لعل الحذاء، والذي يرتدى في القدم، هو الجزء الوحيد من كل الملابس الإنسانية الذي خرج عن دوره الساتر ليصبح أداة اعتداء يعاقب عليها القانون، حتى ولو لم يحدث ذلك بالفعل اكتفاء بالنطق، أو اكتفاء بالإشارة التي تفسر النوايا.
والحذاء من أقدم ما استخدمه الإنسان حماية لقدمه أيام كان يتسلل فوق حشائش الغابات باحثا عن ثمار الشجر. وقد يكون الصندل هو الحذاء البدائي المناسب أيامها، والصندل الذي يرتديه تمثال رمسيس الثاني الضخم في ( أبو سنبل ) يعطيك إحساسا بأن تطورا واضحا - وطويل الأمد - قد تحقق منذ أن كان الصندل مجرد ( مداس ) منتزع من جلد مؤخرة الديناصور، ولا يزال لفظ المداس مستخدما في مواقع عربية كثيرة مصدرا من (الدوس)، ولغة سليمة تشمل جميع أنواع الأحذية، بصفتها غطاء واقيا للقدم، وكان يصنع منذ بكوره من الجلد، قبل أن يداهمه العصر الحديث بالمواد البلاستيكية، واستخدم - مع مصر - في حضارة ما بين النهرين ثم في بلاد الإغريق والرومان. وجاء أيضا إشارة للزراية والاحتقار في أغاني الرعاة القدماء الذين اجتاحوا أوربا، وهناك أنواع من أحذية الركوب ( ركابات ) استخدمها الهكسوس والجرمان والوندال وأهل النوبة في التعامل الخاص مع الحصان أو الحمار، ويظهر في السينما الأمريكية اهتمام واضح بنوعية متألقة - وبسيطة - كان يرتديها أعضاء مجلس السناتو (الشيوخ) الروماني في (يوليوس قيصر)، كما أن اليزابيث تايلور أدت دور كليوباترا وفي قدميها ( شبشب ) خفيف ورقيق مما يصلح لإثارة الوصل والود بين العرسان المعاصرين - في الريف المصري بالذات، ومن قديم الزمان استخدم ذو الرقبة للسفر والصيد، كما استعمله ممثلو المسرح الإغريقي، وكانت ذات نعال سميكة لتصبح معمرة، وفي أدوار الآلهة والعواهل والعظماء كانوا يبالغون في ارتفاع رقبة الحذاء، والتي تصل إلى ما ترتديه فصائل معينة من الشرطة وعمال رفع قروانات مواد البناء ( يسمى الحذاء هنا الكذلك )، كما أن أنواعا من الأحذية الخشبية عرفت مبكرا، واستخدمها الفلاحون في شرق أوربا في القرن السادس عشر، ومع مرور الزمن تم تثبيت الصندل الخشبي في الحذاء الجلدي، ومن هنا ظهرت فكرة الأحذية ذات الكعوب، والتي فيما يظن كانت ترتدى لأسباب طبية حتى تحافظ على الاتزان الجسدي للبشر ذوي الخلفيات السمينة، كما أن تحويرات كثيرة واجهت الحذاء كي يصلح لاختراق المستنقعات، وصل ارتفاع بعض الأحذية مثلا إلى الأفخاذ، ومنها أحذية مدببة من الأمام، وبعضها ذو بوز طويل لدرجة أن مقدمها كان يربط بركبة صاحبها بسلسلة، وهناك أحذية عريضة المقدم، وأخرى ذات نعل سميك مبالغ في سمكه، كما أن الفرنسيين وفي وقت مبكر - قبل الثورة الفرنسية بقرنين - صنعوا الحذاء ذا الكعب العالي للنساء والذي يكشف عن مدى خفتهن ورقتهن. كذلك ظهرت اتجاهات تجميل الأحذية بالحلي والمعادن الثمينة، والمواد البللورية العاكسة للضوء، كما حليت بالأشرطة والزهور، وثمة أنواع مصنوعة أصلا من الفراء ولم يكن يستعملها في أوربا إلا أهل الشمال سكان مناطق الجليد، والأثرياء من اللوردات والدوقات ونساؤهم من أهل وسط وجنوب أوربا. وفي شمال أمريكا استخدم الهنود الحمر أحذية من جلد الغزال مصنوعة من قطعة واحدة تسمى ( موكاسين )، وفي المغرب - وكان أيضا في مصر منذ ثلاثين عاما، كانوا يستخدمون أحذية من قطعة واحدة من جلد الجمل، تعالج بالدباغة وتعيش طويلا ولها أناقتها الخاصة، حمراء أو في لون الحناء بالمغرب، وزيتية أو ذات لون بني محروق في مصر، وتسمى بالمركوب، وجمعها مراكيب، ومنها جاء حذاء متسلقي الجبال، والذين يحدون الجمال مسافات طويلة.
وفي منتصف القرن التاسع عشر ابتكرت آلات صناعة الأحذية التي اختصرت جهود الحذائين أو "الجزمجية" باللهجة المصرية الدارجة، كما استطاع ليمان بلاك الإنجليزي تطوير الآلة وجعلها تخيط نعل الحذاء - ذي الجلد السميك - مع وجهه ذي الجلد الأزرق مما أحدث تغييرا في صناعة الأحذية، جعل إنتاجها الوفير يتوجه إلى الفقراء الذين كانوا - عادة - لا يرتدونها، ولاسيما من كانوا من طبقة العمال، وبمرور الوقت تطورت هذه الصناعة حتى وصلت إلى نماذج سائدة تكاد تنتج بكيفية واحدة في معظم أنحاء العالم ( ستاندرد ). غير أن ذلك لا يحول دون أنواع من الأحذية لها وقعها التاريخي في نفوس البشر، حذاء سندريللا الذي انخلع من قدمها عندما أزفت الساعة التي حددتها الساحرة لانتهاء الوقت المناسب للرقص، وقيام الأمير - الذي هام بها حبا - للبحث عنها وفي يده فردة حذائها، كذلك مجموعة القباقيب - بصفتها أحذية بدائية - التي استعملتها جماعة "أم علي" من المماليك لقتل شجرة الدر، والتي سبق لها أن قتلت زوجها الحاكم في نفس المكان "الحمام". وهناك - خارج التاريخ - وداخل مملكة النباتات نجد حذاء الست : زهرة برية من جنس الأوركيدا ذات أزهار صفر أو بيض أو وردية، وتعيش في الشمال الأمريكي، وفي المملكة الاجتماعية نجد أحذية خاصة كانت تستخدم لحلقات ( الزار ) في مصر، وفي المقابل أحذية ذات تكوين رقيق خالص تستخدمها راقصات الباليه، وظهرت أحذية أخرى للمبارزة وللسير على الشاطئ وراقصات قاعات اللهو ولاعبات الجمباز ومتسلقات سلالم السيرك، كما أن في الشارع المصري أنواعا من الشبشب البلاستيك المدلل بـ ( زنوبة)، وكان المحكوم عليهم بالإعدام - في القرون الماضية - يستخدمون نوعا من الأحذية الواسعة حتى لا تسيل نقطة دم واحدة من الرقبة إلى الأرض، وكانوا يسمونها ( الجزمة ) والتي يخلو منها القاموس العربي، لكن اللفظ تسلل من غرفة الإعدام حتى أصبحت الجزمة اسما لجنس الأحذية، دون اهتمام بحكاية التسجيل في القواميس.
محمد مستجاب
مجلة العربي اغسطس 1996
والحذاء من أقدم ما استخدمه الإنسان حماية لقدمه أيام كان يتسلل فوق حشائش الغابات باحثا عن ثمار الشجر. وقد يكون الصندل هو الحذاء البدائي المناسب أيامها، والصندل الذي يرتديه تمثال رمسيس الثاني الضخم في ( أبو سنبل ) يعطيك إحساسا بأن تطورا واضحا - وطويل الأمد - قد تحقق منذ أن كان الصندل مجرد ( مداس ) منتزع من جلد مؤخرة الديناصور، ولا يزال لفظ المداس مستخدما في مواقع عربية كثيرة مصدرا من (الدوس)، ولغة سليمة تشمل جميع أنواع الأحذية، بصفتها غطاء واقيا للقدم، وكان يصنع منذ بكوره من الجلد، قبل أن يداهمه العصر الحديث بالمواد البلاستيكية، واستخدم - مع مصر - في حضارة ما بين النهرين ثم في بلاد الإغريق والرومان. وجاء أيضا إشارة للزراية والاحتقار في أغاني الرعاة القدماء الذين اجتاحوا أوربا، وهناك أنواع من أحذية الركوب ( ركابات ) استخدمها الهكسوس والجرمان والوندال وأهل النوبة في التعامل الخاص مع الحصان أو الحمار، ويظهر في السينما الأمريكية اهتمام واضح بنوعية متألقة - وبسيطة - كان يرتديها أعضاء مجلس السناتو (الشيوخ) الروماني في (يوليوس قيصر)، كما أن اليزابيث تايلور أدت دور كليوباترا وفي قدميها ( شبشب ) خفيف ورقيق مما يصلح لإثارة الوصل والود بين العرسان المعاصرين - في الريف المصري بالذات، ومن قديم الزمان استخدم ذو الرقبة للسفر والصيد، كما استعمله ممثلو المسرح الإغريقي، وكانت ذات نعال سميكة لتصبح معمرة، وفي أدوار الآلهة والعواهل والعظماء كانوا يبالغون في ارتفاع رقبة الحذاء، والتي تصل إلى ما ترتديه فصائل معينة من الشرطة وعمال رفع قروانات مواد البناء ( يسمى الحذاء هنا الكذلك )، كما أن أنواعا من الأحذية الخشبية عرفت مبكرا، واستخدمها الفلاحون في شرق أوربا في القرن السادس عشر، ومع مرور الزمن تم تثبيت الصندل الخشبي في الحذاء الجلدي، ومن هنا ظهرت فكرة الأحذية ذات الكعوب، والتي فيما يظن كانت ترتدى لأسباب طبية حتى تحافظ على الاتزان الجسدي للبشر ذوي الخلفيات السمينة، كما أن تحويرات كثيرة واجهت الحذاء كي يصلح لاختراق المستنقعات، وصل ارتفاع بعض الأحذية مثلا إلى الأفخاذ، ومنها أحذية مدببة من الأمام، وبعضها ذو بوز طويل لدرجة أن مقدمها كان يربط بركبة صاحبها بسلسلة، وهناك أحذية عريضة المقدم، وأخرى ذات نعل سميك مبالغ في سمكه، كما أن الفرنسيين وفي وقت مبكر - قبل الثورة الفرنسية بقرنين - صنعوا الحذاء ذا الكعب العالي للنساء والذي يكشف عن مدى خفتهن ورقتهن. كذلك ظهرت اتجاهات تجميل الأحذية بالحلي والمعادن الثمينة، والمواد البللورية العاكسة للضوء، كما حليت بالأشرطة والزهور، وثمة أنواع مصنوعة أصلا من الفراء ولم يكن يستعملها في أوربا إلا أهل الشمال سكان مناطق الجليد، والأثرياء من اللوردات والدوقات ونساؤهم من أهل وسط وجنوب أوربا. وفي شمال أمريكا استخدم الهنود الحمر أحذية من جلد الغزال مصنوعة من قطعة واحدة تسمى ( موكاسين )، وفي المغرب - وكان أيضا في مصر منذ ثلاثين عاما، كانوا يستخدمون أحذية من قطعة واحدة من جلد الجمل، تعالج بالدباغة وتعيش طويلا ولها أناقتها الخاصة، حمراء أو في لون الحناء بالمغرب، وزيتية أو ذات لون بني محروق في مصر، وتسمى بالمركوب، وجمعها مراكيب، ومنها جاء حذاء متسلقي الجبال، والذين يحدون الجمال مسافات طويلة.
وفي منتصف القرن التاسع عشر ابتكرت آلات صناعة الأحذية التي اختصرت جهود الحذائين أو "الجزمجية" باللهجة المصرية الدارجة، كما استطاع ليمان بلاك الإنجليزي تطوير الآلة وجعلها تخيط نعل الحذاء - ذي الجلد السميك - مع وجهه ذي الجلد الأزرق مما أحدث تغييرا في صناعة الأحذية، جعل إنتاجها الوفير يتوجه إلى الفقراء الذين كانوا - عادة - لا يرتدونها، ولاسيما من كانوا من طبقة العمال، وبمرور الوقت تطورت هذه الصناعة حتى وصلت إلى نماذج سائدة تكاد تنتج بكيفية واحدة في معظم أنحاء العالم ( ستاندرد ). غير أن ذلك لا يحول دون أنواع من الأحذية لها وقعها التاريخي في نفوس البشر، حذاء سندريللا الذي انخلع من قدمها عندما أزفت الساعة التي حددتها الساحرة لانتهاء الوقت المناسب للرقص، وقيام الأمير - الذي هام بها حبا - للبحث عنها وفي يده فردة حذائها، كذلك مجموعة القباقيب - بصفتها أحذية بدائية - التي استعملتها جماعة "أم علي" من المماليك لقتل شجرة الدر، والتي سبق لها أن قتلت زوجها الحاكم في نفس المكان "الحمام". وهناك - خارج التاريخ - وداخل مملكة النباتات نجد حذاء الست : زهرة برية من جنس الأوركيدا ذات أزهار صفر أو بيض أو وردية، وتعيش في الشمال الأمريكي، وفي المملكة الاجتماعية نجد أحذية خاصة كانت تستخدم لحلقات ( الزار ) في مصر، وفي المقابل أحذية ذات تكوين رقيق خالص تستخدمها راقصات الباليه، وظهرت أحذية أخرى للمبارزة وللسير على الشاطئ وراقصات قاعات اللهو ولاعبات الجمباز ومتسلقات سلالم السيرك، كما أن في الشارع المصري أنواعا من الشبشب البلاستيك المدلل بـ ( زنوبة)، وكان المحكوم عليهم بالإعدام - في القرون الماضية - يستخدمون نوعا من الأحذية الواسعة حتى لا تسيل نقطة دم واحدة من الرقبة إلى الأرض، وكانوا يسمونها ( الجزمة ) والتي يخلو منها القاموس العربي، لكن اللفظ تسلل من غرفة الإعدام حتى أصبحت الجزمة اسما لجنس الأحذية، دون اهتمام بحكاية التسجيل في القواميس.
محمد مستجاب
مجلة العربي اغسطس 1996