صلاح أحمد - موسيقى كناوة... طقوسها صوفية وتتصل بعالم الأرواح والجن

في 12 من ديسمبر صنفت "اليونيسكو" (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة) فن "كناوة" الموسيقي الغنائي المغربي في قائمة "التراث الثقافي الإنساني اللامادي". وتعرّف المنظمة الدولية هذا التراث بأنه "الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات - وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية - التي تعتبرها المجتمعات والكيانات المجتمعية جزءا من تراثها الثقافي".

وكناوة تكتب تارة "قناوة" وأخرى "غناوة" لأن نطق الحرف الأول يماثل حرف g في كلمة golf الانجليزية وهذا صوت لا يتوفر في العربية المكتوبة. وعليه تصبح كتابتها بالاحرف اللاتينية gnawa.

وكناوة فن موسيقي غنائي روحي افريقي اسود يستخدم الصوت البشري مصاحبا بالطبول وأهمها "الكانكاه (الطبل الكبير) و"الطعريجة" (الدربوكة) و"الطبيلات" (الطبل المزدوج أو البونغوس) و"القرقب" (الصناجات وهي من أهم لوازم الكناوة) و"الرش" (التصفيق الإيقاعي) ومن الوتريات "الكمبري" " أو "السنتير"، وهذه آلة مستطيلة شبيهة بالجيتار ذات ثلاثة أوتار غليظة عميقة الصوت، إضافة الى "الوتر"، وهو آلة تشبه الماندولين وذات وترين في أغلب الحالات.

وترتبط كناوة في الوعي العام بخليط من طقوس صوفية وأخرى تتصل بعالم الأرواح والجن (ولذا سُميت أيضا "موسيقى الأرواح"). وترسخ هذا الاعتقاد لأن الراقصين على ايقاعاتها غالبا ما يرقى الطرب ببعض الى فقدان الوعي وبآخر الى الأذى الذاتي بتجريح الجسد في ما يعرف بـ"الجذبة".

رقعتها الجغرافية

كناوة - في أصلها - جزء من "الموروث الشفاهي" الافريقي الأسود الوافد الى المغرب العربي منذ القرن السادس عشر مع تجارة "العبيد" الإسلامية في شمال القارة. لكنها صارت في الآونة الأخيرة تتخذ لها حيزا متزايدا في مضمار الفنون التراثية في دول شمال افريقيا عموما كمصر، حيث يشكل "الزار" أقرب الأشكال اليها، والجزائر التي تسمّيها "ستامبالي" و"بنجا" وتونس وبعض الأرياف الليبية). لكنها صارت تيارا رئيسيا في المغرب الذي صار موطنها العربي الرئيسي. واليوم تجد "الطريقة الكناوية" (على غرار الطرق الصوفية) في العديد من المدن والقرى المغربية، خصوصا في الصويرة ومراكش والرباط ومكناس. وهي في شكلها الحالي خليط من الموسيقى الأفريقية السوداء والبربرية والعربية.

أصولها التاريخية

تحدثنا المصادر أن الكناوة "مجموعة عرقية في المغرب تتحدر من سلالة "العبيد" الذين استجلبوا في العصر الذهبي للامبراطورية المغربية (نهايات القرن السادس عشر) من أفريقيا السوداء الغربية، التي كانت تسمى آنذاك "السودان الغربي" او "امبراطورية غانا" (دولة مالي الحالية على الخصوص). وتضيف أن تسمية "كناوة" هي تحريف للاسم الاصلي وهو "كينيا" أو "غينيا"، أو "عبيد غينيا" كما كانوا يُسمون، قبل اندماجهم التام في المجتمع المغربي.

وتحظى مدينة الصويرة بمقام المدينة الروحية للكناوة داخل المغرب. فقد كان الميناء البحري للمدينة منذ القرن السابع عشر مركزا تجاريا مهما على ساحل المحيط الأطلسي، ونقطة تبادل تجاري مع تمبكتو، عاصمة افريقيا السوداء المسلمة آنذاك. ومنها كان "العبيد" يفرون مع الذهب إلى المغرب. ويعتبر ضريح "سيدي بلال" في غرب الصويرة المرجع الأعلى ومقام الاب الروحي لكناوة. وداخل ضريح هذا الولي توجد الزاوية التي تحتضن في العشرين من شهر شعبان الموسم السنوي للطائفة الكناوية على ايقاع تلك الموسيقى.

ومن رواد كناوة الذين اكتسبوا مكانة "المعلم" واشتهروا حتى على الساحة الدولية احميدة بوسو وعبد اللطيف المخزومي ومصطفى بقبو وحميد القصري ومحمود كنية وحسن حكمون وآخرون. ولكل واحد من هِؤلاء المعلمين طريقته الخاصة في العزف على آلة السنتير أو الكمبري .

طقوس

يرد في المصادر ان من أبرز طقوس حفلة "الليلة الكناوية" البدء بـ"العادة". وهي إعلان عام عن الشروع في إقامة "الليلة". فيطوف الكناوة على مختلف الأزقة والشوارع والساحات مرتدين "طاقيات" و"فوقيات" مختلفة الألوان مزدانة بالأصداف، مغتنمين الفرصة للرقص على إيقاعات دقات الطبول و"القراقب" حتى تحل فترة "الكويو" (أولاد بامبارا) وهي تعني في العرف الكناوي البدء في الحفل الرسمي لليلة الكناوية. ويستغنى فيها عن آلة الطبل لتعوض بـ "الكنبري أو الهجهوج"، فيشرع "المعلم" - الذي يكون ملما بجميع مراحل الليلة - بالعزف عليه. فيقوم الكناوة برقصات انفرادية باستثناء "وجبتين" يقوم فيها أربعة منهم برقص جماعي.

والقسم الثاني من هذا الطقس يسمى "النقشة"، وتوظف فيه "القراقب" إلى جانب "الهجهوج" ويكون فيه الرقص جماعيا. وبعد استراحة قصيرة تدخل الليلة الكناوية مرحلة "فتوح الرحبة" ويعمل فيها الكناوة على توضيب المكان الذي ستجري فيه المرحلة الأخيرة من الليلة لإضفاء طابع القدسية عليه. فيوضع أمام المعلم طبق يحوي مختلف أنواع البخور والأقمشة ذات الألوان المختلفة وكل لون منها يرمز إلى أحد "الملوك". ويرتدي المريدون في هذا الطقس لباسا ذا لون خاص يرمز إلى "ملك" معين، كاللون الأبيض الذي يرمز إلى "ملك" عبد القادر الجيلالي، والأحمر إلى سيدي حمو، والأسود إلى ميمونة، والأصفر إلى الأميرة، والأزرق إلى سيدي موسى. وتصحب عملية التحضير أذكار وإنشادات ذات دلالات ومعان متعددة، ليتم الدخول مباشرة إلى القسم الأخير والأساسي من الاحتفال الكناوي والمسمى بـ "الملوك". وهم عند الكناوة "رجال الله" أي انهم ربانيون مؤمنون.

الجذبة

"الملوك" هي مرحلة الجذبة. وتكون هذه مصحوبة بإيقاع صاخب ناتج عن صناجات "القراقب" و"الهجهوج" مع "الرش" (التصفيق). وهنا تصل الأمور ببعض المريدين إلى حد فقدان الوعي أو ضرب ذواتهم بأدوات حادة أو المشي فوق شظايا الزجاج.. وهو ما يعني أن "الجذاب" - أو "الجذابة" - وصل إلى أقصى درجات الانسجام والاندماج مع الإيقاع ومع الألوان وبالتالي دخل في عالم آخر غير عالمنا الملموس.

وتُوظف الليلة الكناوية عادة لأغراض استشفائية أو احتفالاً بمناسبة دينية. ومقامات الجذبة تبلغ أقصاها في "مقام عيشة قنديشة" التي تخلص الروح والجسد من شرورهما وأمراضهما. وهي، كما تقول المصادر، "قائمة على نظام في صيغة طقس كامل مهمته الأساسية تحويل العدد إلى إيقاع، والإيقاع إلى لون واللون إلى ملك والملك إلى اسم والاسم إلى جسد والجسد إلى كتابة راقصة".

تأثير غريب وفتوى طبّية

يقال إن لكناوة تأثيرها الغريب على كل من يرقص على وقعها. فالرقص يصبح - بشكل لا إرادي - أكثر تشنجا وسرعة، وقد ينتهي بحالات إغماء أو سقوط على الأرض من دون إغماء أو حتى قيام الراقص بضرب جسده من دون وعي.

وقد تبدو هذه التأثيرات - لمن يشهدها للمرة الأولى – مدعاة للذعر. ولكن بالنسبة للمغاربة فهي عادية لدرجة وجود تأهب لإمساك من تصيبه "الحالة" بغرض منعه من السقوط، لكن لا يصار تحت أي شكل من الأشكال الى منعه من إكمال الرقص.

وبما إن هذه حالة شائعة، فقد حاول الأطباء المغاربة تقديم إجابة شافية لها فربطوا الأمر بالصرع. وهذا تفسير لم يجد قبولا لدى المغاربة خصوصا أن أغلبية الناس لا يعانون من الصرع ولم تظهر عليهم أعراضه من قبل. أما الأعراض التي شبهها الأطباء بالصرع فلا تظهر الا حين تبث الأغنية، وعليه فإن التفسير الشعبي البسيط لها هو أن الجن والأرواح هي التي تقف وراء هذه الظاهرة.

نقلة الى المسرح الدولي

رغم الموجات النقدية التي تدين ما تعتبره ضربا من الشعوذة والدجل، فإن موسيقى كناوة ماضية في مسيرتها الحثيثة محتفظة بأساطيرها القديمة وروائح ونكهات نشأتها الأفريقية. ومما لا شك فيه هو ان عشاقها يفدون اليها بعشرات الآلاف في مهرجان الصويرة السنوي، سواء كانوا مغاربة أو من عرب الجوار أو أجانب من قارات العالم الخمس.

وبسبب تفرد هذه الموسيقى فقد أضحى المهرجان مقصدا للموسيقيين العالميين الراغبين في توظيف الإيقاعات والنكهة الكناوية وإدماجها في أعمالهم. ولذا فقد خالطت كناوة تجارب موسيقية برازيلية وفرنسية وباكستانية – على سبيل المثال وليس الحصر - ووهبت لهذا الفن الأفريقي بعدا وانتعاشا جديدين انتقلا بها من محليتها الإقليمية الى إنجاز حضاري مدهش اعتبرته الأمم المتحدة جزءا غاليا من التراث الثقافي الإنساني.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى