محمد السلاموني - الأيديولوجيا والعِلم والشِّعر

يبدو أن علاقة الأيديولوجيا بالعِلم، تشبه علاقة الظلام بالضوء- فالظلام هو الأصل، أما الضوء فطارئ عليه من الخارج. هذا وعندما نضئ مكانا ما فالظلام لا يزول، هو يختفى وراء الضوء فقط./ لذا فالضوء عابر، والظلام مقيم...
نعم، الأيديولوجيا تقيم فينا ونحن نقيم فيها، أما العِلم والمعرفة- اللذان نرمز إليهما عادة بالضوء
؛ "نور العلم، التنوير، الإستنارة... إلخ"، فطارئان وعابران، وسريعا الزوال؛ لأن المعرفة الجديدة سرعان ما تنفى المعرفة القديمة، وحين تتبقى هذه الأخيرة وتتحول إلى ما يشبه بقعة الدهن، تتحول إلى أيديولوجيا... وهو ما يعنى أن الأيديولوجيا هى الأصل، وهى ما يؤول إليها كل علم، بالضرورة، بمرور الزمن... نعم، إنها قدَرُنا...
ومن ناحيتى، أحاول أن أنأى بنفسى عن الأيديولوجيا بطريقتى الخاصة...
فحين أشرُع فى الكتابة عن شئ ما، أبدأ- ما استطعت- من النسيان، وليس من التَّذَكُّر؛ نسيان كل ما قيل من قبل عن هذا الشئ، مكتفيا منه بالمعلومات الأساسية التى يتصف بها، ثم أبدأ البحث عما يمكن "للغة" أن تفتحه أمامى من آفاق "عادة ما تكون مجهولة بالنسبة لى، قبل الكتابة، قبل مواجهة اللغة"... حتى أننى أروغ من الأفكار المسبقة سواء أكانت لى أو لغيرى، وأصطرع معها، أملا فى القفز فوق الأسوار التى تضعها بينى وبين ضوء ما غامض، أراه بحدسى...
وما أن أرمى باللغة على موضوع ما، كما يفعل الصياد حين يلقى بشباكه فى البحر، وأشعر بأن هناك فكرة ما على وشك أن تقع، حتى أحتشد، بقوة، وغضب، طاردا كل الأفكار القديمة المتوحِّشة التى تسعى لإلتهام فكرتى الوليدة، وما أن أمسك بالفكرة الجديدة أو الغريبة، حتى يبدأ التداعى...
ومن الغريب أن علاقات لاحصر لها، بين معلومات عديدة تتنتمى لمجالات معرفية مختلفة، تطفو- لا أعرف من أين؟- وتتحرك بسرعة فائقة فى اتجاه الفكرة، صانعة منها "مركز"، لتتشكل هى على هيأة محيط... !.
فى كل ما كتبت عن "الرواية، الدين، الفلسفة... إلخ"، لاحظت أن تلك الظاهرة تتكرر، تعاود الظهور...
أعرف أن تلك الظاهرة تخص الإبداع الشعرى تحديدا- فلا أحد يخطط لما سيفعله فى القصيدة "عدا بعض الشعراء، ومنهم أمل دنقل"...
ربما بدا هذا الأمر ذا صلة بنوع ما من الفينومينولوجيا؛ إذ أمتثل بقوة لظهور الشئ فى الوعى"
، نعم، لكننى منغمس فى التاريخ، بما هو "تاريخ التجربة الإنسانية"، وما أفعله حقيقة، ليس محاولة الإمساك بماهية الشئ نفسه "كما تفعل الفينومينولوجيا"، فأنا لا أعتقد بوجود ماهيات، وبدلا من هذا أحاول أن أرمى بالفكرة الوليدة- بعد أن أمسكت بها- فى بحر ذاكرتى، لا لتستعيدها، بل لتحوِّلها إلى مادة يمكن الإشتعال عليها... من هنا، فما أنتهى إليه هو "حوار" بين ما أعرفه ويقر فى ذاكرتى، وبين ما لا أعرفه وتعدنى به الفكرة الجديدة...
هذا مع ملاحظة أن الفكرة الجديدة، يستحيل أن توجد حقيقة إلاَّ بالقدر الذى تأذن لها به الأفكار الأخرى القديمة...
من هنا، فأنا لا أعد نفسى مؤدلجا سوى بالقدر الذى أتشارَك فيه مع كل إنسان فى التعاطى مع الأيديولوجيا؛ فكما يقول ألتوسير: "الإنسان حيوان أيديولوجى"؛ إنه يتنفَّسها مع الهواء...
نعم، كل ما نقول، يرتد إلى مرجعية أيديولوجية ما، بل ويتخذ مادته من تلك المرجعية.
الأيديولوجيا والعِلم والشِّعر- كل بداخل الآخر، ويستحيل الفصل بينهم أو التخلى عن أيَّا منهم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى