ثقافة شعبية حنان النبلي - "الهيت".. رقصة البدوي المغربي المجذوب

"الهيت" رقصة شعبية مغربية طاولها التهميش ونسجت عنكبوت الإهمال شباك النسيان حول مبدعيها، والهيت رقصة عربية الأصول، مغربية الطبع والنشأة، تتقاطع مع كثير من الأشكال الغنائية العربية كالهيوت الخليجي، وقد رافقت الإنسان المغربي/ العربي في هجرته من شبه الجزيرة شرقاً إلى تخوم المحيط الأطلسي غرباً.

أصل الهيت

تحمل هذه الرقصة في طياتها حكايا وقصصاً ورموزاً ومواقف وأحداثاً، عاشها الإنسان البدوي وشكل منها حلقات تاريخية وسوسيولوجية عبر من خلالها بالكلمة الدالة، والحركات المتناسقة عبر تحريك الكتفين والأرجل والرأس، كمرحلة أولى ستتطور فيما بعد باستخدام بعض الآلات لمسايرة إيقاعها، وأهمها الطبل الذي استعمله العرب قديماً في حروبهم وغزواتهم. وقد ذكر ذلك ابن خلدون: "إن العرب كانوا منذ أن انتقلت خلافتهم ملكاً، يتخذون قرع الطبول والنفخ في الأبواق، في مواطن حروبهم ومظاهر أبهتهم".

وأطلق على هذه الرقصة "الهيت" انطلاقاً من الأصوات المنبعثة عند أداء هذه الرقصة والتي يغلب عليها حرف الهاء أو الهمهمة بشكل يشبه النداء، ويذكر لسان العرب لابن منظور، كلمة هيت، بمعنى هلم أي تعال، ويتجلى هنا مفهوم العيط، أي النداء للمشاركة في الرقصة، لكن في المقابل نجد أن هذه الكلمة تحمل صوراً قدحية تحط من قيمة هذه الرقصة على مستوى التداول الشفاهي كقولهم الدارج: "هذا غير تيهيت"، معناه، قوله مجانب للصواب، أو "هيت عليه" أي ضربه بشكل مفاجئ، وهو ما يجعل معناها الخروج عن الموضوع وتأجج الصراع.

شروط رقصة الهيت

تتشكل هذه الرقصة من دائرة يتحكم في شكلها عدد من المتفرجين والراقصين، فالدائرة تكون كبيرة إذا كان العدد كبيراً، وإما أن تكون متوسطة أو صغيرة تبعاً لجمهور الحاضرين من الناس، كما يسودها منطق النظام المحكم والهدوء والتفاهم بين الراقصين والعازفين.

وفي القديم لم تعرف الأسر المغربية آلات التصبين، إلا فجر الاستقلال، لذا كان سكان البادية يلوذون بضفاف الأنهار لغسل ملابسهم، لا سيما الرجال، وكانوا يضعون ملابسهم على النتوء البارزة وسط المياه، ويضربون بأرجلهم مقلبين الملابس كي تنال حظها من الفرك، وفي جو احتفالي ابتكروا إيقاعات بالأرجل تتناغم والأصوات التي يصدرونها، محاولين توحيد الإيقاع قائلين: اشتف هيتف_اشتف هيتف.


إيقاعات الهيت بين السريع والبطيء

ويرى الأستاذ بوسلهام الكط، الباحث في التراث الغرباوي، أن رقصة الهيت في منطقة الغرب هي إحدى الوسائل التواصلية التي مارس من خلالها سكان هذه المناطق تأثيرهم في الحياة الاجتماعية البدوية بشكل عميق، هادفين من وراء ذلك، إلى المحافظة على استمرار الثقافة الشعبية والتراث الشعبي البدوي بصفة خاصة والمغربي بصفة عامة.

وتنقسم هذه الرقصة إلى ثلاثة أقسام رئيسية، الهيت الحسناوي: نسبة لقبائل بني أحسن بنواحي سيدي قاسم بإيقاعاته المتوسطة، الهيت الغرباوي: يتميز بإيقاعاته السريعة، ويتمركز بين مدينتي قنيطرة وسيدي سليمان، ويتفرع إلى أنواع مختلفة أهمها "السبيتي" نسبة إلى سبت دار بلعامري، ثم الهيت الحدادي: نسبة لممتهني الحدادة جوار المهدية قرب مدينة قنيطرة، ويتميز هذا النمط بالمزج بين الإيقاع المتوسط والبطيء.

ولأن الإنسان البدوي ينحو دائماً نحو البساطة، فإنه عبر بهذه الرقصة عن أفراحه كحفلات الزواج والعقيقة والأعياد، حيث استعمل أطرافه، اليدين والرجلين والمنطوق الشفاهي عبر الفم، ثم ابتكر بعد ذلك التصفيق باليدين والضرب على الأرض بالأرجل، وطور النفخ عبر الشفاه من صفير يخدم التواصل والنداء إلى موسيقى عذبة لتستميل الحيوانات إلى شرب الماء على نغماتها، وأوحت سيقان السنابل للبدوي بصنع المزمار، الذي تطور وكان من بين الآلات المستعملة في هذه الرقصة.


الهيت رقصة البدوي المجذوب

يعيش راقص الهيت في التدرج من اختراق سلم الإيقاعات، من البساطة نحو التعقيد للوصول إلى الذروة، حيث يبتعد عن عوالم الواقع وينغمس في عالم روحاني يسمو به ليساير الإيقاع بقلبه، فترى الراقصين في مرحلة متقدمة من الرقص قد أغمضوا أعينهم واستسلموا كلية لإنسان آخر يخرج منهم، يوقعون على الأرض بأقدامهم بطريقة هستيرية، ويصيحون دون انقطاع: هاو هاو هاو. فتعرق وترتخي عضلات جسمهم، ثم تصعد إلى عالم تتوحد فيه بالآخرين.

لا تعود الأجساد في ملك أصحابها، ثم لا تميز بعد ذلك بينها وهي تهتز وترتعش، وما إن تنتهي الرقصة حتى يجد "الهيات" نفسه إنساناً متجدداً قادراً على مواجهة تحديات الحياة بنفس جديد، إنها الرقصة التي تحول الراقص البدوي المجذوب والمتحير إلى عالم النفحة الصوفية.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى