أبووردة السعدني - مرعي الحنبلي و".. فضايل آل عثمان"

... مرعي بن يوسف الكرمي ، ثم المقدسي ، رحل إلى القاهرة طلبا للعلم في الأزهر الشريف ، فطاب له المقام بها ، ثم تصدر للتدريس وأصبح من أكابر علماء الحنابلة في مصر ، توفي - على أرجح الآراء - سنة 1069/1658 ...
... برع الشيخ مرعي في علوم عصره ، حتى صار من العلماء المعدودين ، نعت بأنه " الإمام المحدث الفقيه ، ذو الاطلاع الواسع على نقول الفقه ودقائق الحديث " ، اشتغل مدرسا للفقه الحنبلي في جامع أحمد بن طولون ، كما تصدر للتدريس في الجامع الأزهر ، ثم تولى - في أواخر حياته - مشيخة المدرسة الملحقة بجامع السلطان حسن في القاهرة ....
... تميز الشيخ مرعي بأنه كان عالما معتدا بعلمه ، مبرئا نفسه عن مداهنة ذوي النفوذ والسلطان ، آخذا عليهم قبولهم للرشا ، وتعيين مدعي العلم في مناصب التدريس ، إلى جانب اعتقاده - الراسخ - أن " جهلة الصوفية " وباء على العلم والعلماء ، وخطر على المجتمع المصري ، لميل الناس إلى تصديق خرافاتهم ، واصفا حالهم بأنهم ذوو " أكمام طويلة ، أو ملابس مهولة ، وأذيال مسدولة ، أو عمامة كالبرج ، وأكمام كالخرج " ، وإذا تعرض أحدهم للإفتاء " يصد السايل بسفهه وصخبه ، ويوهم الجاهل بعلو منصبه وكثرة كتبه ، فإن حكى : حكى مجنونه ، أو أنشد : أنشد قصيدة ملحونه ، أو ساق مسيلة ساقها بهذيان لا يعقل ..."...
... من مؤلفات الشيخ مرعي الحنبلي - في علم التاريخ - كتاب " قلايد العقيان في فضايل آل عثمان " ، ألفه عن الدولة العثمانية ، اختلف فيه اختلافا كليا عن سابقيه ومعاصريه ولاحقيه من المؤرخين ، فلقد خصص كتابه - المذكور - لينتصر لقضية معينة ، وهي : فضائل آل عثمان التي فاقوا بها كثيرا من دول الإسلام التي سبقتهم ، واستطاع أن يجمع للعثمانيين ثلاثا وعشرين فضيلة ،عرضها عرضا موضوعيا ، مفترضا ما قد يثار حولها من أسئلة ومجيبا عنها ، وما قد يوجه إليه من اتهامات ، مفندا إياها بالأدلة القاطعة والبراهين الدامغة ....
... وإذا دققنا النظر في الفضائل التي أوردها الشيخ مرعي الحنبلي ، نجدها تؤكد طابع الدولة العثمانية الإسلامي ، خاصة أن الدين الاسلامي في تلك العصور كان الرابطة القوية التي ربطت المسلمين بسلاطين الدولة العثمانية بعروة وثقى لا انفصام لها ، تنوعت مظاهر هذا الطابع الاسلامي وتعددت ، ويمكن حصرها فيما يلي :
أولا : ما يتعلق منها بأشخاص السلاطين أنفسهم ...
ثانيا : ما يتعلق منها برعايتهم للحرمين الشريفين ، وتكريمهم العلم وتشجيعهم أهله وطلابه ...
ثالثا : ما يتعلق منها بسعيهم لنشر الاسلام في أوربا ، وجهادهم في سبيل الدفاع عن السواحل والشواطيء الإسلامية ضد الصليبيين القراصنة ....
... من أمثلة فضائل النمط الأول : أن سلاطين الدولة العثمانية لهم عراقة في السلطنة والملك ، وشرف في الحسب والنسب ، وقد نقل الشيخ مرعي روايات المؤرخين في هذا الخصوص ، فبعض المؤرخين يرجع نسب العثمانيين إلى " التركمان " الرحالة ، وكانوا سلاطين في بلاد " ماهان " ، ويصل نسبهم إلى " يافث بن نوح " عليه السلام ، والبعض الآخر - من المؤرخين - يؤكد أنهم - أصلا - من عرب الجزيرة العربية ، ومن المدينة المنورة ، ويخرج الشيخ مرعي من تلك الروايات بنتيجة مهمة ، قائلا : " نخلص من مجموع ما تقدم أن لهم عراقة في السلطنة والملك ، من قبل دخولهم إلى بلاد الروم ..."....
ومن فضائل العثمانيين : أن السلطان - منهم - يموت ولا يؤثر عنه أنه جمع أموالا ، أوخلف تركة يقتسمها ورثته من بعده - كما هي عادة الملوك والسلاطين - ، معللا - الشيخ مرعي - ذلك : بأن العثمانيين دأبوا على قتل اخوتهم ، بل وقتل بعض أبنائهم الذكور ، خوفا من منافستهم إياهم على الملك ، وخشية إثارة الفتن والقلاقل ، فلا وجه - حينئذ - لأن يتركوا ميراثا ، أو أن يقتسموا تراثا ...!!...
... وعلى الرغم من أن الشيخ مرعي أكد أ ن عادة قتل الإخوة والأبناء بدعة ينفر منها الطبع السليم ، إلا أنه يرى في هذا التصرف - رغم بشاعته - خيرا كثيرا ونفعا عميما ، وعرض آراء الفقهاء في تلك القضية ، وناقشها مناقشة علمية ماتعة ، ثم خلص من ذلك كله إلى جواز قتل الإخوة والأبناء خوفا على الملك ، ورغبة في الاستقرار والأمن لعامة المسلمين ، سياسة لاشريعة ، فباب السياسة أوسع من باب الشريعة في إباحة هذا الأمر ....
...ثم أورد - المؤلف - عدة فضائل تتعلق بسلوكيات السلاطين ، تؤكد - في مجموعها - تمسكهم بالكتاب والسنة ، ومحافظتهم على حدود الله ، ومحاربتهم للبدع والضلالات ، وامتثالهم للشرع الحنيف ، لا يبرم سلطان منهم أمرا دون تأييده من حاكم الشرع ، ممثلا في مفتي السلطنة وقاضي العسكر ، ولم يلحظ على واحد منهم أنه ارتكب منكرا قط ، وإنما " بيوتهم وقصورهم وسراياهم مشحونة بتلاوة القرآن ، ومطالعة كتب العلم ... مع المحافظة على الصلوات في أوقاتها ، حتى إن مماليكهم وأتباعهم الذين داخل سراياهم كلهم كذلك ... صغيرهم لوحه بين يديه ، وكبيرهم مصحفه يقرأ فيه وينظر إليه ، أو يشتغل بالعلم ومطارحة المسايل ، ولا يكاد يوجد فيها إلا فاضل أو كامل "....
... ومن أمثلة فضائل النمط الثاني - الخاص بالحرمين الشريفين وتكريم العلم وتشجيع أربابه - ، فما أورده الشيخ مرعي من فضائل تدور - معظمها - حول تمهيد الطرق والسبل إلى بلاد الحجاز ، وتأمينها من تهديدات العربان الذين اعتادوا اعتراض حجاج بيت الله الحرام ونهب قوافلهم ، وإجراء عيون المياه العذبة ، وتعمير أسوار المدينة المنورة لصد المغيرين عليها ، ومواصلة دعم سكان تلك المناطق المقدسة بالهدايا الجزيلة والعطايا الوافرة ، إلى جانب اهتمامهم وعنايتهم بالقدس الشريف في فلسطين ، الأمر الذي زاد سلاطين الدولة العثمانية فخرا وتشريفا ، وتوقيرا ومهابة في أعين رعاياهم المسلمين ...
... ومن ناحية رعايتهم وتوقيرهم وإجلالهم للعلم والعلماء ، فقد كانوا - كما يقول الشيخ مرعي - يجلون القرآن الكريم ، ويكبرون رجال العلم ، ويتخذونهم أعوانا ومستشارين ، يعتمدون على آرائهم وفتواهم في سير نظام السلطنة ، وينتصحون بنصحهم ، بخلاف من سبقهم من الخلفاء - خاصة خلفاء العباسيين - ، إذ سود - بعضهم - صفحات التاريخ بسبب إهاناتهم المتكررة للأجلة من أئمة المذاهب الفقهية ، وما كابده الامام أبوحنيفة النعمان من صنوف العذاب - في عصرهم - خير شاهد على ذلك ..!!...
... وأما النمط الأخير من الفضائل ، والخاص بجهادهم : فقد جمعوا معظم أقاليم العالم الاسلامي في دولة واحدة ، لا حدود تفصل بينها ولاحواجز ، وجددت عاصمتهم - إستانبول - وأحيت ما اندرس من محاسن دمشق وبغداد والقاهرة ، كما أنهم يملكون جيشا قويا مجهزا بأحدث معدات الحرب والقتال ، للحفاظ على الأمن في البلاد التابعة لهم ، هذا في الداخل ، وأما في الخارج : فإن جهادهم متواصل - لاستكمال مسيرة أسلافهم - نشرا للاسلام في أوربا ، ويمتلكون أسطولا بحريا قويا لحماية الثغور والشواطيء الإسلامية ، ومطاردة قراصنة البحر الصليبيين الذين دأبوا على الإغارة على السواحل الإسلامية ، ومهاجمة السفن التي تمخر عباب البحار جيئة وذهابا ، مقلة حجاج بيت الله الحرام ، أو حاملة للتجارة والبضائع الاسلامية ...
... يخلص الشيخ مرعي الحنبلي - من كل الفضائل التي أوردها في كتابه - إلى أن سلاطين الدولة العثمانية حازوا - بسبب تحليهم يشمائل عالية القدر - فضيلة أجل وأعظم ، لم ينلها غيرهم من الخلفاء والسلاطين والملوك ، خاصة بعد أفول شمس الخلافة الراشدة ، هذه الفضيلة هي : تعلق قلوب الرعايا بهم ، ذلك التعلق الذي وصل إلى درجة لايمكن أن يضارعهم - في مضماره - أحد غيرهم ، حتى إن هؤلاء الرعايا لا يجول بخواطرهم - مطلقا - أن ينسبوا للسلطان العثماني عملا مشينا ، وإنما ينسب ذلك لحاشيته وموطفيه ....


*********************
... إيجاز من كتاب :
المؤرخون في مصر في العصر العثماني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى