احمد رجب شلتوت - الحكاية الأسطورية وآليات التشكيل السردي في رواية "أبناء حورة"

كان الروائي والناقد الإنجليزي "مالكولم برادبري" يرى أن حضور أسطورة قوية وشخصيات أخلاقية نوعا ما، فضلا عن الحبكة المعقدة يضمن وجود رواية جيدة "1"، وهذا ما اتبعه الكاتب "عبدالرحيم كمال" في روايته "أبناء حورة" "2"، والكاتب بالطبع لم يقصد الالتزام بروشتة برادبري لكن تلك هي قناعاته في الأساس كما تجلت في المسلسلات التليفزيونية العديدة التي ألفها، ومنها مثلا " ونوس" و"الرحايا حجر القلوب"، وحتى حينما استلهم شخصية تاريخية معروفة مثل "شيخ العرب همام" رأيناه يمنح الأحداث التاريخية أبعادا صوفية أو أسطورية، وهو في غالبية أعماله يقدم حكاية تتسم بالغرابة، تقدم صراعا بين الخير والشر. وهذا بالضبط ما اتبعه الكاتب في روايته "أبناء حورة" التي سعى فيها إلى استلهام الأسطورة في بناء فني يفيد من التراث الحكائي العربي، خصوصا كتاب ألف ليلة وليلة.
أسطورة حورة
إن الحكاية الأسطورية ليست مجرد بناء حكائي مفارق للواقع، بل تأتي كاستجابة إبداعية لضرورة تاريخية أو ثقافية تستدعيها، ولا تكتفي الصياغة الأسطوريّة للواقع بتحطيم قوانين العقل فحسب، بل تعمل على إعادة إنتاج هذه القوانين وفق رؤية جديدة تتجاوز الحدود بين ما هو واقعي وما هو فوق واقعي، وهي تبتدع قوانينها الخاصة التي تتجاوز السائد في محاولة منها لتملّك الواقع الذي تعاينه تملّكاً جمالياً قادراً على إعادة النظام إلى واقع مفعم بالفوضى، والظلم والتهميش والاستلاب، وهي كنتيجة لتفكير أسطوري أو خرافي ليست ارتدادا معرفياً إلى البدائية، بقدر ما تمثل محاولة لفهم الواقع ومعايشته بشكل يمكّن من احتمال الراهن من جهة، ومن مواجهة المستقبل من جهة أخرى. والتفكير الأسطوري بهذا المعنى ليس "مجرّد انسراح طليق للذهن، يتجاهل الواقع أو يحاول الهرب من مشاكله بقدر ما هو محاولة للتسامي على التجربة المعيشة، ومحاولة لتفسير التجربة وتنظيمها وتوحيدها. وأيضا محاولة لوضع دعامة تحت فوضى التجربة تمكّنه من الكشف عن معالم بناء ما، معالم التنسيق، والتماسك، والمعنى"."3".
ويرى بعض النقاد أن الارتباط بالأسطورة في الأدب الحديث، لـيس عـودة، وإنما هو استمرار، فقد رأى نورثروب فراي أن الأدب تكـرار للأسـطورة، ولـيس محاكاة للواقع، فالأساطير تشكل أنماطاً أولية ما تزال قائمـة، تتكـرر باسـتمرار فـي الأعمال الأدبية، تمنحها مادتها، وتملي عليها بنيتها، وما يظهر في العمل الأدبـي مـن شخصيات وأحداث تبدو مشابهة لمثيلاتها في الحياة، ليست فـي الحقيقـة إلا رمـوزاً للميول الأساسية لدى الإنسان البدائي، مشابهة للأنماط الأسطورية التي كانت قد عبرت عن تلك الميول من قبل"4".
وبذلك تصبح عودة الروائي إلى الأسطورة، ذريعة فنية تستلهم من الأسطورة تقنياتها في تشكيل الـسرد، ليكـون طريقة جديدة في ارتياد العوالم الروائية، وبذلك يصبح التكنيـك الأسـطوري هـو ذاك النزوع الأسطوري القائم على " استلهام الأسطورة أو استيحاءها، على نحـو كلـي أو جزئي، ظاهر أو مضمر، أو استدعاء الرموز الأسطورية، أو بناء عوالم تخييل روائيـة"5".
وبهذا المعنى تصبح عودة رواية "أبناء حورة" إلى الأسطورة بمثابة أهجية للواقع ومحاولة لإعادة صياغته ليس كما تقوله مظاهره المادية, بل بما يعبّر أيضاً عن ذلك "الصراع الحادّ, الساخر, اللاذع, بين فقر الواقع وغضب المخيّلة المخنوق"."6"
يحكي الراوي عن إوزة بيضاء أحبت إنسيا، وباحت له قبل أن يمرر سكينه على رقبتها، قالت أحبك يا طاهر، فوقع السكين من يده، فردت جناحيها فغذا هي فتاة فائقة الحسن أسمها نورا، تأخذه وتطير به بعيدا لتحط في جزيرة كأنها الجنة، يؤسسان لعالم جديد فكأنهما آدم وحواء زمانهما، تنجب له توأما ذكرا ( عشق ذكر برأس طائر وجسم إنسان) وأنثي ( غرام، برأس إنسان وجسم طائر) "أما عشق وغرام فتفرقا في البلاد، فحط كل واحد منهما في بلد، وعشق كل واحد منهما إنسيًا وإنسية فتزوج عشق ببهجة، فتاة كانت تبيع مع أبيها العسل، وتزوجت غرام بأسعد؛ فتى كان يبيع مع أمه اللبن. وماتت غرام وزوجها أسعد من دون إنجاب، وأنجب عشق من بهجة ابنة بائع العسل السيدة حورة" "7".
فأي سيدة تلك هي ابنة العشق والبهجة؟ ولعل الكاتب منحها اسما يصفها، فحورة لغويا مؤنث حور، وحور جمع حوراء، اسم مشتق من الحَوَرُ وهو يعني المرأة التي تتميز بسواد العين وبياضها الشديد، وهو اسم علم مؤنث يطلق على النساء الجميلات المَوجودات في الجنة.
وقد يكون للاسم دلالة أخرى مرتبطة بالإله حورس، و الربة "حتحور" التي ارتبطت بالسماء، و"حور" السماوي، ووصفت بـ (سيدة السماء)، و(سيدة النجوم) كابنة للمعبود "رع". ومن المعلوم أن حتحور أو حوط حور يعني "حضن (أم) حورس"، فأبناء حورة قد يكونوا من سلالة أبناء حورس الواقفين على زهرة اللوتس لمحاسبة الموتى، ويرجح ذلك أن حورة وأبنائها كلهم من ذوي المناقير الزرقاء، فاللون الأزرق هو لون السماء ورمز البعث عند الفراعنة، وقد ارتبط بحتحور.
تحكي الرواية عن حورة الطائر الضخم، الذي يحمل رأس أنثى فاتنة، تضع حورة بيضها في أربعة أماكن هي مصر وتونس والمغرب ودولة متخيلة من كل اللاجئين، ويخرج من البيض أبناؤها العمالقة الأربعة عشر يتَوزعون في البلدان المختلفة بين مصر (سبعة)، وتونس (خمسة) والمغرب (الحر الواثق) وابنة فاتنة أيضًا هي (الحسن الساري).
وتبدأ الحكاية باكتشاف سكان القاهرة لبيضة حورة، فيقفون في "طوابير ممتدة لأكثر من عشرة كيلو مترات (...) وكثرت التوقعات والتخمينات حول تلك البيضة النبّاضة ومتى وُضعت فى هذا المكان؟ ومن هى أمها؟ لابد أنها طائر ضخم يُشبه طائر «الرُخ» فى الحكايات القديمة ومتى سيهبط ذلك الطائر الأنثى ليرقد على بيضته؟ وهل سيتحمل الناس رؤية ذلك المنظر المفزع لطائر عظيم بجناحين يُغيبان السماء والشمس إذا هبط نهاراً؟ ويغرق الميدان فى الظلمة التامة إذا هبط ليلاً". "8"
يحاول أحدهم أن ينهي الأمر برمته فيقرر تحطيم البيضة الضخمة، يهوي عليها بالمرزبة، "وإذا به يجد السماء قد أظلمت من فوقه إظلاماً تاماً وصوت رفرفة يجعل الهواء يكاد يقتلعه من مكانه" "9"، فقد حضرت حورة لتنقذ بيضتها، " واستقر الطائر الأنثى الضخم على أرض الميدان فوق بيضته وهو ينظر بغضب شديد نحو المسكين ضئيل الحجم الذى طاشت مرزبته، لم تكن رأس الطائر بالرأس العادية للطيور أبداً، كانت رأس سيدة ثلاثينية بشعر طويل بنى ناعم مُنسدل وعينين بنيتين متسعتين ورموش طويلة سوداء ووجه أبيض مدور وخدود كلثومية وشفاه غليظة وكان لها نهدين كالنساء ولكن يحيط بهما الريش كفستان من فساتين النجمات في أوائل القرن وأخذت تُحدق والرجل يتراجع ثم تنظر للبيضة في حضنها بحنان ثم تُعاود التحديق للرجل الذى خارت قواه تماماً ونام على الأرض ورفع يديه لأعلى مستنجداً منها بالسماء ومدت أنثى الطائر فمها إلى ساقيه والتقمتهما وبدأت في تكسير بيضتها برأسه، كانت ترفع جسده فى الهواء وتهوى برأسه على قشرة البيضة مرات متتابعات والناس تصرخ، إلى أن نجحت تماماً في كسر بيضتها وألقت بجثة المسكين بعيداً بكل قوتها فهوت في نهر النيل كحجر طائش". 10"
ونلاحظ أن حورة اختارت لبيضها أماكن مثل ميدان التحرير في القاهرة وساحة الاستقلال بتونس، وهي أماكن ارتبطت بالثورات المطالبة بالعدل والحرية، فكأنها تنتصر لهذه القيم، وهذا ما يعلنه أبناء حورة، ففي ميدان التحرير يخرج من البيضة سبعة عمالقة، ويعلنون قيام دولتهم، يقول أحدهم: "بسم الله... لم نقتل منكم إلا من حاول قتلنا، رجل أقبل يريد تكسير بيضتنا فانتقمت منه أُمنا، وقبل ذلك لم يمت منكم إلا من خالطه الوهم ولعبت برأسه الشياطين، فما تلك الأسماء التي سمعتموها إلا همسات كنا نهمس بها أوقات لعبنا داخل البيضة، وقادكم فضولكم لسماعها، وقادكم وهمكم إلى الموت بسببها، نحن الأخوة السبعة أبناء السيدة المحترمة حورة سنحكمكم سبع سنين بالعدل إذا عدلتم، وبالفضل إذا تفضلتم، وبالظلم إذا ظلمتم، فما نحن إلا انعكاسا لأفكاركم وسلوككم فأرجعوا إلى بيوتكم وكونوا حذرين فهذا هو اليوم الأول فى السنة الأولى من حكم أبناء حورة"."11"
هكذا يعلنون دعائم دولتهم التي تستمر طويلا _ ربما لأنها قامت على العدل _ حتى تنكسر أمام طاكين وجيوش الراصدة، لكن سرعان ما يلقي طاكين حتفه، وينتهي رماح من حكايته، فما النص كله إلا حكاية، لكن أحدهم يهمس له: هل تظن أن الحكاية انتهت يا رماح؟ "12" ليوحي السؤال أن موت طاكين كان نهاية مؤقتة، لكن غيره قد يأتي ليتجدد الصراع.
كان ياما كان
اعتدنا جميعا عند سماعنا الحكايات، أن يبدأ راوي الحكايات بلازمة يفتتح بها حكايته وهي "كان ياما كان" للتأكيد على أن أحداث حكايته تنتمي إلى الماضي، وهذا طبيعي فالراوي دائما يستعيد حكايات منتهية، لكن "عبدالرحيم كمال" يبدأ حكايته من المستقبل، يفتتح روايته هكذا: "وحين ترك الإنسان الشوارع في السنة الثلاثين بعد الألفين والتزم بيته، لم تستعد الأرض عافيتها فقط، بل استعادت أيضاً حشرات وحيوانات عافيتها بقدر مبالغ فيها. (...) وكانت معارك شرسة فى السنة الحادية والثلاثين بعد الألفين بين البشر وبين ما تضخم من تلك الكائنات انتصر فيها البشر فى بعض القارات وانتصرت الحشرات والحيوانات فى قارات أخرى، أما ما حدث فى إفريقية وفى شمالها تحديداً فهذا هو الأكثر عجباً والأشد غرابة."13"، فكأن الإنسان هو من أفسد الشوارع بحركته، لذلك فالرواية تهجو واقعنا الحالي، وتقفز فوقه إلى المستقبل لتجعل من الحاضر ماضيا يمكن أن تحكي عنه، وهكذا يرتد عبلا الفلاش باك إلى عام 2020 وبداية ظهور وباء الكورونا، الذي تراه الرواية من صنع الإنسان وليس عقابا إلهيا.
***
يصدر الكاتب لروايته بصفحتين يسميهما مقدمة، يتحدث فيها عن متابعته لطائر ويرسى قواعد الفرجة وتتمثل في المتابعة الصامتة لما يرى مع اطلاق العنان للخيال ربما لتعويض ثبات الجسد وقت الفرجة. ولعل الكاتب يطالب قارئه بالتزام القواعد نفسها ليتمكن من سبر أغوار الرواية التي استعار الكاتب لها إطارا دراميا يحتوي أحداثها، ويتشابه مع البناء التقليدي للدراما ثلاثية الفصول، وهكذا جاء الباب الأول (حورة) ليمثل استهلالا للحبكة، وفيه يحكي تاريخ حورة وأبنائها، وفي الباب الثاني "حور ونور" وهما حفيدي حورة ويحاولان إرساء قيمة الحب لتضاف إلى قيمة العدل التي امن بها الآباء. ثم يجيء الباب الثالث (الراصدة) فيقدم الخصوم الذين يملأون الأرض بالجواسيس، ويصور الصراع مع طاكين ملك الراصدة، الذي قرر أن يكون سيدا للأرض وبطلا لكل الحكايات.
وثمة أثر آخر لخبرة الروائي بالكتابة الدرامية، يتبدى في كثرة الاعتماد نسبيا على الحوار، اعتمد بشكل كبير على الحوار، مما أسهم في إبطاء السرد في بعض المواضع، لكنه أسهم في تطوير الصراع الدرامي كما كان كاشفا عن الشخصيات سابرا لأغوارها، كما في الحوار بين أمجد والشيخ صفي الدين، يكشف حوار أمجد ما يخفيه في نفسه من مشاعر سيئة تجاه أخويه، يقول: "وأحمل أبناء بدر الدين ونيرة وألهو معهم ثم أموت بلا أثر كأنني لم أمر بقدمي على هذه الأرض، لم يجئ أمجد إلى تلك الدنيا، ها أنا والعدم سواء، بأي شيء تطيب خاطري وتمنحني الصبر؟"، فيرد الشيخ صفي الدين بيقين: "أثرك يبقى في حكم عادل وقول رحيم (....) أثرك يبقى في ستر سترت به بدن فقير، وفي لقمة أطعمت بها فم جائع"، وحينما يلمح على وجه أمجد علامات عدم الاقتناع بما يقول شيخه، يتحسر الشيخ ويستطرد: "أتدري يا أمجد من هو الذي بلا أثر الآن؟ إنه أنا" ثم يكمل بغضب موضحا يقينه بضياع أثره: "ضاعت كل حكمة لقنتها لك صغيرا، كل زهرة قربتها من أنفك لتشمها، كل قمر أرسلت نظرك إليه لتقتبس روحك من نوره". "14"، ويكون طبيعيا مع احتدام الصراع وبلوغهما ذروته أن يعلن الشيخ: " يا أمجد لا مكان لي معك ومع شيطانك، إما أنا وإما هو"."15". هكذا وفي مكان ثابت محدد هو القاعة التي جمعت بينهما، يؤدي الحوار الطويل نسبيا إلى توقف السرد لكنه ينوب عنه في الكشف عن نفسيتي الشخصيتين، ويوضح تصاعد الصراع النفسي بينهما بما يمهد لافتراقهما.
وفي داخل هذا الإطار الدرامي يقدم عبدالرحيم كمال عنقودا من الحكايات المتداخلة، والمتفرعة عن حكاية مركزية هي حكاية حورة وأبنائها، مستلهما في ذلك آليات البناء السردي في كتاب "ألف ليلة وليلة"، فتأتي الحكايات الفرعية مكملة لبعضها البعض ليس في تواتر وتوالي أحداثها بل في أثرها وفي تفسير كل منها للأخرى أو في علاقتها بالحكاية المركزية، وقد لجأ الكاتب إلى هذا الشكل لأسباب عدة منها مناسبته للجو الأسطوري الذي يغلف أحداث وشخصيات الرواية، ومنها أنه يفيده في سد العديد من الثغرات السردية التي قد تنشأ نتيجة لتعدد الأماكن وتمدد الأزمنة ووفرة الشخصيات والأحداث، فهذا الشكل فضلا عن الإطار الدرامي ثلاثي الفصول الذي احتوى الحكايات، ساعده في تجنب العديد من الثغرات السردية، فقد انتهى الباب الأول بالدنيا وقد أظلمت إثر سقوط رماح الذي سقط على الأرض إثر تلقيه عصا غليظة على رأسه "16"، معلنا بذلك عن انتهاء حكم العمالقة من أبناء "حورة"، ويبدأ الباب الثاني من الرواية، متتبعاً آخر نسلها، وقافزا فوق حاجز زمني يمتد لعقود وعقود لكن تتبعه لم يكن ليضيف شيئا لما حكاه الراوي في الباب الأول، ونفس الأمر يتكرر مع نهاية الباب الثاني يحل الضباب الكثيف ليمهد للانتقال إلى الباب الثالث وحكم الراصدة، وظهور دولة اللاجئين، فيصور سعي "طاكين"، للاستيلاء على حكايات وتاريخ الشعوب.
في دراسته "ألف ليلة وليلة وسحر السردية العربية "17"، يخلص الكاتب العراقي "داود سلمان الشويلي"، إلى أن حكايات ألف ليلة جاءت كعنقود العنب في تصميمه، والرابط لمجموعة من الخيوط السميكة التي كانت هي الأخرى تحوي على مجموعة من الخيوط الخضراء الرفيعة التي تحمل حبات العنب، وهي بهذا التنظيم الفني الرائع تمثل في بنائها عنقوداً واحداً أساسه "حكاية المفتتح" حيث تتفرع منها، حكايات أخرى أطلق عليها اسم "حكايات الإطار" أي الجامعة لنوع آخر من الحكايات، لا تختلف عنها بشيء، ولكنها تدخل في بنائها ومحتواها، وقد أسماها بحكايات التضمين ، أي الحكايات التي جاءت ضمن حكايات الإطار. ثم توالدت حكايات أخرى داخل حكايات التضمين أسماها حكايات خارج السياق. لأن حكايات التضمين لها ما يعلل سبب ورودها داخل حكايات الإطار حيث ترتبط بالمحتوى العام بوشيجة أو أخرى، كأن تكون بسبب حكمتها، لأنها تحمل دلالاتها الرمزية لحديث ما، أو أن تكون للتسلية، أو… الخ ولكن حكايات خارج السياق لا تفيد المحتوى العام لحكايات الإطار بشيء اللهم إلا إفادة حكايات التضمين منها، وقد جاء النوعان الأخيران إما لاتخاذهما عبرة، أو للتسرية عن أحد شخوص الحكاية، أو لدفع مكروه عن أحد الشخوص."18".
وهكذا يحدد الشويلي أربعة أنواع تتوزع عليها حكايات ألف ليلة، وهي:
1 ـ حكاية المفتتح: وهي حكاية الملك شهريار وما جرى له من أحداث منذ اكتشافه لخيانة زوجته الأولى وحتى نهاية الليالي.
2 ـ حكايات الإطار: وهي الحكايات التي أخذت شهرزاد تقصها أمام زوجها الملك شهريار.
3 ـ حكايات تضمينية: وهي الحكايات التي تدخل ضمن حكايات الإطار ولها دلالاتها الفنية والمضمونية.
4 ـ حكايات خارج السياق: وهي الحكايات التي ترد داخل الحكايات التضمينية دون أن تفيد شيئاً في مجمل أحداث حكايات الإطار أو الحكايات التضمينية.
والقارئ لرواية "أبناء حورة" يجد الأنواع الأربعة متوفرة في ثنايا الرواية، فحكاية المفتتح هي حكاية حورة وأبنائها العمالقة، ونتعرف عليها ابتداء من الصفحات الأولى للرواية، وقد مهدت حكاية المفتتح لفعل القص شكلاً ومضموناً ليقوم بدوره في نقل مجموعة من الحكايات الأخرى، وهنا ينشأ الفارق بين حكايات ألف ليلة وحكايات أبناء حورة، ففي ألف ليلة لا علاقة للحكايات التضمينية بالحكاية الأولى إلا بما يطيل من زمنها، بينما في "أبناء حورة" نجد الحكايات مترابطة وتتصل كلها بالحكاية الأولى لحورة الكائن الأسطوري نصف البشري ونصف الطائر.
نزوع صوفي
تتناص رواية أبناء حورة مع القرآن في مواضع عديدة، وقد يأتي التناص بذكر آية قرآنية أو باستلهام قصة قرآنية كأهل الكهف، وهدهد سليمان، أو حكاية النبي موسى مع الخضر، والنبي يونس مع الحوت، لكن الرواية المشغولة أساسا بالعدل وبالحب في معناه الإنساني تستلهم الرموز الصوفية، وهذا ما يحدث كثيرا في أعمال عبدالرحيم كمال الدرامية أو الروائية، وربما يكون الميل للأسطورة عند الكاتب أحد تجليات نزوعه الصوفي، فقد يكون تمثلا لكرامات وشطحات الصوفية، كذلك يتمثل رموز الصوفية وخصوصا رمز الطير. كما أن معادلة النفس البشرية بالطائر موجودة سواء في الأساطير أو في آثار المتصوفة من "الحلاج" وحتى "الرومي" فالروح البشرية عندهم مثل الطائر قد تختار أن تظل محبوسة فى قفص فى هذا العالم الفاني أو أن تنطلق صوب الحرية، وهو طيرانه يرمز إلى تجربة البحث الروحي والارتقاء نحو الله.
ونجد في كتاب "منطق الطير" لفريد الدين العطار، طيورا كانوا معروفين داخل سربهم مثل الهدهد والصقر والببغاء والطاووس والعندليب والحسون والبطة والحجلة، ويشير كل طير منهم إلى أنواع من الصفات البشرية. فمثلا الهدهد عند المتصوفة رمز للمعرفة والحكمة أما في "منطق الطير" فإنه يرمز إلى شيخ الطريقة الصوفي، أو الإنسان الكامل الذي خبر هذا الطريق."19"
والطيور في رواية أبناء حورة لها نفس المكانة فيجعل منها المؤلف نقيضا للإنسان، ويجعلها معادلا للقيم التي تنتصر لها الرواية وهي قيم الحب والعدل والخير، فإذا كانت حركة الإنسان في الكون هي سبب الوباء الذي أجبره على العودة إلى البيت، فإن العدل لا يتحقق إلا في ظل حكم أبناء حورة، وهم السلالة الناتجة عن تزاوج الإنسان بالطير، أو الطير الذي يمتلك رأس إنسان، أي الطير الذي يمكنه أن يعقل ويفكر، كذلك يتجلى النزوع الصوفي عند المؤلف في شخصية الشيخ " صفي الدين" الذي يتخذ من الحب مذهبًا، فيجمع بين راشد ومنحة المنان، والذي يجمع أيضًا بين كل من نور وحور، وكل من الرياحي التونسي والملكة نيرة، فالشيخ صفي الدين لم يكن مجرد مجب بل كان تجليا للحب وهو الرمز الصوفي الأسمى، وهو السلاح الأقوى الذي مكن أبناء حورة من الانتصار على طاكين.
_______
الإحالات:
1_ مالكولم برادبري: الرواية اليوم، ترجمة أحمد عمر شاهين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، الطبعة الأولى1996، ص ١٠٨ .
2_ عبدالرحيم كمال، أبناء حورة، دار الكرمة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2021
3_ فرانكفورت، هـ وآخرون. "ما قبل الفلسفة، الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى"، ترجمة جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1980ص 13.
4_ الأسطورة والمعنى، دراسات في الميثولوجيا، الديانات الشرقية، فراس السواح، دار علاء الدين، دمشق، الطبعة الثامنة، 1997، ص30
5_ النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة، نضال الصالح، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2001 الطبعة الأولى، ص7
6_ ر. م. البيريس، "تاريخ الرواية الحديثة". ترجمة جورج سالم، دار عويدات، بيروت، الطبعة الثانية، 1980ص 19.
7_ أبناء حورة، ص102
8_ أبناء حورة، ص11
9_ أبناء حورة، ص13
10_ أبناء حورة، ص14
11_ أبناء حورة، ص15
12_ أبناء حورة، ص421
13_ أبناء حورة، ص 9
14_ أبناء حورة، ص 159
15_ أبناء حورة، ص159
16_ أبناء حورة، ص178
17_ داود سلمان الشويلي، ألف ليلة وليلة وسحر السردية العربية، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2000 الطبعة الأولى،
18_ داود سلمان الشويلي، مرجع سابق ص11-12
19_ هيفرو محمد علي ديركي، جمالية الرمز الصوفي النفري والعطار والتلمساني، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 2009 ، ص182.
قد تكون صورة لـ ‏‏شخص واحد‏ و‏نص‏‏
https://scontent.faly3-1.fna.fbcdn....5uUjpg18m4rePFTCsxz7fB2dzP6pROksQ&oe=62241F7E

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى