اجتمعَ الناسُ في ساحةِ المدينةِ خلفَ السوقِ وقد أَخَذَهمُ الذهولُ، الناسُ المحترمون فاجأهم نهيقٌ متصلٌ لحمارٍ يتسكعُ هناك مع حمارين يشبهانهُ تماما، كان الوحيدُ من بين تلك الحُمُر ينهقُ بينما كان الإثنان الآخران يرمّان ما يلفظهُ السوق بشراهة صامتين وكأنهما في سباق، ظلّ الحمارُ ينهقُ منذ صياحِ الديكِ، الذي أخرسَهُ النهيقُ مقاطعاً صَلاتَهُ الصباحية، لاحظ ذلك الناسُ المحترمون وعدّوهُ صَلفَاً من جهةِ الحمار وذلك محتمَلٌ، الحمير تفعلُ ذلك أحياناً ولكن لوقتٍ قصير، بقيَ الحمارُ ينهق بينما انهتِ الكلابُ نباحَها وهي تُنصِتُ إلى نهيقٍ على غيرِ العادةِ مُرجحةً أنّ أمراً ما قد حصل وراحتْ تهرُّ هريراً خافتاً كما تفعل في يومٍ زمهريري وهي تفعلُ ذلك عند توجسها وترقبها حتى وإن كان الصيفُ في أوجهِ، وحدَها الأحصِنةُ كانت صامتةً فهي لا تصهلُ أبداً عندما تنهقُ الحمير، استيقظ َالناسُ وامتلأتِ الشوارعُ والطرقاتُ بهم ومازالَ الحِمارُ ينهقُ دونَ كللٍ، انهالَ عليهِ رجالُ الشَرَطة بالعصيّ وهو ينهقُ لكنْ هذه المرة بطريقةٍ خيّلَ للناس أنها تشبه الضحكَ مكشرا عن أسنانٍ بيض ذات قواطع كبيرة وهم يحاولون جرّهُ من أذنيه الطويلتين أو سحبَهُ بالحبالِ بيدَ أنه أحرنَ ولم يطاوعْهم وهو يصمّ آذان المارة بنهيقهِ المُخيف، فكر الناسُ أنّ هذه هي المرة الأولى التي يرون ويسمعون فيها حماراً يواصلُ نهيقَهُ دونَ انقطاعٍ كلّ هذه المدةِ وعدّوهُ أمراً استثنائياً ولم يكن تحمّلهُ لكل هذه العصي تلسعُ ظهرَهُ ومؤخرتَه عجيباً فهم يعرفون صبرَه الطويلَ ولكنهُ كلما رفع مشفريه ذكّرهم أنه يملكُ قواطعا كبيرةً وفكين قويين جعلت رجال الشرطة يحسبون حسابها، تجمّع الناسُ مثل بعوضِ البرديّ في الصيف يستجلون الأمرَ بطنين لا يُسفرُ عن شيءٍ، يتساءلون عن هذا النهيق وما الذي سيفضي إليه وبينما هم منشغلون بالحديث عن حالات تاريخية نادرة كانت فيها الحميرُ تنهقُ بحماسٍ، حصل ذلك عندما دخل المارينز بدباباتهم إلى بغداد لكنهم لم يذكروا شيئا عن نهيقٍ متواصل وحينَ مُنيت محاولات رجال الشرَطة بالفشل خيل إلى الجميعِ أنهم قد سَمِعوا ما بين النهيق أو في طيّاتهِ ما يشبه الكلمات، التقطوا كلمة تعبان، آآآه.. لا أطيق..آآآه ..العربة..أسلافي تحملوا ... الحمار، الحمير لا بد أن تتكلم، تكررت شبيهات الكلمات مرات عديدة حتى بات من الصعب على السامعين من الناس أن يتجاهلوا ذلك، طالما انهالوا على ظهور الحمير بعصيهم مستغلين صبر الحمار الطويل، هم يعلمون ذلك حتى أنهم منحوه كنيته الشهيرة ..(أبو صابر)، ربما كان أقصى التوقع أن تند عنه نهقات يتخللها شحيج ألم لكنهم لم يتوقعوا يوما أن يسمعوا ما بين النهيق كلاما مفهوما كما يسمعون الآن ومما زادهم دهشةً أن النهقات الأخيرة كانت واضحةً تماما وهو يقول:
- العجب من سكوت الحمير وصبرها الذي يبدأ بآه ولا ينتهي بآه حتى نسيت أن لها أسناناً طويلةً، أنا أحفظ عن ظهر قلب آهات أسلافي الطويلة آآآآه.....آآآآآه.
بعد آهتين طويلتين والنقطة التي أنهتْ ما قاله الحمار ساد صمتٌ مطبق على أنحاء المدينة أربكهم هذا الصمت، نظر الناس بعيونٍ مستفهمةٍ إلى بعضهم ومن ثم إلى الحمار الذي بدا مهطعا برقبته الطويلة إلى الأرض منسلاً من بين عصي رجال الشرَطة حماراً عاديا قد أنهى نهيقه واختلط مع رفيقيه والناسُ مشدوهون قد أخذتهم الرهبة أيّ مأخذٍ، ولما أُشكلَ على الناس المحترمين فرزه من بين الحمير الثلاثةِ الواقفة هناك والتي استمرت تمارس حياتها كحيواناتٍ جَلاّلةٍ كان الجمعُ يسألَ بعضَه:
-أحقاً ما سَمِعتُ... أم أنا أتوهم فيردّ عليه الآخر:
- هل سمعتَ أنت أيضا أم هو خيالي الذي اشتط وذهب بعيدا
وانفضّ الجمعُ وهو يتساءل أحقا ما سمعنا، ورجع الناس إلى بيوتهم وكان الحديث بعد الغداء عن وهمٍ أصابَ الجميعَ في لحظةٍ واحدة، نام الناسُ واستيقظوا وظنّ كلُّ واحدٍ منهم أنهُ رأى وسمع حماراً يتكلم، حمارا عربياً فصيحاً وكان الجمعُ يقول عجبا لقد حلمنا الحلمَ ذاته الليلةَ البارحة، فأنا وجاري وجارُ جاري والذي يليه قد رأينا الحلمَ ذاته، أليس ذالك عجيباً؟ ثم بعد ذلك صمت الجميع وزاولوا أعمالهم كما كانوا يفعلون بعد كل حلمٍ يغشاهم في المنام أو يتوهمون أنهم رأوه وراحت المدينةُ تسفح زمنها المهدور على رنة نهيقٍ هنا ونهيقٍ هناك ولكنه لم يكن إلا نهيقاً عادياً لا تعبأ به لا الديكة ولا الكلاب ولا الناس المحترمون.
فيما تبقى من زمن المدينة راح الأطفال الذين وُلِدوا فيما بعد وقد أسمعتهم جداتهم حكاية الحمار الذي تكلم ذات يوم ينتظرون حادثا مماثلا وهم يُلاحقون الحمير التي تجر عرباتها لعلهم يحظون بحمارٍ خارج أطواره ولكن دون جدوى باستثناءِ تغييرٍ طفيفٍ بعد ذلك إذ راج في السوق تمثالٌ صغيرٌ لحمارٍ يرفع رأسه ويُكشّر ضاحكاً مفترّاً عن أسنانٍ بيض وراح الناسُ يسعون لاقتنائه ووضعه في صالونات البيوت ليس لجماله والحقّ أنه جميلٌ ولكنهم يقولون لكي لا ننسى ذلك الحلم المهيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت
هذه القصة تحفة أدبية آسرة , شخصياً اعتبرها أروع قصة كتبها المطلبي .
لن أتحدث عن مواقف كاتبها ولا التزام القصة ولا كيف تعري الواقع المر فهذا
كله تحصيل حاصل ولكن بناء هذه القصة , سردها الدسم , تفاصيلها , رمزيتها
لا واقعها الواقعي تماما أو باختصار هذه القصة كإبداع هو ما يعطيها هذا التميز . جمال مصطفى .شاعر وناقد
- العجب من سكوت الحمير وصبرها الذي يبدأ بآه ولا ينتهي بآه حتى نسيت أن لها أسناناً طويلةً، أنا أحفظ عن ظهر قلب آهات أسلافي الطويلة آآآآه.....آآآآآه.
بعد آهتين طويلتين والنقطة التي أنهتْ ما قاله الحمار ساد صمتٌ مطبق على أنحاء المدينة أربكهم هذا الصمت، نظر الناس بعيونٍ مستفهمةٍ إلى بعضهم ومن ثم إلى الحمار الذي بدا مهطعا برقبته الطويلة إلى الأرض منسلاً من بين عصي رجال الشرَطة حماراً عاديا قد أنهى نهيقه واختلط مع رفيقيه والناسُ مشدوهون قد أخذتهم الرهبة أيّ مأخذٍ، ولما أُشكلَ على الناس المحترمين فرزه من بين الحمير الثلاثةِ الواقفة هناك والتي استمرت تمارس حياتها كحيواناتٍ جَلاّلةٍ كان الجمعُ يسألَ بعضَه:
-أحقاً ما سَمِعتُ... أم أنا أتوهم فيردّ عليه الآخر:
- هل سمعتَ أنت أيضا أم هو خيالي الذي اشتط وذهب بعيدا
وانفضّ الجمعُ وهو يتساءل أحقا ما سمعنا، ورجع الناس إلى بيوتهم وكان الحديث بعد الغداء عن وهمٍ أصابَ الجميعَ في لحظةٍ واحدة، نام الناسُ واستيقظوا وظنّ كلُّ واحدٍ منهم أنهُ رأى وسمع حماراً يتكلم، حمارا عربياً فصيحاً وكان الجمعُ يقول عجبا لقد حلمنا الحلمَ ذاته الليلةَ البارحة، فأنا وجاري وجارُ جاري والذي يليه قد رأينا الحلمَ ذاته، أليس ذالك عجيباً؟ ثم بعد ذلك صمت الجميع وزاولوا أعمالهم كما كانوا يفعلون بعد كل حلمٍ يغشاهم في المنام أو يتوهمون أنهم رأوه وراحت المدينةُ تسفح زمنها المهدور على رنة نهيقٍ هنا ونهيقٍ هناك ولكنه لم يكن إلا نهيقاً عادياً لا تعبأ به لا الديكة ولا الكلاب ولا الناس المحترمون.
فيما تبقى من زمن المدينة راح الأطفال الذين وُلِدوا فيما بعد وقد أسمعتهم جداتهم حكاية الحمار الذي تكلم ذات يوم ينتظرون حادثا مماثلا وهم يُلاحقون الحمير التي تجر عرباتها لعلهم يحظون بحمارٍ خارج أطواره ولكن دون جدوى باستثناءِ تغييرٍ طفيفٍ بعد ذلك إذ راج في السوق تمثالٌ صغيرٌ لحمارٍ يرفع رأسه ويُكشّر ضاحكاً مفترّاً عن أسنانٍ بيض وراح الناسُ يسعون لاقتنائه ووضعه في صالونات البيوت ليس لجماله والحقّ أنه جميلٌ ولكنهم يقولون لكي لا ننسى ذلك الحلم المهيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت
هذه القصة تحفة أدبية آسرة , شخصياً اعتبرها أروع قصة كتبها المطلبي .
لن أتحدث عن مواقف كاتبها ولا التزام القصة ولا كيف تعري الواقع المر فهذا
كله تحصيل حاصل ولكن بناء هذه القصة , سردها الدسم , تفاصيلها , رمزيتها
لا واقعها الواقعي تماما أو باختصار هذه القصة كإبداع هو ما يعطيها هذا التميز . جمال مصطفى .شاعر وناقد