الدكتور زياد العوف - التجربة الأدبية

الأدب في أوسع معانيه هو التعبير الفنيّ عن الحياة ونقدها؛( أي التّمعّن في شتّى جوانبها في محاولة للوقوف على ما يتخللها من وقائع وأحداث ، ولتحليل تصرفات وسلوكيات وردود أفعال الناس حيال تلك الوقائع والأحداث . وهذا يقتضي من الأديب الكاتب التمكّن من أدواته التعبيريّة، وكذلك نضج التجربة الفنّية ، المستمدّ من نضج التجارب الحيويّة( الحياتية) لديه. مع ملاحظة أنّ توصيفنا هذا للأدب يتفاوت بين فنّ أدبيّ وآخر؛ إذ إنّ العنصر الاجتماعي وما يرتبط به من تتبّع وتوصيف وتحليل ونقد هو أقرب لفنّ القصّة عموماً ولفنّ الرواية على وجه الخصوص. في حين يغلب الجانب الذاتي على التجربة الشعرية، بخاصة في الشعر الغنائي الوجدانيّ منه. في هذا السياق أسوق هذه السطور من( التجربة الأدبية) لأحد روّاد فن القصّة في لبنان والوطن العربي ( توفيق يوسف عوّاد ١٩١١-١٩٨٩) .
جاء في شهادته الأدبيّة القيّمة تحت عنوان :
تجربتي الأدبيّة
غداً أصير كتاباً يا لَسعد غدي
مقلّباً بين أنفاس وأبصارِ
محبةٌ سمحة الأكتاف تطعمني
في كلّ ثانية آلافَ أعمارِ
".....................
في روايتي" الرغيف" ، في أحد فصول المجاعة التي ضربت لبنان إبّان الحرب العالميّة الأولى- وكانت جثث الموتى لا تجد من أهلهم في الغالب من يتولّى دفنها، فعيّنت البلديّات موكّلين بجمعها على محاملَ وطرحها في حفر عامة- كان( طام) يمشي في طريق الضّيعة فاستوقفه وصول المحمل بالموكّلين به إلى قنطرة، وامرأة بلا حراك في زاوية القنطرة في أسمال لها يسرح عليها القملُ، وعلى صدرها طفل عالق بثديها الميّت . يتقدّم أحد الرجلين ويرفس المرأة بقدمه: - شبعت موتاً! - والطفل ؟ - سيموت إنْ لم يكن اليوم فغداً.- هاتِهِ ، قال الأخير . وقذفاه فوق أمّهِ على المحمل . وحانت منهما التفاتة إلى( طام) فأطلق ساقيه للريح وهو يصيح :
- أنا ما متُّ ! أنا ما متُّ!
كان ذلك خريف ١٩١٨ . كنتُ في السابعة من العمر . في نعومة أظفاري، لستُ أشكّ الآن أنّ شيئاً قد نبت فيَّ فجأة في تلك اللحظة الرهيبة. أظافر أخرى طفرت في روحي قاسية ، محدّدة، هي الأظافر الزرق التي أمسكتُ بها فيما بعد بالقلم وشرعتُ بالكتابة .
أمّا القلم فكيف أنسى لقائي له وما كان بيننا من مكائد؟ واحدة لا تزال تحفر في قلبي . كانت المدرسة التي فتحت عندنا بعد الحرب قد انتقلت من تحت سنديانة( مار يوسف) بحرصاف إلى قبو ( سيّدة المعونات) في( ساقية المسك) . وذات صباح دخل الصبي- كان قد بلغ العاشرة- وما كاد يستقرّ على( بنكهِ) حتى يستوي( بونا أنطون) بجلال كرشه على المنبر ويفتح دفتراً كان يلقّننا منه علوم الدنيا والآخرة، وبتؤدة وأناقة لا عهد لنا بهما ، يمدُّ يده إلى عبّ قبائه، وكالساحر يطلع منه شيئاً عجباً: قزماً له طربوش بشرابة من ذهب، وقامة في وسطها حزام من ذهب، ثمّ إذا هو يتناول الطربوش من الرأس فيضعه على العقِبِ أو بالعكس، والصبي يفتح عينيه ولا يصدّق ما تقعانِ عليه . فكيف وقد كرج القزم العفريت على الدّفتر وكأنّ يمشي على لسانه"
لمن أراد الاطّلاع على هذه " الشهادة الأدبية" كاملة ، يمكنه الرجوع إلى :
مجلّة الآداب اللبنانية ، العدد ٣ آذار، ١٩٧٣.

دكتور زياد العوف

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى