أ. د. لطفي منصور - مِنْ أَخْبارِ الْفَرَزْدَقِ

الْفَرَزْدَقٌ شاعِرٌ كَبيرٌ، اسْمُهُ هَمّامُ بْنُ غالِبِ بْنِ صَعْصَعَةَ التَّمِيمٍيُّ، وَيُكَنَّى أبا فِراسٍ، وَلُقِّبَ بِالْفَرَزْدَقِ لِتَجَهُّمِ وَجْهِهِ. عاشَ في الْعَصْرِ الْأُمَوِيِّ في الْبَصْرَةِ، وَتَهاجَى مَعَ جَريرٍ، وَجُمِعَ شِعْرُهُما في كِتابٍ، وَعُرِفَ بِالنَّقائِضِ . قالُوا فيهِما: الْفَرَزْدَقُ يَنْحَتُ مِنْ صَخْرٍ، وَجَرِيرٌ يَغْرُفُ مِنْ بَحْرٍ، لِقُوَّةِ أَلْفاظِ شِعْرِ الْأَوَّلِ ، وَلِسَلاسَةِ أُسْلْوبِ الثّاني.
تَزَوَّجَ الْفَرَزْدَقُ مِنَ النَّوارِ، وَهْيَ ابْنَةُ عَمِّهِ لَحًّا عَلَى كُرْهٍ مِنْها. وَهِيَ مِنْ رَبّاتِ الْفَصاحَةِ وَالْبَلاغَةِ، وَالرَّأْيِ وَالْعَقْلِ وَالْأَدَبِ وَالشِّعْرِ. لَمْ يَسْتَوِ حالُها مَعَ الْفَرَزْدَقِ، فَاضْطُرَّ لِطَلاقِها.
قالَ أَبُو شَفْقَلٍ راوِيَةُ الْفَرَزْدَقِ: قالَ لِيَ الْفَرَزْدَقِ يَوْمًا: اِمْضِ بِنا إلى حَلَقَةِ الْحَسَنِ (هُوَ الْحَسَنُ الْبَصْري إمامُ الْأُمََةِ ت ١١٠ هج)
فَإنِّي أُريدُ أَنْ أُطَلِّقَ النَّوارَ، فَقُلْتُ: إنِّي أَخافُ عَلَيٍكَ أنْ تَتَّبِعَها نَفْسُكَ، وَيَشْهَدُ عَلَيْكَ الْحَسَنُ وَأَصْحابُهُ، فَلَمْ يَسْمَعْ، فَجِئْنَا حَتَّى وَقَفْنا عَلَى الْحَسَنِ، قالَ الْفَرَزْدَقُ: إنَّ النَّوارَ مِنِّي طالِقٌ ثَلاثًا! فَقالَ الْحَسَنُ وَأصْحابُهُ: شَهِدْنا. وَقَفَلْنا راجِعَيْنِ ، وَبَعْدَ أَيّامٍ قالَ لِيَ الْفَرَزْدَقُ: يا هَذا! إنَّ في قَلْبِي مِنَ النَّوارِ شَيْئًا،
فَقُلْتُ: قَدْ حَذَّرْتُكَ، فَقالَ: مِنَ الْوافِرِ
- نَدِمْتُ نَدامَةَ الْكُسَعِيِّ لَمّا
غَدَتْ مِنِّي مُطَلَّقَةً نَوارُ
(كُسَعُ كَزُفَر حَيٌّ مِنَ الْيَمَنْ رُماةٌ، مِنْهُمْ رامٍ مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ كَسَرَ قَوْسَه في قِصَّةٍ مَشْهورةٍ أَصْبَحَتْ مَثَلًا)
- وَكانَتْ جَنَّتِي فَخَرَجْتُ مِنْها
كَآدَمَ حِينَ أَخْرَجَهُ الضِّرارُ
(الضِّرارُ: الْعِصْيانُ وَالْمُخالَفَةُ)
- وَلَوْ أَنِّي مَلَكْتُ يَدِي وَنَفْسِي
لَكانَ عَلَيَّ لِلْقَدَرِ الْخِيارُ
(الْخِيارُ: الِاسْمُ مِنَ الِاخْتِيارِ، وَهُوَ اصْطِفاءُ خَيْرِ الْأُمورِ)
قالَ الْفَرَزْدَقُ أَيّامَ تَوْبَتِهِ وَنُسْكِهِ: مِنَ الطَّويل
- أَخافُ وَراءَ الْقَبِرِ إِنْ لَمْ يُعافِنِي
أَشَدَّ مِنَ الْقَبْرِ الْتِهابًا وَأَضْيَقا
(يُعافِنِي: يَهَبَني اللَّهُ الْعافِيَةَ. الشَّطْرُ الثّاني يعني الْجَحيمَ)
- إذا قادَني يَوْمَ الْقٍيامَةِ قائِدٌ
عَنيفٌ وَسَوّاقٌ يَسُوقُ الْفَرَزْدَقَا
- لَقَدْ خابَ مِنْ أوْلادِ آدَمَ مَنْ مَشَى
إلى النّارِ مَغْلولَ الْقِلادَةِ أَزْرَقا
(مَغْلولَ القِلادَةِ: مُقَيَّدًا بِها، وَهْيَ التي تَجْمَعُ الْيَدَ إلَى الْعُنُقِ، أزْرَقُ: أيْ لَوْنُهُ أَزْرَقُ مِنَ الْفَزَعِ والشَِدَّةِ)
- إذا شَرِبُوا فِيها الْحَمِيمَ رَأَيْتَهُمْ
يَذُوبونَ مِنْ حَرِّ الٍحَميمِ تَمَزُّقا
(الْحَمِيمُ: الصَّديدُ الَّذِي يَغْلِي)
وَلَمّا تُوُفٍّيَتِ النَّوارُ ناحُوا عَلَيْها بِشِعْرِ جَريرٍ: مِنَ البسيط
- تَرَكْتِنِي حِينَ كَفَّ الدَّهْرُ مِنْ بَصَرِي
وَحِينَ صِرْتُ كَعَظْمٍ الرُّمَّةِ الْبالي
- إلّا تَكُنْ لَكِ بِالدَّيْرَيْنِ نائِحَةٌ
فَرِبَّ باكٍيَةٍ بِالرَّمْلِ مُعْوالِ
- قَالُوا نَصيبَكَ مِنْ أَجْرٍ فَقُلْتُ لَهُمْ
كَيْفَ الْعَزاءُ وَقَدْ فارَقَتْ أشْبالِي
تُوُفِيَ الْفَرَزْدَقُ سَنَةَ (١١٠ هج)


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى