محمد السلاموني - الحقيقة الخيالية "الروائية" والحقيقة الواقعية "السير ذاتية": نحو تأسيس فلسفى

[الروائى هو كاتب يملك واقعا داخليا حيا يحتاج التعبير عنه، ويملك كذلك القدرة على اختراع قصص مثيرة مع مسارات وتوترات مشوقة توجه القارئ نحو رسالة معينة، ولديه القدرة كذلك على أن يتخيل نفسه يخوض تجارب الآخرين، ليتمكن من خلق شخصيات واقعية سيكولوجية.].
إذن الرواية تعبر عن "حقيقة خيالية فى عقل المؤلف".
أما "السيرة الذاتية" فتعبِّر عن "حقيقة واقعية موضوعية- أحداث وقعت بالفعل".
ـــ هذا هو الفارق الجوهرى بين "الرواية والسيرة الذاتية"، كما ذهب إليه المُنَظِّرون.
ومع ذلك، ففى عالم ما بعد الحداثة، الذى سقطت فيه الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية من جهة، وغير الأدبية من جهة أخرى، لم تعد مثل تلك الفروق والإختلافات أو التمييزات قائمة، وهو ما يضعنا أمام نوع جديد من الكتابة، هى "النص"- الذى "يخوض تجربة الحدود".
النظرية "النصِّية" هنا ترتكز على تحطيم الأنساق أو الأنظمة الجمالية القديمة، التى كانت تضع خطا فاصلا بين الواقع والخيال، وتصنع لكل منهما مسارا مختلفا.
وبذا فالتداخل بين الواقع والخيال، يدفع بمنظور جديد للعالم، يرى الواقع فى الخيال والخيال فى الواقع- هذا وقد سبق لنيتشه الإشارة إلى أن "الوهم نصف الحقيقة"- وهو ما يعنى أن ما من حقيقة خالصة وما من وَهم خالص؛ النظرية هنا تقفز فوق فكرة "النقاء- الجمالى- النوعى" .
غير أن هذا التحول الجمالى يكشف بقوة عن ميل جارف لدى المتلقين فى رؤية الواقع بشكل آخر، أو بعين جمالية مختلفة عن العين المجردة، وهو ما يعد امتدادا لتفضيل الصورة على الأصل الواقعى، ذلك الميل الذى أخذ فى الظهور منذ الثورة الصناعية، كما يذهب "فيورباخ"، وتنامى مع اختراع السينما... نعم، إنه الشغف بالصورة عوضا عن الواقع، ذلك لأن الصورة الآن صارت قادرة على بلورة "الأثر"؛ أثر الواقع، أو "الإحساس المفرط بالواقع" أكثر من الواقع نفسه، من هنا صارت الصورة أكثر واقعية من الواقع، وهو ما يضعنا أمام مفهوم جديد للواقع- نحياه الآن، يقول: "ما الواقع إلاَّ الأثر المتخلف عنه"، وهو ما يصب فى "موت الواقع الحقيقى" .
هذا ويعد "تليفزيون الواقع" بأشكاله البرامجية العديدة هو النموذج المحتذى فى هذا الأمر.
/ الواقع بين الحقيقى والإصطناعى:
منظرو الواقع الإصطناعى "بودريار، ريجيس دوبريه، جى ديبور" وغيرهم، يذهبون إلى أن
"موت الواقع الحقيقى" هو الكارثة الكبرى التى نحياها الآن، لأن أحلال "أثر الواقع" محل "الواقع الحقيقى"، مع الوضع فى الإعتبار أن "الأثر الجديد يمحو الأثر القديم"، يعنى "موت الوقائع"، وهو ما يعنى "موت التاريخ" أيضا؛ بحكم كونه تتابع وقائع.
وغنى عن البيان أن هذه السلسلة المترابطة من الميتات، تضع نقطة النهاية للمعرفة الحداثية بأكملها؛ نظرا لإنبنائها على "مبدأ الواقع ومبدأ التاريخانية". وهو ما دعى "بودريار" للذهاب إلى ضرورة إعادة التأسيس الجذرى للمعرفة .
الإشكالية هنا تتعلق بموت التصور الحداثى عن المكان "الواقعى- التاريخى" الذى تقيم فيه "الحقيقة"؛ وهو المكان الجديد الذى اقترحته عوضا عن التصورات المعرفية القديمة.
ومع ذلك فهناك تناقض تجب إضاءته:
إذا كان هيجل قد ذهب إلى أن "ماهو عقلى هو واقعى وما هو واقعى هو عقلى"؛ وهو ما يعنى أن الواقع يتميز بكونه شفافا، أى بإمكانية رؤية ما وراءه، وهو ما يعنى أيضا "المطابقة بين الواقع والوعى به"، فقد انتهى الفكر الفلسفى، بدءا بنيتشه إلى أن "الواقع هو ما نتواضع عليه ثقافيا"- على حد تعبير "دوبريه"، كما أن نيتشه نفسه ذهب إلى أننا "نحيا فى المجاز- اللغوى"
، وليس فى الواقع- هكذا، رفضا منه لثنائية "الواقع/ المجاز"، وهذا هو نفسه ما جعل هيدجر يذهب إلى أن "الواقع هو ما نمسك به بوضوح من خلال اللغة"، أما "لاكان"، فقال باستحالة معرفة "الواقع" نفسه، وما نعرفه هو "الواقعى" فقط - أى "ما نعده واقعا"، وما نعده واقعا هو ما نمسك به من الواقع من خلال الوسائط ...
أعنى مما سبق أن التعريف الحداثى للواقع- الذى تبلور مع هيجل- تمكَّن نيتشه من القفز عليه
، "تحطيما للأسس الميتافيزيقية الحداثية"، ليحوِّله إلى مجرد "منظور تأويلى"...
بالعودة إلى ثنائية "الواقعى / الإصطناعى"- على مرجعية التأسيس السابق- يمكن الإنتهاء إلى أننا طوال الوقت كنا نتحدث عن "أثر الواقع" وليس عن "الواقع الموضوعى" نفسه، نظرا لإستحالة الإمساك به .
وهو ما يعنى أن المعرفة الحداثية المرتبطة بـ "الواقع والتاريخ"، تمحورت حول "أثر الواقع" فى الوعى، وليس حول "حقيقة الواقع"- وهو ما كشف عنه "ليوتار" بقوة فى حديثه عن "السرديات الكبرى"...
/ الخلاصة:
على الرغم من وضوح ما أردت الإنتهاء إليه، إلاَّ أننى أضيف فقط بأن الإشكالية التى عمد فلاسفة الواقع الإصطناعى إلى إثارتها، بقدر ما تشى بتشبثهم بالتعريف الحداثى "الميتافيزيقى" للواقع والتاريخ، إلاَّ أن إثارة تلك الإشكالية كشف لنا عن التالى:
التكاثف الشديد لظاهرة "أثر الواقع"؛ كأحد أهم نتاجات التقدم التكنولوجى الهائل... غير أن الأهم من هذا هو أن "تحولات الوعى بالواقع" تتأتى دائما من خلال تطوُّر الوسائط "التكنولوجية"؛ وهو ما يعنى أن "العقل يفكر فى الواقع من خلال الوسائط الرابطة بينهما؛ إذ ليس بإمكانه الإمساك بالواقع نفسه مباشرة".
ومن ناحية أخرى، ليست المعرفة الحداثية سوى ما أمكن للعقل الحداثى الإهتداء إليه من خلال الوسائط التى أُتيحت له فى عصره .
وهو ما يعنى، فى الأخير، أن عصرنا هذا، "المابعد حداثى"، يمثل تحولا نوعيا فى الوعى، يرتبط بقوة بما أتاحته له التطورات التكنولوجية الراهنة .



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى