضع أمامك القهوة السوداء بدون سكر ، وستُخرج قارورة الماء من حقيبتك والنظارات والهاتف ، وتضعهم فوق الطاولة . كورونا أعفاك من عادة قديمة أدمنتَ عليها مثل ما يُدمن البعض على تناول المخدرات . وساعدك الشيخ جوجل على التخلص من الجرائد الورقية . ما عدا ذلك ، كل شيء بقي على حاله .
ماذا لو فتحتَ قناة ، وصوّرتَ روتينك اليومي مثل ما تفعل بعض النساء بمفردهن ، أو مع رفقة ؟ أنت لن تدخل إلى المطبخ وغرفة النوم والصالون ، تتبع امرأة مثل الكلب ، لا يعرف أحد إن كانت زوجتك أو أختك أو صديقتك ، وتأخذ صورا لمؤخرتها . ولا تملك بضاعة يمكن أن تشُدّ الناس ، وترفع نسبة المشاهدة في (اليوتيب) أو (الانستغرام) .
افتح الهاتف ، وانظر إلى أحد المؤرخين والمفكرين الكبار ، وهو يُلقي درسا افتتاحيا في مؤسسة علمية مشهورة . لا يتعدى عدد الميكروفونات الموضوعة أمامه ثلاثة . وقد تكون للطلاب أو لإدارة المؤسسة ، وانزل إلى أسفل الفيديو ودقّق في نسبة المشاهدة والإعجاب والتعليقات . لا بد أن تخجل إذا انتقلت إلى قناة (أمي نعيمة)* ، وهي تجلس بجانب مدخل حديقة تتناول (رايبي)* ، وتستغل بذكاء مظهر الأم القروية ، وتُقلّد لكنتها البدوية . تتحدث عن كل شيء ، ولا تقول أي شيء ، يُمكن أن يُفيد الناس . تُقدم رأيها حول كورونا ، والخز يعلو أسنانها الأمامية ، وتنفي كيفما اتفق وجود الوباء الذي أخذ أرواح العديد من الناس ، ومنهم بعض أصدقائك ، وتستشهد بأولياء الله الصالحين . ويتفاعل معها عشرات الآلاف من المعجبين والمعجبات . وتظهر في فيديو آخر ، وقد خضعت لعملية تجميل ، ترتدي سروالا ومعطفا صوفيا ، وقصة شعر فوق الكتفين جعلت وجهها أكثر إشراقا . تُصرّح بأنها تربح دخلا شهريا يفوق أو يعادل أجر وزير . وتنفي بأنها دعت الله بأن يُصيب السرطان أصابع من يضع علامة عدم الإعجاب على ما تنشره من أوساخ كما ادعى خصومها ، الذين اتهموها بالإساءة إلى مرضى السرطان ، وتؤكد بأنهم بدافع الحسد ، يرغبون فقط في تحطيمها ، وسرقة جمهورها .
سألتَ نفسك :
ـ يا أخي !
ـ لا أحب أن تناديني بهذه الصفة ! فأنا لست أخاك !
ـ من تعتقد نفسك ؟ أنت مجرد عجين ! ألعب به كما أشاء ، وأصنع منه ما أريد ! حسنا لن أدعوك بهذه الصفة ، ولا باسمك الشخصي حتى يتعرف عليك الناس . سأتنازل هذه المرة لتطييب خاطرك . هل تعجبك صفة يا فلان ؟
ـ ها نحن عدنا إلى الخصام من جديد . سيدي أنت تتوهم أنك تعرف كل شيء عني ، وتتحدث عما أقوم به كأنك أنت أنا ! تأكد بأنك واهم ! ولا تعرف شيئا إلا ما أسمح لك أنا بمعرفته !
كل يوم تكررُ نفس ما فعلته بالأمس . تشربُ القهوة من غير سُكّر ، تفتحُ الهاتف ، تقرأُ الأخبار ، تطّلعُ على أسعار الخضر والفواكه ، وتشكو من ارتفاعها ، ولا تذهب إلى السوق لاقتنائها . الكاميرات الثلاث خلف رأسك لا تعلم بأنه لو تعلق الأمر بشخصك لدعوتَ الناس إلى الاستغناء عن أشياء كثيرة ، مثل الغاز وزيت المائدة والبطاطس ، واللحوم الحمراء ، وقناة أمي نعيمة ، ورقصة (الطراكس)* . لم تنس أنك مثل الموظف الذي خاطب صديقا له في الحانة ، وقال بأنه لا يتوفر إلا على رئة واحدة ، عكس البعض الذي يتنفس من رئتين ، وهو يقصد بالرئة الراتب الشهري .
فكرت أكثر من مرة في تنظيم وقت معين ، تجلس فيه تقرأ أو تكتب ، لكنك لم تنجح في التنفيذ ، لسبب بسيط هو أن حياتك تسودها الفوضى . تُقرّر وأنت خارج من البيت ، أنك ستأخذ سيارة أجرة ، وستذهب إلى المدينة القديمة . اشتقت أن تسير تائها في أسواقها العتيقة . يشدّك حنين جارف لتُكحل عينيك بسحر الألوان ، وتشمّ رائحة التراب التي تفوح من جدران الأزقة والدروب . تمر سيارة أجرة فارغة بالقرب منك . لا تُلوّح لها بيدك ، ولا تُنادي على السائق . تلتفت ثم تُغيّر رأيك ، وتذهب دون تعرف إلى أين ! تمرّ بجانب متجر (ديكاتلون) ، ولا تشعر حتى تجد نفسك في الداخل ، تتجول بين أجنحته . تقتني حذاء رياضيا بلا جوارب ، وأنت تكره الرياضة ، وتقول بأنها تعمل لك حساسية في الروح ، وكأنك تتعمد الخلط بين الجلد والروح والجوارب .
المهم مرّ وقتٌ طويل ، وأصبح من سابع المستحيلات أن تتعود على حياة جديدة ومُنتظمة ، تخضع للعقل والتنظيم ، كأن تتناول الطعام في وقت محدد ، وتنام وتستيقظ في وقت محدد ، وتضع برنامجا لما ستعمله في اليوم والأسبوع والشهر ، وتتقيد به ، وتكذب أيضا بانتظام مثل بعض السياسيين ، وفقهاء (النيت)* .
لقد أصبحت مثل ذلك الراعي الذي اشترى سيارة من أوروبا ، وبدل أن يجتاز امتحانا في قانون السير ، ويحصل على رخصة سياقة ، ويسافر في طريق واضح ومعبد ، وضعها فوق الجمل ، ولم يحدد الهدف الذي سيرحل إليه ، فتاهَ في الصحراء .
قد لا تكون مسئولا عن هذا الوضع . جميل أنك لم ترضعَ من حليب الصيدليات . يحسدونك ويقولون بأن حليب أمك صحّي ، ويقوّي العاطفة والمناعة ، والارتباط بالأسرة ، والموت من أجلها . ولولاه لفتكت بك المجاعات والأوبئة التي توالت على البلاد والعباد . ووجدت نفسك معلقا بين الحياة والموت في أحد مستشفيات المدينة التي تُشبه المقابر . المشكل هو أنك ترضع بغير انتظام . كلما صرختَ أو بكيتَ ، فأنت جائع ، ولا بد من إغلاق فمك ، وإلهائه بمصّ ثدي أمك . لا أحد يعلم إن كنت مصابا بمرض غير الطبيب . والطبيب بينك وبينه سبع سماوات . يكفي أن حرارة جسمك عادية ، إذن فأنت جوعان . أمك المسكينة مشغولة طيلة اليوم . يجب أن تعجن ، وتهيئ الفطور ، وطعام الغذاء والعشاء ، وتغسل الأواني والثياب ، وتنشر القمح وتنقيه . وترضعك بين هذا وذاك ، ثم تحملك على ظهرها ، وتشدّك بإزار ، فتشعر بالدفء وتنام . لا بد أن تنام أطول فترة ممكنة في النهار ، وبالتالي ستستيقظ أطول فترة ممكنة في الليل .
إذن أنتَ رضعتَ حُبّ الفوضى والنوم مع حليب أمك ، ولذلك يكره عقلك الباطن النظام والضوء وأحكام العقل والقانون . تعوّدتَ على هدم العالم الذي تقرأ عنه في الكتب قبل أن يُبنى على أرض الواقع . بمنطق ما وراءَ البحار أنت عدوُّ نفسك .
المعجم :
ـ (الخميسة) : قلادة من فضة تتخذ شكل كف اليد . يعتقد الناس أنها تعويذة تحمي من العين .
ـ (أمي نعيمة) : سيدة تتقمص دور امرأة قروية فتحت قناة في اليوتيب ، وحققت شهرة واسعة في المغرب ، تتناول أحداث الساعة ، وتعلق عليها بطريقتها الخاصة .
ـ (رايبي) : مشروب يُصنع من لبن الحليب ، ويُضاف إليه سائل أحمر ، يُحبه سكان البوادي كثيرا .
ـ (الطراكس) : اسم آلة تُستعمل في تعبيد الطرق وتزفيتها ، وأطلقه البعض كوصف لإحدى الراقصات التي تشبه هذه الآلة في حركاتها ، فتُعبّد وتُزفّت شهوة من يتابعها.
مراكش 10 فبراير 2021
