أبووردة السعدني - قطوف من كتاب الدميري "قضاة مصر"

... الدميري المالكي :عالم مصري ألف كتابا عنوانه " قضاة مصر في القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر " ، كتب على غلاف كتابه المخطوط "مجهول الاسم " ، بينما كتب في قائمة حصر المخطوطات العربية أن اسمه : أحمد بن أحمد بن محمد بن عبدالكريم الدميري ، وأن وفاته كانت سنة 1029-1619 ...
... ينتمي الدميري إلى أسرة دينية وعلمية عريقة ، عاصرت دولة سلاطين المماليك والدولة العثمانية ، كان مالكي المذهب شأنه شأن والده وأجداده ، فنشأ وترعرع في بيئة علمية طيبة أهلته لأن يعين " كاتبا للتقارير" في محكمة " الباب العالي "بالقاهرة ، وظل يترقى في وظائف القضاء حتى عين " نائبا مالكيا " في المحاكم الرئيسة بالقاهرة ...
....دخل الشيخ أحمد الدميري ميدان التأريخ بكتابه " قضاة مصر في القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر " ، وهو كتاب مهم ، يعد امتدادا لما كتب عن قضاة مصر في العصر المملوكي ، فمن المعروف أن ابن حجر العسقلاني -ت852/1449 - ألف كتابا عنوانه " رفع الإصر عن قضاة مصر " ، أورد فيه تراجم قضاة مصر منذ فتحها الإسلامي وحتى أواخر القرن الثامن الهجري ، ثم خلفه - في هذا الميدان - تلميذه الشيخ عبدالرحمن السخاوي - ت902/1497 - بكتابه " الذيل على كتاب رفع الإصر عن قضاة مصر " أو " الذيل المتناهي " ضمنه تراجم قضاة مصر في القرن التاسع الهجري ، على طريقة شيخه ابن حجر ، وها هو الشيخ القاضي أحمد الدميري يستكمل مسيرة هذين العالمين بكتابه " قضاة مصر في القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر " ، ولعل مقدمة الكتاب - المفقودة - تحتوي شيئا يشير إلى ذلك ، خاصة وأن عنوان الكتاب يدل على أنه ليس من وضع مؤلفه ، وإنما من ضع غيره ....
... جدير بالذكر : أن تراجم الدميري لقضاة مصر - في العصر العثماني - على جانب كبير من الأهمية ، تكشف - للباحث - عن مقدرة فذة في عرض المادة التاريخية ، لاتقل شأنا عن كتب التراجم التي اشتهر بها مؤرخو الشام في العصر العثماني ، كالغزي في كتابه " الكواكب السائرة " ، والمحبي في كتابه " خلاصة الأثر " ، والمرادي في كتابه " سلك الدرر " ، ولئن اتفق كتاب الدميري - في إطاره العام - مع الكتب الثلاثة سالفة الذكر ، من حيث إنها - جميعا - ألفت في باب الوفيات ، فإنه قد خالفها في تخصصه الدقيق ، فترجم لفئة معينة من أهل العلم وأرباب الوظائف ، وهم القضاة ونواب الحكم ...
على هامش كتاب الدميري :
********************
... يستطيع القاريء لكتاب الدميري الوقوف على العديد من الحقائق التاريخية الخاصة بالقضاء في العصر العثماني ، فمن المعروف أن وظيفة " قاضي عسكر " من الوظائف المهمة في الدولة العثمانية ، يعد متوليها نائبا عن السلطان في الأحكام الشرعية ، واحتلت مصر - من حيث الأهمية - المركز الخامس بين قضاء الدولة العثمانية ، و قاضي عسكر مصر الشخصية العثمانية الثانية بعد " الباشا " ، بنوب عن السلطان في تعيين قضاة محاكم أخطاط ( أحياء ) القاهرة ومحاكم الأقاليم ، ونظرا لتلك الواجبات المهمة وضعت شروط يجب أن تتوافر في من يريد شغل هذه الوظيفة ، فكان لابد أن يتفوق في علوم الشريعة الاسلامية ، وأن يشتغل في وظائف التدريس في المدارس ( الكليات ) الشهيرة في إستانبول أو المدن العثمانية الكبرى ، وبعضهم كان يشغل وظيفة نائب حنفي في بعض الولايات ، أو وظيفة قاضي عسكر في ولايات أخرى ، وبلغ من أهمية ولاية مصر أن بعض القضاة الذين كانوا يشغلون وظيفة " مفتي السلطنة " في العاصمة العثمانية ، نقلوا من هذه الوظيفة - على خطرها وعظيم قدرها - إلى وظيفة " قاضي عسكر " مصر ....
.... حرص الدميري على ذكر ألقاب قضاة العسكر ، مثل " المولى " ، ويعني : سيد أو رئيس أو زعيم ، ومثل " أفندي " ، وهو لقب شاع استخدامه في جميع الولايات التي خضعت للدولة العثمانية ، ويطلق على الأشخاص المدنيين المثقفين ثقافة واسعة ....
... قدم الدميري معلومات على جانب كبير من الأهمية عن بعض التقاليد والنظم القضائية التي كانت متبعة في مصر إبان العصر العثماني ، فحين يصدر " خط شريف " بتعيين أحد قضاة العسكر في مصر ، يعين - هو الآخر - من قبله - نائبا حنفيا يقوم مقامه ، وحين يصل قاضي العسكر إلى بولاق - ميناء القاهرة النهري - يكون في شرف استقباله وفد كبير من أعيان مصر وعلمائها ، ويدخل القاهرة في " موكب عظيم ومحفل جسيم "....
... ومعلوم أن قاضي العسكر كان على رأس الجهاز القضائي في مصر كلها ، يتبعه موظفون ، منهم : الشهود أوالعدول ، وكتبة التقارير وغيرهم ، ومن مهامه - إلى جاب تعيين قضاة محاكم الأحطاط ومحاكم الأقاليم - الإشراف على الوظائف الدينية ، فهو الذي يعين الأئمة والخطباء والقراء في المساجد والزوايا ، ويعين المدرسين في المدارس الكبرى بالقاهرة ، ومن مهامه - أيضا - تعيين النظار على الأوقاف الدينية والخيرية ، والتفتيش عليها بين الحين والآخر ومراقبة حساباتها ....
.... وبينما أكد الدميري أن معظم قضاة العسكر في مصر ، كانوا على جانب كبير من العدل والإنصاف ، وحازوا محبة المصريين ، وارتبطوا بعلاقات من الود والإخاء مع علماء الأزهر الشريف ، نجده يذكر أن قلة منهم وصمت أحكامهم بالجور ، وحاولوا التغيير والتبديل في النظم القضائية المتبعة ، الأمر الذي ألحق بالمصريين أضرارا بالغة ، منهم - على سبيل المثال - : عبدالوهاب بن إبراهيم ، الذي تولى قضاء عسكر مصر سنة 1009/1600 ، فقد اتخذ هذا القاضي عدة إجراءات جلبت عليه سحظ المصريين عامة ، منها : قصر القضاء على المذهب الحنفي في جميع محاكم مصر عدا محكمة الباب العالي في القاهرة ، لذا كان على المصريين - غير الأحناف _ التوجه إلى المجكمة المذكورة عند التقاضي ، جتى لو كانوا من أقصى الصعيد - مثلا - ، الأمر الذي كبدهم مشقات جسيمة ، اذ إن المحاكم كانت منتشرة في مختلف أقاليم مصر ، وفيها قضاة على المذاهب الفقهية الأربعة ، مما كان ييسر للمصريين سبل التقاضي ، ذلك - وغيره - من الأمور التي لم يألفها المصريون ، لذا فقد بالغوا في ذم قاضي العسكر - سالف الذكر - شعرا ونثرا ، سرا وعلنا ، تلميحا وتصريحا ...!!....
.... ومن المعلومات التي تستفاد من تراجم الدميري : أنه على الرغم من أن "قاضي العسكر " كان على رأس القضاء المصري ، إلا أن " محكمة القسمة العسكرية " ، وهي محكمة ذات اختصاص نوعي ، اختصت بقسمة تركات المتوفين من العسكريين والمدنيين ، الذين لهم وظائف يتقاضون رواتبها من بيت المال ، وبكل ما يترتب على الوفاة من آثار قانونية ، كنصيب الأوصياء على القصر ومحاسبتهم ، وغير ذلك من مسائل الولاية ، وقاضيها لقب ب " القسام " ، هذه المحكمة لم تخضع لرئاسة " قاضي عسكر " مصر - خلافا لما ذهب إليه البعض - ، وإنما كان يصدر قرار بتعيين قاضيها من " قاضي عسكر الأناضول " مباشرة ....
... تلك قطوف من كتاب الشيخ أحمد الدميري المالكي " قضاة مصر في القرن العاشر وأوائل القرن الحادي عشر " ، وكلها تؤكد أنه كان مؤرخا كبيراً ، استطاع صياغة تراجمه بأسلوب لغوي صحيح ، متبعا المنهج العلمي في التأريخ ، باحثاً عن الحقيقة التاريخية أنى وجدت ، ملتزما جانب الحيدة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً ، ومهما قلنا عنه ، فإن إعطاءه قدره من الوفاء لجهده ، يظل ناقصا حتى يعثر على الصفحات المفقودة من كتابه - وهي كثيرة - ، وحينئذ يمكن تقديره حق قدره ....
****************
مستخلص من كتاب :
المؤرخون في مصر في العصر العثماني إلى ظهور عبدالرحمن الجبرتي ....
*********************



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى