محمد السلاموني - أزمة العلوم الإنسانية

لا ليست المشكلة فى ظهور المُفكِّر أو المثقف أو الفنان... إلخ، كما أن الأمر لا يتوقف على المدى الذى يفسحه المجتمع لهذا الظهور...
الأمر أكثر تعقيدا من هذا التصور التبسيطى بكثير...
جرت العادة على أن نتناول تلك الظاهرة بالنظر إليها "جدليا"؛ أى بماهى اعتماد أو تفاعل متبادل بين المجتمع والمشروع الثقافى أو الجمالى الذى جاء به هذا "المفكر أو الفنان"، على مرجعية سياق تاريخى معيَّن... وهو ما يمثِّل معه المشروع الثقافى أو الجمالى نوعا من الإشباع لحاجة إجتماعية ما أو التوافق على تصور ما لحل إشكالية ما... وهكذا.
هذا التصور الذى قال به "فيكو- قبل ماركس"، تحول مع الوقت إلى "قانون" أو قل "حقيقة" متفق عليها بين الجميع تقريبا... ومع ذلك، فتلك النظرية التى ترى أن إفساح المجال الإجتماعى هو الشرط اللازم لظهور شئ ما، تبالغ كثيرا فى المطابقة بين العقل الفردى والعقل الإجتماعى ، نظرا لأنها تتأسس- بوعى أو بدون وعى- على افتراض وجود مطابقة أخرى بين "العقل والتاريخ".
يبدو أننا جميعا نتناول الظواهر على هذا النحو، إنطلاقا من قاعدة تقول بـ "استحالة وجود شئ من لا شئ".
وهو ما يضعنا أمام "مبدأ العِلَّة" أو ما يُعرَف بقانون "السبَبِيَّة: إذ لكل شئ سبب"؛ وهو ما تحول بعد ذلك- تبعا للمغالاة العقلانية- إلى "مبدأ الحتميَّة التاريخية"...
ككقاعدة عامة، يمكن النظر إلى تلك النوعية من النظريات على أنها تتأسس على استبطان الإرث اللاهوتى، فى الوقت الذى تستبدل فيه الصياغة اللغوية الحداثية بالصياغة اللغوية اللاهوتية... وهو ما وضع "الحداثية" نفسها فى مأزق يشى بتأسيساتها الميتافيزيقية".
الفكرة هنا تتلخص فى أن المبدأ الأبستمولوجى الذى صاغه "ديفيد هيوم"، القائل بأن "كل ما له مقدار ويمكن قياسه هو موضوع للعلم"، تم تعميمه على كل شئ، وسحبه من "الطبيعة" إلى "الثقافة"- يذهب "رورتى" إلى أن "هيجل" هو الذى تسَبَّب فى ارتداد الفلسفة إلى تلك الإشكالية، بعد الشوط الكبير الذى قطعه الأبستمولوجيون بهذا الصدد، وأضيف، وهى الإشكالية نفسها التى انتقلت إلى الماركسية، ومعها الفكر الإجتماعى برمته.
هذا كله- وغيره كثير- يضع ما يسمَّى بـ "أزمة العلوم الإنسانية" فى مأزق أكثر تعقيدا مما يتصور أحد، وهو ما أشار إليه "فوكو" فى "الكلمات والأشياء" .
// ما يعنينى مما سبق :
هو أن الظواهر السوسيو ثقافية برمتها، وعلى الرغم من استحالة تناولها بمنأى عن الأيديولوجيا- فوفقا لـ "مافيزولى"، طالما أن الباحث الإجتماعى جزء من الظاهرة الإجتماعية التى يتناولها بالبحث، فمن الطبيعى تماما أن يتداخل معها بوصفه ذاتا مؤدلجة .
وهو ما يضعنا أمام حقيقة أن "العلوم الإجتماعية والإنسانية" تمثِّل مجالا واسعا للصراعات الأيديولوجية... وهو ما يعنى أيضا أن المذاهب العديدة والمختلفة التى تناولت تلك الظواهر، تدُل على "القائمين بالبحوث" أكثر مما تدل على "الظواهر" نفسها.
وبذا يظل السؤال قائما:
[ظهور المُفكِّر أو المثقف أو الفنان... إلخ، هل يتوقف حقا على المدى الذى يفسحه المجتمع لهذا الظهور؟.] .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى