د. عمر محمد الشريف - صقلية ودهاء الساسة.

تعد صقلية أكبر جزيرة أوروبية في البحر الأبيض المتوسط، ورغم تبعيتها لإيطاليا حالياً، إلا أنها تتمتع بالحكم الذاتي، وتمتلك علمها الخاص. عُرفت بموقها الاستراتيجي عبر تاريخها الطويل حيث تقع على الطريق التجاري لحوض المتوسط.

صقلية بالإيطالية تلفظ سيتشيليا ،Sicilia، وهي تعني باللسان القديم التين والزيتون، وإلى هذا المعنى أشار الشاعر الأديب أبو علي الحسن بن رشيق المعروف بالقيرواني (ت٤٥٦هـ) حين مدح جزيرة صقلية بقوله:

أخْتُ المدينة في اسم لا يشاركها
فيه سِوَاها من البُلدان فالتَمِسِ

وعظَّم اللهُ معنَى لفظها قسماً
قَلِّد إذا شئتَ أهل العلم أو فَقِس

وقوله: وعظم الله معنى لفظها قسماً. يريد قول الله جل جلاله (والِّتينِ والزَّيْتُون) قال مجاهد في صحيح البخاري: هو التين والزيتون الذي يأكل الناس.

قديماً كانت صقلية تابعة للدولة البيزنطية حتى فتحها الأغالبة عام ٢١٢هـ، والذين كانوا يدينون بالطاعة للخلافة العباسية، ونظراً لأن صقلية كانت مركزاً هاماً للبحرية البيزنطية حيث كانت تخرج منها الأساطيل البيزنطية لمهاجمة السفن والمراكز الإسلامية المقابلة لصقلية في الساحل الأفريقي الشمالي؛ فإن فتحهـا كان أمرًا مهماً. وفي عهد هؤلاء الأغالبة كان الوالي العربي على صقلية يحمـل لقـب "أمير "أو "والِ" أو "صاحب". ويتمتع بحرية كبيرة فكان يعلن الحرب ويعقد الصلح بقرار منـه. وظلت صقلية خاضعة للأغالبة حتى عام ٢٩٦هـ، حيث قامت الدولة الفاطمية وتولى أمر الجزيرة ولاة من قبل الخليفة الفاطمي.

منذ دخول المسلمين للجزيرة، اتسم حكمهم بالعدل والتسامح الديني، كما عمروا الجزيرة، وأدخلوا فيها ضروب الصناعة والزراعة، ولا سيما صناعة الورق التي انتشرت منها إلى إيطاليا، وصناعة المنسوجات الحريرية الذائعة الصيت، كما أدخلوا أساليبهم الفنية في العمارة والصناعات الدقيقة.

في عهد الخليفة الفاطمي المنصور، عهد بإمارتها إلى الحسن بن علي بن أبي الحسن الكلبي سنة ٣٣٦هـ، وقد أدت إمارته الى توارث أبناء هذه الأسرة الكلبيه حكم صقلية فحكموها مدة أكثر من ١٠٠ سنة. على الرغم من تهديدات الإمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع Constantine VII .

وفي خلافة الخليفة الفاطمي العزيز بالله قام بتعيين أبي القاسم علي بن الحسن الكلبي والياً على صقلية حتى استشهد في إحدى الحملات الحربية في سنة ٣٧١هـ، فقام العزيز بالله بتولية ابنه جابر بدلاً عنه، لم يكن جابر ذا مقام مرموق وكفاءة إدارية في تدبير شؤون دولته واختلف الجند عليه، ولم يلبث الصقليون ان خلعوه في سنة ٣٧٣هـ، وبعد ذلك ولى العزيز بالله، رجلا آخر من الكلبيين، هو ابن عمه جعفر الأول بن محمد بن أبي الحسين، الذي كان يقيم في الديار المصرية مقرباً من الخليفة العزيز بالله، فلما وصل جعفر إلى صقلية سلم له جابر الأمر، ولم يمانعه، فكانت مدة جابر بعد أبيه سنة .

واستقام أمر صقلية لجعفر، وخلف عمه المقتول خير خلافة، حيث نظم أمورها، وعمل على إعاده الرخاء إليها. وأجله أهل صقليه لعلمه وجوده وكرمه، ولأنه من أصحاب الرأي والتدبير. وكان شاعراً، أديباً، محباً للعلماء، اجتمعت حوله طائفة من العلماء والأدباء.

وتصدى لرغبات الخليفة العزيز بالله في تسليم بعض القلاع الصقلية إلى أخي زوجته، وكان الخليفة العزيز بالله أرسله بكتاب يأمر فيه جعفر بأن يدفع لهذا الراهب قلاعاً من بلاد صقلية كان افتتحها جد جعفر الحسن بن علي بن أبي الحسين الكلبي، وهي طبرمين ورمطة.

فلما وصل الراهب إلى صقلية، أنزله جعفر فضيق علية ومنعه من لقاء من يريد نحواً من أربعة شهور، ثم أمر بشيوخ وعجائز ومرضى وأصحاب أزمات، فدفعهم إليه وأزعجه للرحيل.

رفض هذا الراهب تسلم هؤلاء المرضى وقام بالكتابة إلى الخليفة العزيز بالله يخبره بما فعله معه جعفر ، فغضب الخليفة، ألا أن جعفر لم يترك الأمر يشتد بينه وبين الخليفة، فقام بتدبير الحيلة لتجنب غضبه وسخطه عليه، فاشترى سفينة أندلسية فيها بعض الهدايا الأندلسية، وأذاع أن هذه السفينة وما عليها من الهدايا أرسلها إليه الخليفة الأموي هشام المؤيد من الأندلس، طالبا ً منه الدخول في طاعته وكتب إلى الخليفة العزيز بالله رسالة جاء فيها:

"إن صاحب الأندلس قد كتب يسألني الرجوع في جملته والدخول تحت طاعته ويبسط أمله بأن يقطعه من عمل الأندلس...".

ومن ثم لم يشتد عليه الخليفة العزيز بالله، بل أرسل يشكره لعدم دخوله في طاعة الخليفة هشام المؤيد، وذكره بأن سلفه من بني أبي الحسين لم يعرفوا قط إلا طاعته ، وطاعة آبائه، ويحضه على التمسك بما كان عليه محمد أبوه، وحسين جده.

وبهذا الدهاء السياسي أستطاع جعفر بن محمد بن أبي الحسين الكلبي تثبيت حكم أسرته لجزيرة صقلية. ولم تطل مدته، فقد توفي بعد سنتين فقط من حكمه، وذلك في سنة ٣٧٥هـ، وخلفه أخوه عبد الله الذي استمر في محاربة الدولة البيزنطية حتى توفي في سنة ٣٧٧هـ.

وقد أوصى لولده أبي الفتوح يوسف، والذي كان صبياً لم يبلغ سن الرشد، وأيده الخليفة الفاطمي العزيز بالله على ولاية حكم صقلية، وأرسل إليه سجلاً بذلك، ولقب بثقة الدولة، فعرف بثقة الدولة الكلبي. وهو الذي وصف فترة حكمه ابن خلدون قائلاً: "فأنسى بجلائله وفضائله من كان قبله منهم".

لم يتحرك في وجهه عدو من داخل البلاد ولا خارجها، في سنة ٣٨٨ هـ أصيب بشلل نصفي، فكان لا يمكنه تحريك جانبه الأيسر، فسلم الحكم إلى ابنه "جعفر الثاني"، فثار على جعفر أخٍ له اسمه علي، ونجح جعفر الثاني في إخماد الثورة، وقتل علياً، وأساء السيرة. فثار الصقليون سنة ٤١٠هـ، وحاصروا قصر الإمارة، فخرج لهم ثقة الدولة الكلبي محمولاً على محفة، فأقبلوا عليه يطلبون عزل جعفر الثاني، وتولية ابنه الآخر "أحمد الثاني الأكحل" ففعل وهدأت الفتنة، وأبعد جعفراً إلى مصر.

وهكذا أستمرت دولة بني أبي الحسين الكلبي في صقلية، وقد تمتعت هذه الأسرة بشيء من الاستقلال، وحاول فيهـا الـولاة الكلبيون توسيع الفتوحات داخل الجزيرة ومن خارجها إلى أبعد مدى. واستقام أمرهم بها، فكان ملكاً وميراثاً، يتداولونها خلفاً عن سلف، إلى أن استولى عليها الملك روجر المعروف باسم الكونت الكبير روجر، وهو كونت صقلية وأول الحكام النورمان بها في منتصف القرن الخامس الهجري، الحادي عشر الميلادي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى