بشير أبوسن - عندما اقتربَ وردي من ميكروفون الإذاعة أولَ مرة

عندما اقتربَ وردي من ميكروفون الإذاعة أولَ مرة، سرت قشعريرةٌ صغيرة في الميكرفون، انتقلَتْ بعدها لأجهزة التسجيل، لكنّ مهندس الصوت تمكّن من التحايل عليها، بعدما لم يجد لها سببا تقنيّا، ولكنها عاودت الظهور في أوتار الكمان، للحظةٍ عابرة أرخى العازف قبضةَ أصابعه عن الأوتار، وشعر بارتباكةٍ مخجِلة، عندها تراجع وردي قليلا عن الميكرفون، فعمّت الحجرةَ هدْأةٌ إلى حين.

أوقفَ شيخُ الطيور المهاجرة في ذلك اليوم رحلتَه لبعض الوقت، والْتفتَ إلى ضفائر النخل التي تركها ورائه، وبدا كأنّه يتسمّع شيئا يأتي من بعيد، فاضّطرب السربُ، ولكنّ الطائر العجوز مسترجعا كل النُبوّات التي ورثها جدّا عن جد، صاح قائلًا: لقد جاء، لقد جاء، لم يعد هناك سبب للرحيل.

عندما اقتربَ وردي من ميكروفون الإذاعة أولَ مرة، سقطتْ سيجارةُ الضابط العسكري المهاب من بين أصابعه، تعجّب: هل ترتعش يداي مثل سائر الناس، رفعها لكنّ يده ارتجفت مجددا، وأسقطت السيجارة، حمَلها مرة أخرى بيده اليسرى، ولكنها سقطت فوق حذائه اللامع، فركلها، وتعكّر مزاجه، صار كالنمر الهائج، تحسس مسدسه الصغير مرارا، وأغلق الرادي بسرعة، سبّ ولعن، وسرى الخبر خفيفا إلى الجنود في الحامية، تضاحكوا، لكنهم في قرارة أنفسهم، أحسوا بأن شيئا غريبا يحدث هذا اليوم، فبندقياتهم اليومَ غريبة بين أيديهم، كأنها تبدّلت شيئا آخر، وذهبت رائحةُ الحرب عن أنوفهم، وأحسوا كأن عهدا جديدا يتخلق في أحشاء هذا اليوم، عهدا أتى محمولا على صهوات دباباتهم، بل مرسوما على كراسات الموسيقى، وسرت فيهم رغبة العودة إلى بيوتهم والشوق إلى نسائهم.

كان منديلُ الحرير يحسّ بحب غامرٍ يأتيه من يديْ صاحبتِه، تشغل نفسَها به طول اليوم، تعده من أجل حبيب بعيد، يعرف جيدا دفء كفّيها، وتورُّد خدّيها، وذاق كثيرا شفتيها المغسولتين بماء الجمال، في تلك اللحظة من ذلك اليوم حين اقتربَ وردي من ميكروفون الإذاعة أولَ مرة، أحسّت بصوت حبيبها يأتيها على أجنحة الطير من جهة النيل حيث شباكها المفتوح بالآمال، وأنه يقبّل يديها، أجابتْه بصوتٍ مسموع أفزعَ أمها: أعرف أعرف، أعرف وفاكَ لي، وحبك الأكيد يا حبيبي.
لم يكن وردي قد صدح بأول أغنياته بعد، ولمّا يزل منتصبا أمام ميكروفون الإذاعة، كأنه واقف هناك أبدا، وكأن الوقت تباطأ حينها، أو تجمّد، يمكنك أن ترى وقفتَه واضحةً، على كفّيه آثار حشّ التمر وطين البلد وبقايا الطباشير، أصابع يده رشيقة، وصدره مملوء ببذور الأغاني، وفي عروقه تركض الأغنياتُ مذ كانت همهماتٍ في معابد أهله القديمة، وعلى وجهه بريق الفن الأخّاذ، طويلا ونحيفا، عبّه مليان بالألحان، وعيناه تنظران للبعيد، على وجهه ملامح قريته الوادعة، حكاوي حبوباته، الاغتسال في النهر المقدس، وآثار العشق المختلَس، لحظَتَها ما زالت “يا طير يا طاير” نفَساً يتكوّن في بطنه وصدره، لم يسمعه أحد بعد، لكنّ كل شي كان واضحا، كانت الأشجار هادئة، والنهر يعرف ما سيفعله جناه تماما، علّمه السباحة والغناء، كان وردي تلميذَ كل شي، و معلّم كل الأشياء، وعندما تحول النفَسُ في بطنه إلى غناءٍ عذْب ورقيق، فيه استرسال النهر في تعرّجاته وامتداده، ووضوح الصحراء الممتدة خلف البيوت، وبهاء النخيل، ووقار الجبال، ودفء العشيرة، كان العازفون ينظرون إليه يرون ما لا يعرفون معناه، كان حالةً لم تُعهد من قبل، وكان التاريخ يعلم أنها لحظة من تلك اللحظات النوادر، حيث يصير البَعد لا كالقَبل، سيغنّي هذا الشاب على أكثر من أرض، في الشرق والغرب، الجنوب والشمال، في ظلام السجنِ وفي الحدائق والمنافي والمتاحف، وبيوت الأفراح، فعَل بالغناء ما لم يفعله الغناء بالأفئدة.

ها هو ذا تخافه الجنرالات ويلهم العشاق، كان غناؤه لأمّة طويلة وعريضة، ليست بنت اليوم ولا بنت البارحة، المغنون قبله كان يمهّدون الدرب لصوته، والآتون من بعده منجذبون إليه، ومعلَّقون بصوته، وصوته كان خلاصة الخلاصة، جمع الحسن كله، كانت موسيقاه تغسل الناس بالأحلام، وتغسل البلادَ من درَن الحروب، وتعيد للنيل اطمئنانَه القديم، وتكسِب العشقَ حرقتَه اللذيذة، وتُشعل الحقولَ ورداً وثمارا وأماني، كانت وقفتُه أمامَ العازفين درساً في الفن والتاريخ والسياسة والانتربلوجيا. ها هو ذا، قريبا من ميكروفون الإذاعة، مغنيا مَجيدا، وما المغنون بأماجد في العادة، ربما يكونون مطربين، لكن العظمة والمجد اختصّ بهما محمد وردي، كان يغني في مهابة ورقة، وشجاعة وطمأنينة، يقدل في المسارح كأنه يشرح درسا، يقلب صوته كما كان يقلب جسده في النهر، وصار الناس بعده يقولون إنهم من بلادٍ يهيم فيها النهر الخالد، ويغني من أجلها محمد وردي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى