محمد علي عزب - العامية والفصحي... والاتفاق التاريخي للمجتمع العربي

لم يكن الشاعر والمفكر الإيطالي دانتي الليجرى صاحب دعوى استبدال اللاتينية الفصحي بالعامية اللاتينية التي هي الإيطالية حاليا، ولكن الليجرى كان راصدا لما حدث في القرن الرابع عشر من تحول اتفق عليه أبناء المجتمع اللغوى الايطالي الذين ارتضوا بأن تكون العامية اللاتينية هي لغتهم الأم، وهذا الاتفاق لم يأت بين يوم ليلة، ولم يطلق أحد من الإيطاليين دعوى لبدء هذا الإتفاق، لكن الضرورة ورغبة أبناء المجتمع اللغوى هي التي أدت لحدوث ذلك، وما حدث مع الإيطالية حدث مع لغات أخرى، والسؤال هنا هل يمكن أن يحدث ذلك مع اللغة العربية ؟! أقول لا باطمئنان، ولست منجما، ولكن من استقراء المعطيات التاريخية واستمرار مبررات تلك المعطيات إلي يومنا هذا ما دفعني للإجابة بالنفي، فالعامية هي طريقة نطق لسان الشعب للغة العربية التي جاءت مع الفاتحين العرب، ومنذ القرن الثالث الهجري، استقرت العامية حتي في شبه الجزيرة العربية، وعرفت بأنها لغة الحياة اليومية، واتفق أبناء المجتمع اللغوى. العربي من وقتها علي أن لهم لغة رسمية هي الفصحي ولغة دارجة تستخدم في الحياة اليومية هي العامية، واستقر هذا الاتفاق قرونا طويلة، وقد فشلت كل الدعوات التي نادت بإحلال العامية محل الفصحي منذ نهايات القرن التاسع عشر لأنها دعوات فردية لم تنبع من ضرورة ملحة دفعت أبناء المجتمع اللغوى إلي استبدال الفصحي بالعامية، واتعجب عندما يقارن أحد اللغويين بين العامية والفصحي، كيف تقارن بين شقي اللغة العربية الشق الرسمي الفصيح والشق العامي الدارج، ولكل منهما استخدامه الذي فرضته حاجة أبناء المجتمع اللغوى، فالمقارنة هنا ستكون معطوبة ولا مبرر لها أصلا، كما أن الخوف من خطر العامية وشعر العامية علي العربية الفصحى هو خطر متوهم ولا يوجد مبرر منطقي له,العامية وشعر العامية موجودان منذ ثلاثة عشر قرنا جنبا إلي مع الفصحي وشعر الفصحي ولم يحدث أن شكلت العامية خطرا علي الفصحي أو شكل شعر العامية خطرا علي شعر الفصحي، بل كان هناك نوع من التكامل فمنذ القرن السادس الهجري أطلق العرب علي فنونهم الشعرية مسمي الفنون السبع منها اثنان يكتبان بالفصحى هما الشعر العمودي. والموشح واثنان يكتبان بالفصحى أو بالعامية هما المواليا / الموال والدوبيت وثلاثة تكتب بالعامية فقط وهي الزجل والقوما والكان وكان، وتجد أن شاعرا كبيرا بحجم جمال الدين بن نباته حامل لواء الشعر العربي في العصر المملوكي وهو شاعر فصحي يقول ممتدحا لمقاطيع الشاعر ابراهيم المعمار : "قطعنا المعمار بمقاطيعه" وكان المعمار أساسا شاعر عامي ويكتب مقاطيع شعرية فصيحة وعامية، وامتدح ابن نباته مقاطيع المعمار العامية والفصيحة معا، والمفارقة انك تجد الشاعر احمد شوقي في القرن العشرين لم يصل الي وعي جمال الدين بن نباته الذي عاش في القرن الثالث عشر الميلادى من ناحية الذوق الشعرى وعدم المقارنة المعطوبة بين الشعر العامي والشعر الفصيح حيث قال شوقي ممتدحا بيرم التونسي: أخاف علي العربية من بيرم ؟! وللأسف يردد البعض تلك المقولة عند الاستشهاد بتفرد بيرم بين شعراء عصره، وبخفة دم تنم عن وعي شعرى وروح مرحة قال بيرم لشوقي عندما كتب شوقي الزجل :

يا أمير الشعر غيرك ... في الزجل يبقي أميرك


محمد علي عزب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى