بشير أبوسن - وهذا هو جمال محمد أحمد

[أنا أجهد لأصوّر لحظاتٍ من الوقائع والتاريخ والمشاهد، يمسك بعضها برقاب بعض، لا تقف كي تنعم النظر ترى الملامح. تعدو، تكاد تخطف البصر، أوراقي تعيينني ولكنها تقعد عن أن تسير المدى كله، لأني أقحم ذاتي بين سطورها، أمسك بالذراري و الدقائق] - وجدان إفريقيا، جمال محمد أجمد (1915 - 1986م)


ليس وحده أستاذي عبد المنعم عجب الفيا مَن ينتابه هذه الشعور الذي وصَفه قائلاً:” أهرع كلما أحسستُ بالملل والرتابة إلى أحد كتبه على قلتها وصغر حجمها، أفتح الصفحات كيفما اتفق، وأقرأ، فتنتعش روحي وأصيب نشوة قل أن أجد لها مثيلا عند أي كاتب آخر”، كان يقصد جمال محمد أحمد؛ الكاتب والدبلوماسي المميز، فجمال في كتاباته الكثيرة، تحليلاته، ومطالعاته في السياسة والمجتمع وترجماته في الأدب والفنون والاجتماع ، وحكاياته للأطفال والكبار، اتّخذ أسلوبا فريدا، فريدا بكل ما تعنيه هذه الكلمة، يستطيع أن يُغمركَ بلذة فائقة بينما يحدثكَ عن مواضيع شديدة التعقيد، وينقلك من غرفتك الهادئة حيث تختلي بأحد كتبه الصغيرة، إلى غرفة اجتماعات القادة الأفارقة على بساط كلماته السحري، أو إلى نهر شبلي في الصومال أو إلى قرية في أثيوبيا أو إلى سرة شرْق على ضفة نهر النيل، ليس من كاتب يفعل ما يفعله جمال بالكلمات، شيخ من شيوخ اللغة وصعلوك من صعاليكها، يتتبعها عبر دهاليز المعاجم المظلمة حينا والمضيئة حينا آخر، ينفض عن الكلمات غبار الزمن ويعيد شحنها بطاقة لا تفنى، الكلمات ليست كلمات عند جمال، إنها صيد، وجمال فارس صيّاد، إنها مفاتيح لمغارات كنوز أبدية، إنها كائنات حية رقيقة لها روح يعشقها جمال، اسمعْه يهمس: “ وتعز الكلمات عليّ، أحنو عليها، أحجم، أقول: ماذا جنت الكلمات لتذبح. كان شقاء أدعو لك ألا تشقى به كما شقيت“.

في عباراته حميمية بالغة، في مكتبته نسخ متعددة من ‘لسان العرب’ ولكن الفصاحة عنده أمر مختلف، يعود هذا الشأن لذائقته الخاصة، أحيانا يعطي ظهره لكل ذخائر العرب اللغوية التراثية، ثم يؤثر كلمةً شائعة في أسواق امدرمان وبارا، وقرى سنار والجزيرة، وفي تلك اللحظة الشعورية فائقة الدقة، حين تجد تلك الكلمة أمامك سرعان ما تعتنقها، وتنفي قدرة كل الكلمات أن تحل محلها، آه من هذا السحر، انظرْ إليه وهو يصف صفوة شباب أفريقيا ” تشابي للنجوم وما قنعت بأمنا الأرض” ألم يأتك صوت خليل فرح وهو يشابي للنجوم وضافر الهلال، هذا هو حال الأجيال الشابة كلها، وهذا مستوى رفيع مما يُسميه الأدباء في السودان بالسودانوية، ليس تعصبا، ولكنْ إيثارا للكلمات والصور التي شكّلت وجداننا عبر تشكُّلنا الطويل والبطيء، و هكذا تُعرّف الفصاحة من جديد عبر حديثِ جمال.

وجمال في خضم نقاشاته السياسية أو الفكرية أو التاريخية أو الفنية والرجل موسوعة، تجد عنده الكلمات التي ألفتَها في طفولتك، بمذاقها ذاته الذي لا تنكره، أليفةً كملمس يديْ أمّاتنا ووجه آبائنا، عباراتُه بنات حلال، و إن كنتُ أنا معجبا بالطيب صالح فهذا أستاذ من أساتذة الطيب. اجلسْ إليه يحدثكَ عن أفريقيا المحتلة والمقاوِمة والمتحررة، عن أدبها وأساطيرها وقادتها، أو عن العرب، جاهليين وأصحاب حضارة، وعن النوبيين أهله ورفاقه، كلام من الشرق والغرب، أحاديث السماء والأرض وما بينهما، وما وصلنا أن الله علّمه الشعرَ أو القصة أو الرواية، ولكنه يعلم روح كل ذلك، يطلب الروح والشعر والإنسان، يقول في سالي فوحْمر: ” لا أعرف رابطة أقوى بين الناس من رابطة الروح، التي تعبر عنها بالشعر والقصص والأساطير” ويقول في موضع آخر من كتاب آخر “ لا أكتب علما ومعرفة، وإنما أجاهد للإمساك بتلابيب لحظات من الحس، أصورها”.

كان شاهدا على آمال الأفارقة، وظنهم بمستقبلهم، وهم يصطخبون ويرسون في ممرات القاعات الجديدة، وردهات الوزارات. في خواطره المتفرقة دوّن ما لا يُدوّن عادة، شيئا خليطا من التاريخ والفن والحُجى، عندما يُرسل جمال قلمَه، فعليك أن تنتبه جيدا، سيأخذكَ إلى ما لا يمكنك توقعه، يطير بك لبلادٍ ويحط بك في أخرى، يحدثك فينسج عالَما جميلا يلتقي فيه المتنبي والعقاد ومحمد سعيد العباسي وشكسبير وماتيس وجون ببر كلارك وسيقور وغيرهم، عوالمه متداخلة كأحلام في بطن أحلام.

وجمال جمالاتٌ إن صحّ هذا الجمعُ الطفولي، ووصفي لهذا بالطفولة أخذتُه من تعليق علي المكّ على عبارةٍ لشاعر حقيبيّ هو علي المسّاح حين قال متغزلا : “هاروتْ سحره مأخوذ من سحر عينانك” وهذه النون الأخيرة في عينانك تعود إلى عالم اللغة الحر قبل أن يأسرها النحويون، وودّ المكّ تلميذ نجيب آخر من تلاميذ جمال، وهو أشبه الناس به كلاما، أعود لقولي، جمال جمالات، فأي جمال صادفتَه ملأ عليك الأفق، كان مترجِماً بارعا ورصينا، يهرع نحوه بادل دافنسون يعرض عليه ترجمة كتابه العظيم عن أفريقيا، فنحظى ب”أفريقيا تحت أضواء جديدة”، و كاتباً يحدثك مثلا عن اجتماع الساسة الأفارقة في أديس أبابا، فتحس أنك ضيف الشرف عامها ذاك، تعرف كل شي دون أن تملّ شيئا مما تعرف، وأديباً غيورا عرف لأفريقيا أدبها ووجدانها حين حسب الناس أنها ‘بت أمبارح’ فذلل وترجم مسرحياتها، “غنوة عنزة” لجون كلارك و”أزماي” للكاتب الأثيوبي سقاي مدين وهذا من باب ضرب المثل، وقصائد وخطباً متفرقة، فتكتسب أصدقاء لا كمثلهم عبقري، وابناً بارا أنقذ أحاجي عشيرته النوبيين في وقت ضاعت آثارهم وحياتهم فيه نتيجة حب من طرف واحد للجوار الشمالي، فكتب حكايات من النوبة، وفي كتاباته لعيونه الأحباب؛ أبنائه حنان أبوي نادر، وصدق وعفوية ساحرة.

[HEADING=1]يقول عنه الطيب صالح:[/HEADING]
” جمال محمد أحمد، كان بين مثقفي الإنجليز، كأنه واحد منهم، وبين مثقفي إفريقيا كأنه واحد منهم، وكان عاشقاً للعروبة، جمع جمال كل هذه الصفات، والتي تبدو متناقضة بلا أدنى جهد أو مشقة، لأن شخصيته خالية تماماً من التوتر والعنف، وكان بمثل ما يكتب عن إفريقيا بكامل المعرفة والمحبة، يكتب كذلك عن العرب . وهذه نظرة متوازنة تكشف عن عمق التصالح الداخلي و اتساع الرؤية لديه . . وهذا هو جمال“.

جمال محمد أحمد دَيْنه في وجداننا باقٍ ما بقينا نحنّ للجمال، و نطلب السعادة، و تأسرنا اللغة، كان بسمةً أخّاذة ابتسمتها بلادنا التي لا تكذب إذا ابتسمت، ونافذةً تطل على روحنا، فاظفرْ يا صديقي بأي جمال منه تربت يداك.

بشير أبو سن.
6 سبتمر، 2020م



والآن أيها السادة، لماذا لا تقضون وقتا رائعا مع سيدي جمال.!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى