مولود بن زادي - أدب المهجر.. البيئة والمزايا

«الاغتراب عن الوطن هو اقتلاع المرء من جذوره ومحيطه، ووضعه في بيئة أخرى، بعيدة أو قريبة. ويكون إما اغترابا قسريّا أو اختياريا، بعيدا عن مكان ولادته وملعب طفولته وذكرياته وتفاصيل الحياة اليوميّة والجغرافيّة والاجتماعية والعاطفيّة…».
بهذه الكلمات صوّرت لنا الكاتبة مريم نجمه الهجرةَ، وهي ظاهرة تلازمُ الإنسان منذ ظهوره على سطح الأرض، مؤثرة فيه وفي تفكيره وإبداعه ومن جملة ذلك الأدب. والأدب هو تعبيرٌ عن الأفكار والمشاعر والتجارب، وعادة ما يعكس البيئة التي يحيا فيها أو يرحل إليها المرء. هكذا نشأ الأدب المهجري في الغربِ، مختلفا فكرة وأسلوباً عن نظيره في الوطن العربي.
وبحكم الاختلاف الثقافي والعقائدي والإيديولوجي فإن هذا الأدب محكومٌ عليه حتما بالبقاء لأجيال.. وها هم المشاركون في ملتقى السرد الثالث عشر في الشارقة ( 18-20 أيلول/سبتمبر) يقرون بوجود هذا الأدب وإن اختلفوا في تحديد مفهومه. ويبقى التساؤل: كيف نميّز الأدب المهجري من المحلي في ما يُكتب خارج الأوطان في زمن التكنولوجيا ووسائل الاتصال والنقل المتطورة؟
النص الأدبي كل معقد، فلفهم النص الأدبي المهجري، نحتاج إلى فحص كل عناصره لاستخلاص السمات التي تربطه ببيئة المهجر وتميزه عن الأدب المحلي. فلابد من الاستعانة بالمنهج الإيكولوجي ـ النادر الاستعمال في الأدب العربي – وهو منهج ينظر إلى علاقة الإنسان بالبيئة، فالعلاقة بين الإبداع الأدبي والبيئة متينة لا يمكن تجاهلها، ويتجلى ذلك في وصف الطبيعة والعمران. ومن يستقر في بيئة المهجر طويلاً أدرى بشعابها، وأعلم بالحياة فيها، وأدق في تصويرها. فهكذا تفوّق أدباء الأندلس من أمثال ابن خفاجة في وصف الأندلس بقصورها وبساتينها وأشجارها… ويواصل أدباء المهجر اليوم وصف الطبيعة والعمران في بيئتهم الجديدة: «يدنو فؤاد من نافذة غرفته المطلّة على حديقة غرينتش في لندن… تبدو الحديقة في هذه الساعة جرداء موحشة قاتمة، كأنّما ترتدي ثوب حداد…» (رواية «رِيَاحُ القَدَر»).
والتأثير البيئي يختلف من مكان إلى آخر، فالمهاجر العربي الذي استقر في أوطان عربية شقيقة تشترك في اللغة والدين والتاريخ والتقاليد وظروف الحياة يختلف عن ذلك الذي وجد نفسه في مجتمعات غربية تختلف عنها لغويا وعقائديا وإيديولوجيا.
والغربة رغم مرارتها عامل يساعد على تفجير الطاقة الإبداعية للأديب، وتتجلّى آثارها في الحنين إلى الوطن الذي لا نجده في الأدب المحلي. وقد عبَّر عن الحنين إلى الوطن أدباء عرب منذ قديم الزمان مثل أدباء الأندلس، وما زال اليوم يطبع الأعمال الأدبية في كامل بقاع الدنيا. إنه شعور طبيعي صادق يعيشه الأديب بعيدا عن وطنه وأهله وأحبابه، ونشعر بصدقه مثلا في أبيات الشاعر العراقي أديب كمال الدين المقيم في أستراليا:
«دجلة.. يا دجلة.. يا دجلة،
ما الذي حوّلني من ملكٍ إلى شحّاذ؟
ومن فيلسوف إلى مجنون؟
ومن ضحكةٍ إلى تابوت؟»
لكن هل يعيش حالة الهجرة بالمعنى التام للكلمة كل أديب عربي خارج الديار؟ صدق الأديب السعودي محمد العباس عندما قال: «هناك فرق بين رواية غسان كنفاني بعنوانها وعبارتها الجازمة «عائد إلى حيفا» حيث الإصرار والتحدي، باعتبارها رواية من روايات المهّجرين النازحين، وبين معظم الروايات العربية اليوم التي تحمل عناوين نوستالوجية رخوة، مكتوبة بلغة استعادية سياحية لأن بعض الروائيين العرب لا يعيشون بالفعل حالة الهجرة بالمعنى الشعوري للكلمة، بقدر ما يمارسون الترحال في عالم بات على درجة من الانفتاح والتواصل». («القدس العربي» 27 أيلول/سبتمبر 16). فالشعور بالهجرة يختلف من مهاجر إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى ويخضع لظروف الهجرة وأسبابها ومدتها وظروف العيش في البيئة الجديدة. فلن يكون حكمنا عادلا من غير فحص هذه الأعمال الأدبية فحصا عميقا في ضوء كل هذه العوامل والظروف.
من سمات الأدب المهجري التي ما فتئت تميّز الأعمال الأدبية خارج الأوطان النزعة الإنسانية، وهي في مفهومها العالمي تجاوز حواجز الانتماءات الوطنية والعرقية والدينية، وتدعو إلى احترام كل الأجناس واللغات والديانات وعدم التمييز بين المتدين والملحد وغير ذلك. مثل هذا الشعور يظل ضئيلا في الوطن العربي مقارنة بالمجتمعات الغربية. فلا عجب أن النزعة الإنسانية عندنا برزت على أيدي أدباء المهجر بينما غلب على أعمال الزملاء المحليين الطابع القومي والديني. والشعور بالإنسانية في المهجر ينشأ من الاحتكاك بالأجناس البشرية المختلفة التي لها ثقافاتها ومعتقداتها… فها هي الأديبة الجزائرية المقيمة في كندا حسيبة طاهر تثور على التعصب الديني في الوطن العربي على منوال كتابات شعراء المهجر: «لمَ تلمني يا أخي الإنسان لأني بُوذي أو هندوسي أو مجوسي أو..؟ أنت ظالم إن فعلت، لأنك ببساطة لو قادتك الأقدار لرحم أمي لكنت مثلي… كفانا نرجسية عرقية ودينية وشعارات لا يخرج من رحمها إلا الفناء والقتل باسم الدين والعرق. إن ّهذا لعمري جنون، فمن نعبد أكبر من أن يحتاج إلى جنود بشرية حتى يسمي بعضنا نفسه جند الله، فالدين وسيلة روحية للتقرب من الخالق وليس للدفاع عنه». (رواية «نواميس كامي»).
ومن المظاهر الأخرى التي ميزت الأدب المهجري الهروب إلى الطبيعة والنزعة التشاؤمية. ولا نقصد بالتشاؤم الحالة النفسية التي قد تنتاب الإنسان حتى في وطنه وإنما «النزعة التشاؤمية المهجرية» الناتجة عن الهجرة عن الأوطان. ولتبيّن هذه النزعة لابد من الغوص في أعماق العمل الأدبي واستنطاقه والسعي للتوغل في نفس الكاتب من خلاله. فها هي دراسة جامعية تكشف النزعة التشاؤمية في الرواية المهجرية الحديثة من خلال وصف حديقة في يوم ممطر: «تتخلّلها أشجار عارية قاحلة بلا حياة، وكأنّ الزمهرير حمل عليها مع بداية فصل الشتاء الطويل، فخلع لباسها وقطع أنفاسها. تعلوها سماء ملبّدة بغيوم داكنة كثيفة منخفضة، بدت لشدّة انخفاضها وكأنّها تحضن الأرض. ترذّ السماءُ من فوقها من غير انقطاع منذ ساعات طويلة، كأنّما تذرف دموعا حزينة تتناثر على أرجاء هذه الحديقة البائسة فتزيدها كآبة وبؤساً ويأسا». (سمات أدب المهجر في رواية «رِيَاحُ القَدَر»).
ولفحص صدقية الهجرة وتأثيرها لابد أيضا من النظر إلى الحقبة التي هاجر فيها الأديب. فمن رحل عن الأوطان في أواخر القرن الماضي في عصر الرسائل البريدية ليس كمن رحل عنها اليوم في زمن الماسنجر وفايبر.
وخلاصة القول لنميّز الأدب المهجري من غيره في هذا العصر، نحتاج إلى فحص هذه الأعمال من كل الجوانب والسعي لتبيّن علاقتها بالبيئة والكشف عن سمات تميزها من غيرها مثل وصف الطبيعة والحنين إلى الوطن والنزعة الإنسانية والتشاؤمية، اعتماداً على مناهج نقدية مثل المنهج الإيكولوجي الذي ينظر إلى البيئة والمنهج النفسي الذي ينظر إلى نفسية الأديب من خلال نصه وظروف حياته.
ومهما كان فالأدب المهجري أوسع من أن يحصر في إطار مكاني أو زماني ضيق. فهو جغرافيا واسع سعة العالم الذي نحيا فيه ونرحل في أرجائه، وتاريخيا قديم قدم الأدب الذي ورثناه عن أجداد معروفين بترحالهم منذ قديم الزمان. ويتواصل هذا الأدب اليوم بعيدا عن الأضواء في كامل بقاع الدنيا معبرا عن مشاعر عميقة صادقة صقلتها حياة مختلفة في بيئة جديدة، تشارك فيها أقلام متأثرة بالحياة فيها، تحيا فيها الهجرة بأدق معانيها.. أقلام اكتشفت بين أهاليها – من أجناس بشرية وانتماءات دينية مختلفة – أسمى معاني الإنسانية، فطبع كل ذلك كتاباتها وميزها من مؤلفات الأوطان. أرواح أدركت أسمى مبادئ الإنسانية وباتت تملك القدرة على زرع المحبة والإنسانية والسلام في العالم، لكنها لا تملك رابطة أدبية ولا صحفا مماثلة لتلك التي استفاد منها شعراء القارتين الأمريكيتين أواخر القرن 19 ومطلع القرن 20، ولا تنال أعمالُها نصيبَها من النقد الأدبي المنشغل بالأعمال المحلية. وتظل هذه الأقلام مشتتة، مجهولة، تصارع من أجل إيصال رسائلها الأدبية المشبعة بالمبادئ الإنسانية إلى الجماهير العربية. وفي ظل العزوف عن القراءة وغياب النقد والإعلام وصعوبة إيصال الأعمال إلى الوطن العربي، قد لا تبرز إسهاماتها، ولا يُردّ لها الاعتبار إلا في الأجيال القادمة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى