ميشيل سعادة - "تَحتَ قَنَاطِر خَلِيل حَاوِي".. ثَلاثُون عَلَى غِيَابِه ..

أَجيئُكم هَذِي العشِية ، من بيتِ الذَّاكرةِ ، من بيتٍ دَافِئٍ دَافِقٍ . وأعرفُ أنَّ الذَّاكرةَ ، بعامَّةٍ ، تحملُ في ثناياها ذكرياتٍ ، منها يضمحِلُّ ، يتلاشى ، وقد يموت ، إن هي لم تكن ذاتَ قيمةٍ تُذكرُ ، ومنها ما يقعُ في حقلٍ خَصبٍ ، إذا كان هذا الآخَرُ ، صاحبُها ذا فضلٍ وأهميَّة . عندها ، رأيتُ الى هذه الذكرياتِ تَتَنَامى كأغصانِ شَجرَةٍ ، وتبقى في البالِ مادةًحاضرةً ، مُثقلةً بالثِّمار ، فكيف بالأحرى اذا كان هذا الآخَرُ استاذًا ، مربيًا وشاعرًا شكَّل علامةً فارقة ، وما تزال مميزةً متمايزةً ، إن في حقلِ التعليم الجامعي ، أو في الشِّعر الحديث ، عنيت
الدكتورخليل حاوي .
🍀
تتلمذت على يديه في فترة ذهبية ، امتدت من العام 1968 ، وحتى العام 1972 ، حيث كان يُملي علينا محاضراتٍ تناول فيها تاريخ النقد الأدبي ، شرقًا وغربًا في كلية التربية/ الجامعة اللبنانية.
🍀
كنتُ ورفاقي في الجامعة ننتظرُ
محاضراته بفارغِ الصبر . وهنا أسجِّلُ ظاهرةً لافتةً هي ان لا غياب يُذكر عن تلك المحاضرات ، مهما كانتِ الظروف ، ومهما تعددت الأسباب ، لأن الآتي استاذٌ عَلَمٌ من أعلامِ الفكر والأدب والشعر .
إنه الخليل ، انسانٌ قاسٍ ، صلبٌ ، ومحبٌّ بمقدارِ قساوته ، عطوفٌ ،
وفيٌّ ، مخلصٌ ، همُّه الأوحد أن يجعل من طلابه رسلًا للكلمة ، وأصحابَ حقٍّ في الدفاع عن تراث وحضارةِ الأمة العربية ، بهدف ان تتعافى . هو الذي انتمى اليها ، ودافع عنها بفخرٍ واعتزازٍ ، في شعره المتوهِّجِ ابدًا .
قل : هو هذي النارُ تُحرِقُ بلهبها
الهشيم ، لزرعٍ يعلو صافيًا صفاءَ ماءِ النبع في أسفُلِ الجبل .حالهُ حالُ شاعرٍ يثقُ بعبقريته ، يمتلكه هَوَسٌ يَدفعُه الى أَن ينذرَ ذاتَه للشِّعر ، ويُنفِقَ عليه نبضاتِ حسِّهِ ، فكرَهُ ووجدانَهُ . ربَّما جاز أن يُعَدَّ مُغالاةً في الهَوسِ ، ظنُّهُ أن مَهماتِ الشَّاعر لا تعدو صراعَها في سبيل ما يضمنُ لشعره ولادةً مُتعافيةً، وتكوينًا كاملًا ، وسواءٌ لديه ، بعد ذلك ، أن يُطوى الشِّعرُ ، أو يُنشرَ ويُذاعَ . لهذا ظلَّ الجُمهورُ يجهلُ ما يعرفُه خاصَّةُ أصدقائِهِ من صَفوةِ شعرِه . ومن المعروف عن الشعراءِ أنَّ رغبتَهم في الخَلقِ تنطوي ، ضِمنًا ، على رغبةٍ في التَّبليغِ ، والمشاركة العامة . هذا ، وقد فات الشاعرَ انه في بلدٍ يندرُ ان يشيعَ فيه شعرُهُ ، ويُنفِقَ ما لم يتوسَّلْ صاحبُهُ بالمشروعِ وغيرِ المشروعِ من أسبابِ الدِّعاية .
🍀
إمتصَّ الشِّعرُ خليلًا ، واستأثرَ
بكيانهِ كلِّهِ ، فكيف ينجحُ في عملٍ
يقعُ خارجَ نطاقِ الشِّعرِ ؟
نفذَ الخليلُ الى أعماقِ المأساةِ
التي يُعانيها الشَّاعرُ ، وتعبَّد لفنِّهِ ، فمثَّلهُ بطائِر الألبتروس ، طائِرٍ يسودُ الأعالي في طيرانه ، ولكنه يَعجِزُ عن السَّيرِ على الأرضِ ، يُعيقُهُ جَناحاهُ الكبيران .
🍀
كفى الخليلُ أن يكون شهمَ اليدِ ،
غيرَ انَّ ضيقَ العيشِ الذي راح يُعاني جَحيمَه كان عميمَ النِّعمةِ على شعرِه ، ألهبَ عبقريتَهُ ، فتوهَّجت وتفجَّرت بنتاجٍ عظيمٍ ، لعلَّهُ أعظمُ نتاجٍ أنجَزَهُ . كذلك يبدو أن معاناتَهُ الجحيمَ أكسبته صلابةً رواقيَّةً يَهونُ لديها البُّؤسُ والصَّبرُ على تفاهةِ العمل اليدويّ ، وأن حكمةً أشرقت عليه ، فجعلته يقدرُ على ان يفصلَ ويوفِّقَ في ذاته ما بين العامل الذي يكدحُ ، والشاعرِ الذي يُبدِعُ ، بين استعباد يدِهِ ، وحريُّةِ خياله الخلَّاق .
هذه الذات العادية المألوفة التي اكتسبها الشاعرُ ، ليست سوى دِرعٍ ، قناعٍ ، صَدَفةٍ يحمي بها ذاتَهُ الكبرى ، ذاتَ الشاعرِ الذي لا يُجيدُ غيرَ الشِّعرِ ، ولا يحفلُ إلا بالشِّعر .
🍀
إستهلَّ الشَّاعرُ حياتَهُ الشِّعريَّةَ
بالتعبير عن حالِ البراءةِ الأولى التي يعمُرُها حُبٌّ لا يُنغِّصُ غبطتَه حِسٌّ بالخطيئةِ ، أو توتُّرٌ بين مَنازعِ النفس والجَسدِ . وكان الحُبُّ يفيضُ ويتَّسعُ حتى يعُمَّ أشياءَ الطبيعةِ ، فتُصبحَ صلة الشَّاعر بها صلةَ اتِّحادٍ وانسجامٍ .
هذا ، ويبدو أن الشعرَ ، في تعبيره ان حالِ البراءةِ ، يستحيلُ الى غناءٍ صِرفٍ يٍرسلُهُ الشاعرُ على السَّجيَّةِ . فما يحتفل بنشوةٍ وراءَ نشوتِهِ بالغناء .
غير ان الدوامَ ليس من طبيعةِ
حالٍ تُماثلُ حالَ الإنسانِ الأولِ في الجنة . كان يكفيه ان يتقدَّم في العمر ، ويبلوَ التجاربَ ، حتى يتأكَّدَ ان واقع الإنسانِ في حضارةِ عصرِنا ، وفي حضاراتِ العصورِ جميعِها ، ينحطُّ عن حالِ البراءةِ ، يُعارضُها ، ويُحاولُ ان يُبدِّيها حالَ توهُّمٍ ساذَجٍ ، ومثاليةٍ خاوية . هل يتخلَّى الشاعرُ عن حاله الأولى ، ويغوصُ في الواقعِ ، أم يتمسَّكُ بها ، ويرفضُ الواقعَ ، ويثورُ عليه ؟
🍀
كانت أزمةُ صراعٍ عنيفٍ تمحَّت فيها الحدودُ ، وتعدَّدت الأبعاد ، واتَّحد ما هو ذاتي ، بما هو قومي ، إنسانيّ وكونيّ . وكان للرُّؤَى التي تفجَّر عنها الصراعُ الأبعادُ نفسُها ، فيما تهدف اليه من رفضٍ وثورةٍ ونِعمةِ خلاص .
صهرت تلك الأزمةُ شاعرنَا ، واعتصرت طاقاتِه ، فأحالته الى شاعر الرُّؤى النبويّة ، يصبُّ غضبَه المُدمِّرَ على ما في الحضارةِ من تحجُّرٍ وتعقيدٍ وفسادٍ ، ويطربُ لتهكمه الذي يهدم مفارقاتِها المُضحكة ، المُفجعة . انه مجالٌ بلغ فيه الى حيث لم يبلغْ جبران في "عواصفه" ، وأبو شبكة في " أفاعي الفردوس " ، أو أي شاعرٍ آخَرَ في شعرنا الحديث .
غير ان الحُبَّ في حالِ البراءةِ يظلُّ الدافعَ والغاية لغضبه وتهكمه ، يحاول بهما ان يُزيلَ من الحضارةِ ما يُعيقُ الحُبَّ عن التجسد فيها . لذلك كانت رؤاهُ تنبعُ من الواقعِ وتتجه اليه ، تُنير خفاياهُ ، وتسبرُ أعماقَه ، فتستمدُّ صفةَ الإدراكِ الذي يُوليها القدرةَ على تغييره وتوجيهه .
🍀
إن الصفاءَ في شعر استاذي
خليل حاوي سِمِةُ الطبعِ في التعبير عن حال البراءةِ الصافية . وفي نتاجه الشعريّ العظيم ، أرى اليه ينزعُ به الى شمولٍ يحيط بالحياةِ وما فيها من ذرى مُشرقةٍ وأغوارٍ مُظلمة ، وما يمتدُّ ويتدرّجُ بينهما من تداخلِ الإشراقِ والظلمة . لذا ، كان على التعبير ان ينهضَ الى المستوى نفسِهِ ، فيستغلَّ الشاعرُ طاقاتِ اللغةِ وعناصرَها جميعًا . لكنه ، حين يستغلُّ تلك العناصرَ يشحنُها بالرُّؤى المتوهجةِ التي تصهرها فتشفٍّ وتتوهَّجُ . وفي الشعر الذي يتولَّدُ عنِ الرُّؤى ، وينمُو ويكتملُ بنموِّها واكتمالها ، تكون الوحدةُ عضويَّةً يستحيلُ التفريق فيه بين تعبيرٍ ومضمون .
🍀
لقد أضاف استاذي الخليل الى الشعر العربيّ نتاجًا عظيمًا ، عمارةً متكاملةً ، وصخرةً سوف يُبنى عليها عماراتٌ تتكاملُ جيلًا بعد جيل .
وفي هذه العُجالة ، وبعد هذه
الإستفاضةالتي تناولت فيها سيرته الشعرية الإبداعية ، أعود اليكم حاملًا ضُمَّةً من ذكرياتٍ ، وإن بسيطة وعفوية ، تُومئُ الى نتاجه الشعريِّ ، وتدلُّ على إبداعاته في المجال النقديّ ، وهو العليم بمذاهبِ النقد العربيّ والغربيّ .
🍀
في إحدى محاضراته في العام
الجامعيّ 1971/1972 ، وتحديدًا يوم الثلاثاء الموافق 9/5/1972 َ كانت إحدى الطالبات "منتهى موَّاس " تجلس قربي ، تتلهَّى ولا تعيره اهتمامًا هو الذي يتطلب جهدًا وجديَّةً كبيرين توقف عن الكلام ، وقال متوجهًا لها :
" ليس هناك روما اخرى ، يا مولاتي ، كي أحرقَها لأجلك " ..
كانت هذه العبارة كفيلةً بأن تعيد
الى محاضرته جوًّا من الهيبة والحيوية اللتين تستوجبهما العلاقة الصحيحة بين المرسل والمتلقي كي يكون للمرسَلة ان تفعل فعلها وتؤدي الغاية المتوخاة .
في العام الجامعي ذاته 1971/1972 ، والى كونه استاذًا في مِلاكِ الجامعة الأميركية ، طلب من ادارة هذه الجامعة مُسبَّقًا ان تسمحَ له بالتعاقد مع كلية التربية / الجامعة اللبنانية ، رُفض طلبه فاستاء جدًّا ، وما كان منه الا ان حضر الى كلية التربية وأعطانا مقررات سنة جامعية كاملة ، دون اي مردودٍ ماليٍّ . ما زلت اذكر كلامه لنا في اول لقاءٍ معه . قال :
" آتي الى الجامعة اللبنانية بحسٍّ وطنيٍّ ، وليس لما اتقاضى من مال ، فالجامعة الأميركية تقاضيني .
🍀
أنهينا ذلك العام الجامعي مشكورين ،وكانت منا لفتةٌ ان دعوناه الى مأدبة عشاء في مقهىالغلاييني / محلّة الروشة ، تكريمًا لعطائِه ، ووفاءً منا لتفانيه وإخلاصه تجاه طلاب الجامعة اللبنانية /الأم .
شاركنا ذلك العشاء أساتذتنا أذكر
منهم الدكاترة انطون غطاس كرم ، أحمد ابو حاقة رئيس قسم اللغة العربية وآدابها ، أدونيس ، كمال اليازجي ، وآخرون . في هذه المناسبة الكريمة أنشد الطالب موريس الهاشم قصيدة من خمسة أبيات ،
جاء فيها :
" أبكي وأضحك لا شجوًا ولا طربا
وأشربُ الكأسَ جمرًا كان أم لهبا
قُل للخليلِ حبست الطلَّ أرشفُهُ
والبحرُ في الطلِّ قبل اليوم ما شُربا
أستاذيَ ، اليومَ قلبي لا يفارقني
وكان من قبل عني طالما ذهبا
في حضرةِ الله ما صوتي يدغدغني
وما رمادي إذا قطّرته عنبا
أتُسكر الكأسُ أم في الكأسِ سكرتُه
فأطيبُ الخمرِ ما من شعره سُكبا "
سُرَّ الخليل حين سَماعِه ، لكن
أستاذنا أحمد ابو حاقة غمز من قناته قائلًا :
" جاوب يا خليل ، ولكن عموديا "
أجاب الخليل :
" أنت تعرف رأيي ، وطلابي
هم أكثر العارفين بي " ..
طالت تلك السهرة ، ولما كان استاذنا يطرب للغناء ، ويعرف ان الطالبة عايدة حداد تتميز بصوت فيروزي وأم كلثومي ، طلب اليها متمنيا ان تُنشدَ أغنيةً مُحبَّبةً الى قلبه ، مطلعُها :
" وينك يا خيَّال نزالْ
وخلِّي السَّيف يشرقط نارْ
خيالك بيوقِّع خِيَّالْ
حصانَك تلَّا السَّاحة غبارْ "
🍀
هكذا ، كان له ما أراد ، وما
زلت أذكر أنَّ ضحكتَهُ ، وندر أن كان يضحكُ بصوتٍ عالٍ . كانت ضحكته تأخذ مكانها ، ولكن بصوتٍ متقطِّعٍ في مداها ، وأذكر عن تلك السنة أنه لما انهى مادة التاريخ النقدي الغربي والعربي ، أعطانا ، دون سوانا من طلابه في الجامعة الأميركية ، نموذجًا تطبيقيًّا ، تناول فيه دراسة وتتحليل قصيدة " شمشون " للشاعر الياس ابو شبكة ( ديوان أفاعي الفردوس ) .
وأذكر ان هذه الدراسة التحليلية ، التطبيقية ، استغرقت أربع محاضراتٍ متتالية ، اي ما يقارب ثماني ساعات . وقد أملاها علينا . وما زلت أملكها ، وهي تقع في ما يقارب الخمسين صفحة بخط يدي .
هنا ، لا بد من اشارة إلى ان الدكتورة ريتا عوض ، مشكورةً ، قد أصدرت محاضراته في كتاب بعنوان :
"خليل حاوي
فلسفة الشعر والحضارة "
عن دار النهار / بيروت 2002 ..
تقتضي الإشارة هنا ، الى انني اطلعتُ على هذا الكتاب ، قابلته بالمحاضرات التي في حوزتي ، رأيت اليه غير مكتمل كونها أغفلت الدراسة التي تناول فيها الشاعر الياس أبو شبكة . هنا أشير الى ان مع كل عمل ، أكان أدبيًّا أم غير ادبي هناك دائِما أداة الإستدراك " لكن " . ما يعني أنه لا بُدَّ من ملحوظة مفادها أن الدكتور الخليل كان يملي علينا محاضراته ، ويطلب إلينا ، وبإلحاح ان ندوِّن المحاضرة على الصفحة اليسرى من الدفتر ونترك الصفحة اليمنى لتسجيل ملاحظاته خلال الشرح .
كنت حريصًا على تحقيق
أمنيته ، كون هذه الهوامش تُضوِّئُ جوانب كثيرة من فكره النقدي ، وتفتح آفاقًا جديدة على الموضوع المعالج ، وعلى شعره بالذات . ها انا الآن أنقل القليل منها ، واليكم ، بصدقٍ وأمانةٍ ما دونته دون أي تغيير أو تحوير ، آخذًا بعين الإعتبار ما انطوت عليه من عفويةٍ من جهة اولى ، ومن جهة ثانية ، الحالة التي حتَّمتها علاقة الأستاذ بطلابه . من هذه الملاحظات ، أنقل بعضًا مما ذكره على هامش تحليل قصيدة " شمشون " لأبي شبكة ، بشكل خاص ، وبعضًا آخرَ
مما جاء على هامش الشعر العربي الحديث . وقد تتفوَّق الهوامش والإستطرادات ، في بعض الأحيان ، على ما خَفِي في متن النصوص .
وقد وضعتها تحت عنوان " شذرات" ، كونها تتصل بموضوعات عديدة ، وتنقل الهواجس والشجون .
يقول الخليل
والكلام له حرفيًّا :
1_
نحن نعرف ان ما نلده
سوف ينتهي الى الموت .
وهنا ليس من كذبٍ على الحياة.
2 _
إن النقد الأدبي ، دائِما وأبدا ، يرتبط بالفلسفة . أعظم النقاد كانوا
شعراء وفلاسفة من خلال ما درسنا . ولا يستطيع ان يدرسُ النقد الا من تمرَّس بالأدب ومذاهبه والفلسفة ومذاهبها .
3 _
إن تذوُّق القصيدة ، أي قصيدة ،
يوجب قراءتها مرارًا وتكرارًا . كما يجب تدوينُ الملاحظات ، وهي كثيرة ، ومن ثَمَّ ، استعادة القصيدة في نفسه لإجراءِ الإنطباع العام الذي سيقوده في تحليله .
وبعد هذا الإنطباع العام ، يجب
الإلمام بكل ما كُتب حول الموضوع
الذي هو قيد الدراسة .
4 _
من شروط الأسطورة ان تكون
شائعة كي لا يضطّر الشاعر الىسردها لأنه ، عندها يقع في النثرية . فالى
اي مدى استطاع ابو شبكة ذلك في
قصيدة "شمشون " ؟
5 _
كان الشاعر أبو شبكة يُبدع
قصيدتَه من خلال غضبٍ لاواعٍ .
6 _
هنا في قصيدة " شمشون "
تحوّل الليثُ الى شهوةٍ محضة...
هذا هو الذلُّ في الغرام ..
( أحبُّ حتى في الخصام ) .
7 _
نلاحظ الفارق بين اللبوءة
وبين الليث . هدوءٌ من جهة ،
وجحيم من جهة ثانية .
8 _
هنا امرأة قاهرة ، مطمئنة لجمالها، وتطرب لنفسها ، ولا يُغويها جمال القوة في الرجل الجبار . في هذا طبعًا نرجسية كالدنجوان .
9 _
إن ابا شبكة لا يحاول ان يكون
سرياليًا ، ولكنّ الغضبَ يسوقه .
وهناك انتقال سريع من لوحة الى
أخرى ، لأنها أشبهُ برموزٍ يعبِّرُ فيها
الشاعرُ عن النفس الإنسانية في
حالةٍ متوحِّشة .
10 _
في هذه التجربة العامة
للشاعر الياس ابو شبكة حاول
جعلها كجحيم دانتي : فردوس وأثمار ...
وسوف يتطهَّرُ ، ويعبِّرُ عن نشوة
الحبِّ فيما بعد . غير ان عدم الإخلاص كان يبدو في بعضِ
تعابيره ، اي لم تكن الحالة قائمة
في نفسه .
11 _
حال ابي شبكة هي حال كلِّ
انسان هبط من الريف الى المدينة .
وقد حاول ان يجعل من " أفاعي
الفردوس " جحيمًا ينتقل منه الى
المطهر .
12 _
" أنتِ نصفيَ الجميل الذي فقدته عندما اتيت الى هذا العالم " .
يقول جبران خ . جبران . ما يعني ان
الإندماج يؤدي الى اكتمال الوجود .
والإندماج هذا ، هو من التراث
المسيحي ( ويصيران جسدًاواحدًا ) .
يقول احد الرومنطيقيين : " عندما
التقيت بحبيبتي اكتمل الوجود " .
13 _
كأنما الحبُّ هو استنزافٌ
للحيوية والحياة .
14 _
إن الوجود المُفرغَ من المعنى
الإنساني قاسٍ . من هنا ، تتولّد القسوة .
15 _
بودلير وابو شبكة يصلان الى
حدِّ الإنتحار ، ولا ينتحران ، فيظمان
الشعر . هنا قدرتهما على خَلقِ الشعر ،
نحوٌ من إبداع القيم .
16 _
الحِسُّ بالهلاكِ والخطيئة
يغلبان على الإيمان المتفائل .
17 _
إن الجسدَ كونه جسدًا ،
هو إثمٌ .
( الوجود كله مذبلة ومستنقعٌ
يتَنهَّدُ ) .
18 _
أبو شبكة أكثر شعراء العصر
أصالةً في ذلك الجيل .
19 _
ما الذي ينفي المأساة
في العالم المتديّن /
عزاء الآخرة .
20 _
هل كان تجديد ابو شبكة
نسخًا من انماطٍ غربية أم نسخًا لأنماط عربية ، أم جمعًا بين الإثنين معًا ؟
21 _
الى اي حدٍّ استطاع ابو شبكة
ان يستخدم الأسطورة استخدامًا
صالحًا ؟
والى اي مدى ارتبطت الأسطورة بالرمز ؟
يجب العودة الى هيردر عندما تكلم على الرمز ، اي اتحاد الخاص بالعام والجزئي بالكلي .
22 _
إن العودة الى البراءة مستحيلة
اذا بلغ الإنسان ذروةَ الفساد .
23 _
إن محاولة الإحتفاظ بالطهارة
كانت لأبي شبكة من قَبل . والحق
انه ربما صحّ القول إن الشاعر
كان عَفًّا قبل كتابة"أفاعي الفردوس ". وهذه الثورة هي ثورة العفّة على
هذه المفاسد التي جابهها .
24 _
النزعة الجمالية جاءت بعد
النهضة الرومنطيقية الكبرى ...
أجمل الموضوعات موتُ امرأة
جميلة .
25 _
هناك معيار في الحكم
على الشعراء :
_ عمق التجربة .
_ تعدد القيم التي تشتمل
عليها تجربة الشاعر .
26 _
ممكن ان يكون ما هو جميل
بذاته ، وما هو ليس جماليًّا . ليس
هناك موضوع أجمل من موضوع .
المهم :
_ عمق الإنفعال .
_ إتساع الإنفعال .
_ القددة في التعبير عن الإنفعال .
27 _
هناك حتميات سياسية ،
أو اجتماعية تدفع بالشاعر
الى البرجعاجية .
28 _
سينج شاعر ايرلندي
يقول :
يجب ان يكون الشعر عنيفًا ، وحشيًّا قبل ان يكون جماليًّا أو إنسانيًّا . بقي ان بناء القيم الإنسانية في الذات ، يجب ان يُمَهَّدَ لها بهدم ما فيها من أخلاقية متحجرة لتنبع القيم في جذور الغرائز ، ويكون بناؤها بناءً حيًّا ، قادرًا على التفتُّح الدائم ،
والنمو المستمر .
29 _
هناك تماثل في الموقف والوضع . فالشعرُ العربي يحاول ان يبعث نفسه ، ويبعث حضارة كانت انتهت الى الإنحطاط . وقد ادرك للشعراء بحدسهم انهم يعيشون عصر الأفول في هذه الحضارة ، فحاولوا البعثَ من جديد .
على الشاعر ان يفعل ، دائمًا وأبدًا ،
إن كان مفكرًا ، فيلسوفًا ، اجتماعيًّا
وسياسيًّا . من هنا العودة الى الفطرة
الأصيلة ، الى الفطرة في الحضارة
الأولى . يقول الغزالي الذي عاش
عصر الإنحطاط : " وتحركت همتي
الى فطرةأصلية " . وعندماحاول ديكارت ان يتخطى المذاهب الفلسفية عاد الى ما هو ثابت وموجود . فكانت له فكرة :
" انا أفكر اذا انا موجود " .
انه انطلق من حقيقة فطرية لبناء مذهبه .وكذلك روسو فإصلاحه
المجتمع ، عاد الى الإنسان الطبيعي ،
والفطرة الطبيعية في الإنسان . فكان
مذهبه المطلق الأكبر لما يسمّى الثورة
الفرنسية الكبرى .
وعليه ، فأن الوجود ، برأيي يُقسم الى قسمين :
_ الأول ، حياة الإنسان الطبيعي تسيّره الطبيعة .
_ القسم الثاني ، حياة الإنسان المتحضّر .
30 _
قيمة ابي شبكة في انها ليست
تكرارًا لمضامين الشعر العربي ، كما
عرف في العصور العباسية، السابقة واللاحقة . لقد حاول الإنطلاق من
طبيعة الإنسان ، وهو يُعرِّيه من ترسبات الحضارة المتحجرة ، والإنطلاق من الفطرة الطبيعية . من هنا كان لا بدَّ ان يكون الشاعرُ عنيفًا ، وحشيًّا . وهنا تكمن قيمةُ هذه التجربة . وهذا ما سنفتقده عند الذين عاصروه من شعراء باستثناء جبران خ. جبران . ومن هنا أيضًا ، إن " أفاعي الفردوس " هي تعبيرٌ عن حال السقوط والهلاك ، بعد ان كان
الشاعر يعبِّر عن حال البراءةِ كما كان يعمل الشاعر اللبناني .
🍀
هذا النموذج من الأسطورة ، نجده عند ابي شبكة ، كما نشاهده عند جبران . وأول ما نجده في كتاب " دمعة وابتسامة " الذي يمثل البراءة والمراهقة .
إن نزعة الكهولة هي الغالبة على
الشعر العربي ، وليست نزعة الشباب كما نجدها عند الغربيين امثال وردزورث .
كتاب " دمعة وابتسامة" يجسد
صوت الصبي والمراهق المثالي في الطبيعة البكر . ثم نرى جبران يواصل في مرحلة " العواصف " ثورة على مفاسد الحضارة.
وكذلك في " المجنون " . فطريق الخلاص عن طريق المحبة .
🍀
تجربة جبران إنسانية متكاملة ،
وكذلك تجربة ابي شبكة . هذا لا نجده عند شوقي ، فهو لم يعبِّر عن الطفولة ، ولا عن المراهقة ، ولا عن الشيخوخة .
عند جبران ، نجد تطورًا في الصياغة افتقر اليها ابو شبكة ، لأنه كان يميل الى التقليد . هنا تكمن قيمة تجربة ابي شبكة ، وقيمة تجربة جبران الذي حاول ان يجد لتجربة ابي شبكة معادلًا في نتاجه .
المدينة هي رمز الحضارة ،
دائما وابدا . وقد اصبح مستحيلًا العودة الى القرية التي أسبغ عليها
ابو شبكة نوعًا من المثالية . وأن في هذا مظهرًا من مظاهر التخلف .
تجربة جبران هي تجربة مسيحية .
وهي إنكار الفواصل بين الناس . هنا تجاذب تام حتى بين أشياء الطبيعة .. تعاطف كلي تام . فالتجربة وهمٌ ، والثنائيات كلها وهمٌ هي . وجبران أعطى كأنه يعطي من ذاته لذاته .
الله فينا ، ونحن في الله .
من هنا ، يمَّحي الموت وجبران
ليس وحده في هذا الموضوع . وكذلك يقول ريلكه دون ان يكون هناك تأثرٌ وتأثير .
عند جبران عالمان : العالم الواقعي ، والعالم الغيبيّ . وقد الغى فيما بعد ، ثنائية العالمين . والمهم ، هل اتّبع العقيدة اتباعًا ، أم اكتشفها لذاته بذاته .
فالمهم هو الإكتشاف بالتجربة الذاتية. والمهم ، أيضا ليس الإعتناق ، إنما كيف كان الإعتناق ؟
إستخدم جبران بعض الأساطير ،
مثلا في " يسوع ابن الإنسان " . والسؤال الذي يُطرح :
الى اي حد استطاع جبران
ان يولد يسوعًا جديدًا ؟
لذا ، على الأسلوب ان يتحول بتحول الموضوع . حاول جبران إخفاء شخصيته ، فأظهر شخصيته الأدبية . من هنا ، اعتمد أسلوبه على الأسلوب الأدبي ، لا الأسلوب الشخصي . أخفق جبران في صياغته كتاب " المواكب " ، لأنه لم يتمرّس بالإيقاع الموزون . والإيقاع الموزن ليس قيدًا خارجيًّا يفرض على الشاعر ، إنما حتى توهج الإنفعال فهو ينساق انسياقًا طبيعيًّا الى الوزن والإيقاع ( الرقص غير المشي ) . وجبران هو شاعر بالطبع .
يتابع الخليل قائلًا :
عندما سئلت في المهرجان الجبراني عام 1971/ 1972 ، في الجامعة الأميركية / بيروت ، قلت : أنني أفدت من تجربة جبران وأبي شبكة إفادةً لاوعية .
من المؤسف ان جبران لم ينتصر
في كتاباته على اللغة العربية . وأسلوبه في الإنكليزية جاء متخلّفًا على العصر لأنه شبيه بأسلوبه في اللغة العربية . وإن تأثيره في الأدب الإنكليزي يكاد يكون " لا شيء " . وشهرته شعبية ، جماهيرية في اوروبا ، ولم يلتفت اليه ايُّ ناقدٍ من العالم الأنكلوسكسوني ..
31 _
ابو شبكة يُعلّل .. وهو يستخدم
العقل احيانًا استخدامًا ساذجًا ، ثم ينتهي الى خاتمة إستعبارية في قصيدة " شمشون " .
هنا سؤالان يُطرحان :
_ الى اي مدى استطاع ان يكتشف
الصياغة الصالحة لتجربته ؟
_ الى اي مدى استخدم ابو شبكة
القاموس الشعري الصالح
لهذا العصر ؟
في كل ثورة تجديدٌ ، او انبعاث ، يجب ان يكون تقارب بين اللغة المكتوبة ، لغة الشعر ، وبين اللغة المحكية . فالشاعر مطالب ان يبدع قاموسًا شعريًّا جديدًا ، وان يكون متقاربًا مع اللغة المحكية في العصر .
بذا ، يكون للشعر لغة قريبة من الواقع
كما كان للغة ابي نواس مثلًا . ثم تتطور الحياة ، ويبقى هذا القاموس الشعري على حاله . هذا القاموس الشعري يجف ويتحجر . فمن اراد البعث في الشعر ، عليه ان يغيّر هذا القاموس ، وينفصل عن الحياة ، ويعود الى قاموسٍ بكرٍ ، اي لغة قريبة من اللغة المحكية في العصر .
هذا ما حققه المهجريون وأخفق فيه شعراء الوطن . كما انه ليس كل تجديد في القاموس الشعري يكون صالحًا .
قد يكون هناك تجديد عند خليل مطران ، لكن لغته سلفية ، وقد بعث لغة الشعر كما كانت . وعليه ، فإن المحاولات الأولى ، فيما يخص القاموس الشعري ، لا يمكن ان تأتي تامة ، كاملة .
على الشعراء _ والحالة هذه _
ان يصقلوا ويقوموا بمحاولات عديدة ليصقلوا هذه المواد الخام .
قصيدة " أخي " لنعيمة تعبِّر عن
منطق صحيح ، ولكن ليست القصيدة الصالحة . هي قريبة من النثرية قربًا كاملًا .
لذا ، ان الخطوة الأولى هي اكتشاف المادة البكر ، ثم محاولة شحن هذه المادة الخام بالتجارب الحسية المتوهجة .
إن المحاولات الأولى لا يمكن ان
تكون في منتهى الصقل والصفاء . وإذا كانت المادة هي واقع هذا العصر ، فلا بد من ان يكون التعبير قريبًا من لغة واقع هذا العصر . وإن الجهد الذي بذله خليل مطران وشوقي كان باطلًا ، لأنه كان في سبيل تصفية لقاموس شعري متحجر ومتجمد .
32 _
في مجال السياسة ، ان الأمة
العربية منفعلة أكثر مما هي فاعلة . المهم ان مهمة الشاعر تقضي ان يُعبِّر بعمقٍ ، ان يعاني معاناةً صِرفًا توصله الى عمق التجربة . فالشعرُ ما زالت له وظيفة كبرى في القرن العشرين . وإن اللغة هي مرآةُ الأمة والحضارة . وهذه اللغة تتسع مع كل عصر بقَدْرِ ما يكون في هذا العصر من فلسفة وفكر وفنون وعلم .
33 _
بين الكبت والإنطلاق :
في قصيدة " شمشون " يمكن الجمع بين الإثنين معًا . إن الشاعر ابا شبكة الذي تقيده العفة تقييدًا داخليًّا ، فتمنعه من ان ينطلق . حاول الإنطلاق فكان ان ثار عليه ضميره المتأثر في العفة . والضمير الديني
هو صراع بين انطلاق الشاعر، وثورته على انطلاقه . وهذا يتأتى من العفة المترسخة في نفسه ، دائمًا وأبدًا .
نرى الى أسلوبه يستمد الأصالة من المضمون أكثر من الشكل . وبهذا يفترق شعره عن شعراء معاصريه . أما الصياغة فقد تكون واحدة بينه وبينهم . فالأصالة هي من جهة ، المادة والتجربة أكثر منها في الشكل . وتجربته لم تكن جديدة جِدَّةً كاملة . فالمهم ان يكون القاموس الشعري حيًّا ، حيويًّا ، اي قريبًا من اللغة المحكية ، أقرب ما يمكن الىالسلفية .
هناك نوعان من الصياغة :
_ صياغة يكثر فيها الفعل ( الفعل
بطبيعته حركة ) .
_ صياغة يكثر فيها استخدام
المصدر ( المصدر فعل استقل عن
الزمان والمكان .. اي فعل جَمُدَ ).
إن غلبة المصادر على الأفعال تعبير عن حيوية أساء اليها الشاعر . وتجدر الإشارة الى ان الواقع يمد الشعر دائما بحياة متنوعة ، متجددة . فلا يمكن للشاعر ان يتطور الا اذا كان شعره تعبيرًا عن الحياة المتطورة ، وتعبيرًا عن الواقعية ، والنفاذ الى المثال الذي يكمن وراء هذا الواقع . هنا تكمن قيمة شكسبير الذي عنده واقعية ، وما دون الواقعية ، وما فوق الواقع . لذا يجب الإنطلاق من الواقع دائما ، لأنه الحياة ، والى ما فوق الواقع لنصبح واقعيين ، رمزيين .
34 _
اذا اراد الشاعر العربي الحديث ان يبدع رموزًا فيجب ان تكون من التراث الشعبي ، أو من التراث الكلاسيكي . وعلى الشاعر ان تمتصه الثقافة ، بل ان يمتصها ويحولها عن طبيعته ، بواسطة الوهج الشعري والرؤيا .
35 _
المتنبي أحسَّ بجدوى الثورة .
وهو القائل :
" كم قد قتلت وكم قد متُّ عندكمُ
ثم انتفضت فزال القبر والكفن"
36 _
هناك دائما البيت الشعري . والجملة الشعرية هي عدم الوقوف عند القافية كي لا يتحول البيت الشعري الى لؤلؤة .
🍀
إن هذه الملاحظات التي ذكرتها ،( من بين الكثيرات ) ، قد ساقها الدكتور خليل حاوي في نهاية العام الجامعي 1971/1972 . وقد حلَّت بمثابة خاتمة لكلامه على قصيدة " شمشون " ، بشكل خاص . وهي ( الملاحظات ) تضيء جوانب مهمة من شخصيته وشعره وتجربته الشعرية والنقدية . وإن لنا فيه
فائدة كبيرة .
🍀
أخيرًا ، إني في الثلاثين سنة على غيابه ، أحتفي به عظيمًا وأتقدم بكلمة شكر الى دار نلسن بشخص مديرها الأستاذ سليمان بختي ، والى القيمين على مجلة الحركة الشعرية ( المكسيك ) ، والى القيمين على دار الندوة التي فتحت ابوابها لنا . ثم وافر شكري للحضور الكريم .



ميشال سعادة
بيروت في 20/9/2012


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى