أ. د. عبد الجبار الرفاعي - موت الحرب عند جودت سعيد

كرّس الشيخ جودت سعيد حياتَه لمناهضة كلّ أشكال العنف. وظل يتحدثُ ويكتبُ عن أن اللاعنفَ ضرورةٌ تسبقُ كلَّ عملية بناء للإنسان والعيش المشترك وسلام المجتمعات والأوطان. كان مصرًا على مواقفه يكرّرها بلا ملل في مختلف المناسبات، وهو يستضيء بقول محمد إقبال: "ولحرفٍ واحد ألف مقال"، ويؤسّس عليه ليقول: "وكذلك الفكرة الواحدة كي تستوي على قدميها تحتاج إلى ألف مقال".
تطور موقفُ جودت سعيد فرأى اللاعنفَ أساسًا ينبغي اعتمادُه في مختلف المواقف، واتخاذُه مبدأ شاملًا في الحياة، وكرّس جهودَه في الكتابة والخطابة من أجل توضيح ما يرمي إليه. يلخص جودت سعيد دعوتَه للاعنف في بعض كتاباته الأخيرة بـكلمتين، هما: "موت الحرب"، وهذا شعار رومانسي متخيل نتمناه جميعًا، ومازالت البشريةُ وستظل تحلم فيه حتى آخر إنسان يعيش على الأرض. لا يدلّل عيشُ الإنسان وصراعاتُه وحروبُه منذ أول عائلة في الأرض على واقعية شعار: "موت الحرب"، بدأ القتلُ بابن آدم الأول وسيبقى القتلُ إلى أن يموت أو يُقتل ابنُ آدم الأخير.
"موت الحرب" يُذكِّر القراءَ بمقولات: موت الله، موت الميتافيزيقا، نهاية التاريخ، وغير ذلك. الواقع يتنكّر لهذه الدعاوى، التاريخ يمضي عبر صيرورة متواصلة ولن يقف عند نهايٍة مادام هناك إنسانٌ في الأرض، الميتافيزيقا لن تموت مادام هناك عقلٌ يتسائل عن معنى الوجود والمبدأ والمصير، "اللهُ حيٌّ لا يموت" ما يموتُ هو صورُ الله المشتقة من الظلم والاضطهاد والاستبداد والطغيان. لن تموتَ الحربُ ولن يختفي العنفُ مادام هناك إنسانٌ يعيشُ في الأرض. "موتُ الحرب" بشرى سارة، لكن هذه البشرى تقفز للنتائج دون المرور بالمقدّمات. إثباتُها يتطلب أن نكتشف ما يختبئ في أعماق الإنسان أولًا، وندرس تاريخَ العنف والحروب في مختلف مراحل تاريخ الإنسان ثانيًا. ونختبر ما تستبطنه النفسُ الإنسانية من استعدادات ودوافع كامنة للتعصب والكراهية والشرّ، وتأثيرَ نمط عيش الإنسان، ونوعَ ثقافته، ومستوى تطوره الحضاري في إنتاج العنف. الإنسانُ هو الكائنُ الأكثر غموضًا والأعقدُ والأغربُ، والأشدُّ شعورًا بالألم في العالَم.كلّما اكتشف الإنسانُ سرًا وحلَّ لغزًا في طبيعته، وظنّ بأنه أدرك حقيقتهَ بتمامها، رأى سرًا خفيًا لم يكن يعرفه من قبل، فيعود ليعلن عن جهله بالمعرفة الكاملة للإنسان. لم يتحدث جودت سعيد عن الخوف والقلق والألم الذي يستعر في باطن أكثر الناس، ولم يتنبه في كتاباته لبواعث العنف المستترة في النفس الإنسانية، وما تثيره الغيرةُ والتنافسُ والشعورُ بالإحباط عندما تستفزّ الإنسانَ نجاحاتُ غيره وتفوقُهم ومنجزاتُهم. ولم يتحدث عن التمثلات الرمزية للعنف وتعبيراته اللفظية وغيرها، وحضوره بأشكال مختلفة تتنوع بتنوع الأديان والثقافات والحضارات.
عندما نتأمل النفس الإنسانية نرى بواعث العنف كامنة فيها، منها الحاجة للتملّكِ في حياة الإنسان، وهي ضروريةٌ لاستمرار الحياة، ومواصلة العمل والمثابرة والانجاز. التملّك يشعر معه الإنسان بنوع من الأمان والثقة والسلطة. هذه الحاجة إذا لم تخضع لقوانين عادلة لا تقف عند حد نهائي، بل تنقلبُ الحاجةُ للتملّكِ إلى مشكلة لحظةَ تتضخم ليصبح موضوعُها امتلاك البشر بدلًا من امتلاك الأشياء، ومصادرة حرياتهم وحقوقهم، والتسلط عليهم والتحكم بمصائرهم. الشغف بالسلطة المطلقة ناتج عن حاجة الإنسان للخلود، لذلك عندما يستحوذُ شخصٌ على مثل هذه السلطة يستعبد كلَّ مَنْ يتسلط عليه، ويمارس كلَّ أشكال العنف ضده حين يشاء، وذلك يجعله يعيش حالة زهو واحساس هائل بالمتعة لا يجدها في غير السلطة.
وإن كان شعارُ "موت الحرب" ليس واقعيًا، غير أنه يكشف عن تشبّع روح جودت سعيد بالسلام في باطنه وظاهره، ويعبّر عن أمانيه الإنسانية المتفائلة، أكثر مما يتكشف فيه الواقعُ المركّب المتشابك، وما يباغت الإنسانَ فيه من عنف ينبعث من شتى العوامل، وما يهدّد الأمنَ البشري من حروب مريرة،كانت ومازالت وستظل تواكب تاريخَ الإنسان. العنف بما هو ظاهرةٌ مجتمعية بدأت بظهور الإنسان في الأرض. مادام هناك إنسانٌ هناك تنافسٌ ونزاعٌ وصراعٌ على الاستئثار بالسلطة والثروة واحتكار المعرفة وغير ذلك، ذلك هو وقودُ العنف والحرب. لا تخمد الحربُ إلا بتسويات واقعية تحسم النزاعاتِ سلميًا في بعض الحالات.
"موتُ الحرب" أمنيةٌ مستحيلة التحقّق مادام الإنسانُ إنسانًا. الحربُ ليست طارئةً في التاريخ، قوةُ العنف واستمرارُ الحروب قاد فلاسفةَ التاريخ للقول بأنها عاملٌ أساسي في نشأة الحضارات وازدهارها وانهيارها. ‏لولا حروبُ أوروبا الاستعمارية وإخضاعُ ‏مساحات شاسعة من الأرض لهيمنتها ونهبُ ثروات أهلها في أفريقيا وآسيا والأمريكتين، ‏لم تحدث الثورةُ الصناعية ولا التقدّم الذي وصلت إليه أوروبا ‏في العصر الحديث. لولا الفتوحاتُ الإسلامية ما ساد الإسلامُ في العالم القديم من الأندلس إلى حدود الصين.
في كتابات جودت لم يتميز بوضوح العنفُ الذي تعتقد الجماعات الدينية المقاتلة بأنه أحدُ أهداف الدين المحورية، عن العنفِ بدوافع غير دينية، الناتجِ عن بواعث الغيرة والتعصّب العميقة في شخصية الإنسان، والصراعاتِ على السلطة والثروة وشبكات المصالح المختلفة. عقائدُ القتل مشتقةٌ في الأديان من طريقةِ تعريفها للدين، وفهمِها لوظيفته في الحياة، وكيفيةِ تفسيرها لنصوصه، ونظامِ إنتاجها للمتخيَّل، وطريقة تعريفها لنفسها في فضاء المتخيَّل. قبضةُ المتخيَّل شديدةُ الوطأة، يفرضُ المتخيَّلُ حضورَ الماضي بشدّة، وإذا طغى الماضي يحجبُ الحاضرَ والمستقبل. ‏النزاعاتُ والكراهيات والعنف والحروب تعيشُ على كراهيات وإكراهات المتخيَّل.
مَنْ يريدُ تحريرَ التديّن من العنف عليه أن يحدّد أولًا تعريفَه للدين، وكيفيةَ تفسيره لنصوصه في ضوء ما ينشده من الدين ثانيًا، والتخلّص من تعليم المقولات الكلامية للتكفير والفرقة الناجية والفرق الهالكة في معاهد التعليم الديني التقليدية والجامعات الإسلامية الحديثة، وما يبتني عليها من فتاوى الارتداد والتكفير. لا يمكن تحريرُ التديّن من العنف مالم يتأسّس ذلك على: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ"، وما ينطق بمضمونها في القرآن الكريم، بشرط وضع أسس لكيفية التعامل مع الآيات المعارضة لمضمونها. وتوظيف آراء وفتاوى المجتهدين المواكبة للحياة في التعليم الديني، مثل قول الشيخ محمد عبده: "إذا صدر قولٌ من قائلٍ يحتملُ الكفرَ من مائة وجه ويحتملُ الإيمانَ من وجهٍ واحد حُمِل على الإيمان، ولا يجوزُ حملُه على الكفر".
كلُّ مَنْ يحاولُ أن يؤسّسَ للسلام في الدين عليه أن يُعيدَ تعريفَ الدين، ويكتشفَ رسالتَه في حياة الإنسان، وأفقَ انتظار الإنسان منه. بلا إعادةِ تعريف الدين، وعدمِ بيان حدود وظيفته في الأرض بشكلٍ واضح، تظلّ دعواتُ السلام يلفّها الغموضُ واللاواقعية، ولا تخرج عن كونها شعاراتٍ حالمةً في واقعٍ يتكلمُ لغةً ويخضعُ لمعاييرَ ترفض لغةَ السلام ومعاييرَه. الدينُ -كما أفهمه – حياةٌ في أُفق المعنى، يوقظ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي الذي يحتاجه الإنسانُ كي يشعر بالأمن والسكينة. في ضوء هذا التعريف لن يجدَ العنفُ موضعًا بما هو مقوّم للدين، ولا يكون العنفُ مكونًا أساسيًا له، بل ينقضُ العنفُ تعريفَ الدين، ويُعطِّل المعنى الذي يُلهِمُه لحياة الإنسان.
النوايا الطيبة والقناعاتُ والتفكيرُ الرغبوي لا تغيِّر الواقعَ المرير. النصوصُ الدينية المنتقاة وحدَها لا تكفي لتغيير الواقع.كان جودت سعيد كغيره انتقائيًا، يلتقط آيةً من القرآن الكريم أو حديثًا من مصنفات السُنة النبوية الشريفة، ويغضّ النظرَ عما يعارض الآيةَ أو الحديث الذي يستدلّ به. ركزَّ جودت على حديث جاء فيه: "قلت يارسول الله أرأيت إن دخل عليّ بيتي، وبسط يده ليقتلني؟! قال: فقال رسول الله: كن كابن آدم". في الوقت الذي يلتقط جودت هذا الحديث، لا يضع قاعدةً تعالج أحاديثَ شهيرة تدعو للقتال والجهاد في مصنفات الحديث، وهكذا أمثالها في آيات القرآن، ولا ينظر لأحكام الجهاد المتوارثة في مدونة الفقه. اتخذ جودت: "كن كابن آدم" شعارًا استند إليه في أحاديثه وكتاباته، ولم ينشغل بإعادةِ تعريف الدين، وبناءِ قاعدة تحلّ التعارضَ بين هذا الحديث والأحاديث الأخرى العديدة المخالفة له في دلالتها، ولم يؤسّس قاعدةً ترجّح دلالتَه وتتخذها أصلًا ينفي دلالةَ كلّ ما يعارضه.
الثغرةُ المنهجية في هذه الكتابات وأمثالها أنها لم تنشغل ببناءِ رؤيةٍ منهجية شاملة لكيفيةِ تفسير آيات الجهاد والقتال والحرب في القرآن الكريم وبيانِ موقف المسلم اليوم منها. لم تتأسّس هذه القناعاتُ على رؤيةٍ نظرية ومنهجٍ واضح للتعامل مع آيات القرآن الكريم والسُنة الشريفة التي تتحدث عن الجهاد وحمل السيف، ولم تنشغل ببيان كيفية التعامل مع الأحاديث المتنوعة في هذه الأبواب من مصنفات الحديث، لذلك تظلّ المواقفُ في كتابات جودت سعيد وغيره انتقائية، تفتقر لبناء رؤيةٍ شاملة يمكن اعتمادُها أداةً محورية لتفسيرِ مثل تلك الآيات في القرآن وفهمِ تلك الأحاديث في السُّنة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى