خالد جهاد - عطر يحتل الذاكرة

لا تقاس الأمور بوجودها المادي بل تقدر بأثرها المعنوي وقيمتها الوجدانية التي تزداد بمرور الزمن، فتختلف من شخص لآخر حسب اهتماماته وارتباطه ببيئته وثقافته الأم حتى في أبسط الأمور، وفي الطفولة تكون حواسنا جاهزةً لإلتقاط كل ما يحيط بنا من مشاهد وتفاصيل بكل مافينا من مشاعر نملأ بها صفحات أرواحنا البيضاء التواقة لما يلامسها بحنانٍ وأمومة، كتلك التفاصيل التي تحمل لمسات أوطاننا وقد لا نلقي بالاً لكنها تصنع أيامنا فتصبغها بلونها وتحدد هواها ومزاجها العاطفي فتضع عليها بصمتها التي لا يشبهها بصمةٌ أخرى...

وعندما نتذكر رائحة منازلنا ورائحة المؤن التي كانت تفوح منها كنا نشعر بشعورٍ جميل لا نعرف كيف نفسره لكننا اليوم نستطيع أن نربطه بمشاعر الدفىء والألفة والحميمية والأمان، دون أن نعرف أن لكلٍ من هذه الأشياء الصغيرة قصةٌ طويلة تحكي إرثاً فريداً تحول إلى هدايا يحملها القادمون من بلادنا إلى أقاربهم أين ما ذهبوا مع بعض الحبوب والأعشاب المحلية والزعتر والجبن وزيت الزيتون والمرامية والتي يسميها البعض بالمريمية أو القصعين، والتي كانت تختلط روائحها معاً لتصنع عطراً لا يزول من القلب..

وكان الصابون أحد هذه الأشياء التي نحملها معنا وتشتهر به عدة مدنٍ عربية منها مدينة نابلس الفلسطينية وهي توأم العاصمة السورية دمشق، فكان الصابون النابلسي المصنوع من زيت الزيتون والذي كان موجودا ً في الكثير من الدول العربية ذا أهميةٍ خاصة، لكننا لا نستطيع أن لا نتحدث عن حلب أيضاً وهي المدينة التي تشتهر بمنتجاتها على نطاقٍ عالمي وتشتهر أيضاً بالصابون الحلبي المصنوع من زيت الزيتون ولكنه يمتاز بإضافة الزيت المستخرج من ورق الغار، ويعود تاريخ صناعة الصابون سواء ً في نابلس أو حلب إلى مايقارب ٢٠٠٠ عام وفقاً للعديد من المصادر وليس فقط من مصدرٍ واحد، كما أن مدينة طرابلس اللبنانية تشتهر أيضاً بصناعة الصابون منذ أكثر من ألف عام ويوجد بها خان الصابون وقرية بدر حسون الخاصة بتصنيع الصابون ومنتجاته وتوارثتها عائلته منذ أكثر من ٤٨٠ عام والتي تحولت فيها صناعة الصابون إلى شغفٍ متوارث، كما يوجد أيضاً ‏متحف الصابون في مدينة صيدا اللبنانية وهو من المعالم الوحيدة في لبنان التي تروى كيف تتم صناعة الصابون قديمًا و حديثاً ومازال المتحف يحتفظ ب ثياب الصّبّانين وفيه صابون من حلب و طرابلس و بعض الفخار القديم، وهذا المتحف أنشئه السيد ريمون عودة وهو أيضاً مؤسس بنك عودة في لبنان وهو من أصل فلسطيني، فاشتراه الإخوة ريمون وشكري وحنا من آل حمود عام ١٨٨٠ وبعدما حظي هذا المعمل بشهرةٍ كبيرة وأضيفت طبقتان فوقه لسكن العائلة، فبات يطلق على (المحلة) اسم (حارة عودة) المكونة من معمل الصابون القديم وبيت عائلة عودة، إلى جانب منازل خاصة بالمدينة القديمة بنيت في مراحل مختلفة وهي تعكس بالتالي التنوع المعماري المميز لمدينة صيدا، فتحول بيت العائلة ومعمل الصابون الى متحفٍ يروي تاريخ صناعة الصابون الحرفي وتقنياتها في منطقة المشرق من حلب الى نابلس، والذي ترويه مديرة المتحف السيدة كارول عازار قائلةً: ( ان انتاج الصابون التقليدي عرف منذ قرون في لبنان وسورية وفلسطين، ولا يزال قائماً حتى يومنا هذا، وغالباً ما تقع معامل الصابون قرب مناطق زراعة الزيتون سواءاً كان على الساحل ام في داخل البلاد ولعل اهم مراكز هذه الصناعة هي حلب في سورية، طرابلس وصيدا في لبنان، ونابلس في فلسطين، وكانت هذه المدن تستعمل المواد الأولية نفسها تقريباً وهي (زيت الزيتون، العنصر القلوي او الرماد، الكلس المخمد، الماء، والمعطر غالبا ما يكون الغار، والنطرون الذي يعرفه العامة بالقطرون)، وكان لكلٍ منها تركيبتها الخاصة، فمدينة نابلس قام اقتصادها وشهرتها على صناعة الصابون بشكلٍ خاص في القرن الثامن عشر إلى جانب مكانتها التجارية والتاريخية، وكان ينقل الى مصر ودمشق والحجاز حتى أن (الصابون النابلسي) كان دليلاً على علامة الجودة..

كما لا تزال في حلب هناك عائلاتٌ تحافظ على هذه الصناعة التقليدية مثل ( آل زنابيلي وجبيلي ومقيد وفنسا)، أما طرابلس فكان أساس تجارتها مع بقية ولايات الإمبراطورية العثمانية يقوم في القرنين الخامس عشر والسادس عشر على الصابون المحلي وحرير الجبل، وفي القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت طرابلس تصدر الصابون والرماد الذي كان يؤتى به من السهب في صحراء حماة وحمص على ظهور الجمال، وتستعمل مجموعةً من المعطرات في صناعة الصابون البلدي الى جانب الغار، الورد، الخزامى، القرفة، الياسمين وكبش القرنفل، وعادةً يلجأ القرويون الى تعطير ما يصنعونه من صابون بواسطة النباتات التي تنمو في محيطهم الطبيعي..

ولازال هناك العديد من العائلات سواء في حلب أو طرابلس أو صيدا أو نابلس لا زالت تواصل مسيرة أجدادها ومنها عائلة طوقان، والتي لديها (مصنع حافظ وعبدالفتاح طوقان) حيث يقوم العامل بعملية تغليف لـ ١٠٠٠ قطعة صابون تقريبا في الساعة، وتم تسجيل المصنع بشكلٍ قانوني في السجلات عام ١٩٢٩ لكنه بدأ فعلياً في العمل عام ١٨٧٢، إلى جانب (مصبنة الجمل) التي تعود ملكيتها لآل الشكعة وهما العائلتان الوحيدتان اللتان استمرتا في نابلس رغم مختلف الظروف التي شهدتها المدينة وفلسطين بشكل ٍ عام، دون أن ننسى أسماءاً محفورة في ذاكرة العرب مثل صبانة شاهين التي اشتهرت بماركة صابون (نابلسي شاهين) والتي اشترت شركة مصرية حقوق تصنيعها في مصر وباتت مرتبطة بذاكرة وذكريات المصريين كما قام عددٌ من الفنانين المصريين بالترويج لها في بداية القرن الماضي..

أما في طرابلس يعد السيد محمود شركس أشهر صانع صابون بلدي في ‎لبنان، واشتهرت عائلته بمهنتها منذ أكثر من ١٠٠ عام كما تم تدريس قصتها كجزءٍ من تراث لبنان في المدرسة، وقام بالاحتفاظ بكتب من كل المراحل المدرسية باللغتين العربية والفرنسية ووضع علامات على الصفحات التي نشرت عن عائلته وعمله..

لكن هذه اللمحة عن الصابون لا تعني الحديث عنه كحالةٍ منفردة، بل كجزءٍ من زمنٍ بأكمله كان يقيم لهذه التفاصيل وزناً عاطفياً يحتفي بها كمظهرٍ من مظاهر الإحتفال بالحياة والتراث، والتي كانت كفيلة ً بأن تبعث الدفىء بيننا رغم تواضع الإمكانات لتخلق وطناً صغيراً يذكرنا بعطر أوطاننا الحزينة مساحته أربعة جدران وقلوبٌ فهمت مقومات الحب الحقيقية فقدمته بلا حدود قبل أن ترحل إلى الصمت والنسيان..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى