ما عرفت النّوم ليلة البارحة (وهل كنتَ تنام حقّا في اللّيالي السّابقة؟)، فقد كان الحيّ الذي لعلع فيه الرّصاص قريبا جدّا من منزلكم حتّى أنكَ ظننتَ أنّ الطّلقات كانت تخرج من بين أبواب ونوافذ بيوت المنزل عندما اقتربتَ من المكان وأنت تدفع الجموع التي جاءت تستطلع الخبر، ولكنّك رغم ذلك خرجت باكرا تجري وراء قوت العيال.
فمن عاداتك كلّ أسبوع أن لا تباغتك إطلالة الشّمس وأنت بعيد عن طِوار هذا الشّارع المكتظّ بالحياة/ هذا الشّارع الذي سيكتظّ بعد قليل بالموت (سبْق سردي لراو عليم لا أظنّ أنّه سيفسد على قارئ هذا النّص متابعة القراءة).
***
تذكرّتَ عند خروجك الباكر من المنزل وأنت تدفع أمامك عربتك الصّغيرة التي رصفّت داخلها منذ البارحة صناديق الطّماطم والبطاطا والبصل والعنب والخوخ والتّفاح وما تيسّر من بقايا خضر الشّتاء المبرّدة في ثلّاجاتهم الكبيرة أنّكَ رفضتَ ليلة البارحة الثّمن المغري الذي اقترحه عليك جارك وأنتما تهمّان بمغادرة المسجد بعد صلاة العشاء.
قال لك همسا وهو يضغط على يدك بلطف عندما رآك تبحلق في الزّبيبة التي كانت تزيّن جبهته، وكان يتباهى بها أمام الخلق:
– سيدفع لك من سيطرق بابكَ بعد قليل عوض الدّينار خمسة دنانير فلا تبخس نفسك واسترح من عذابات يوم السّوق الأسبوعية!
ولكنّك رفضت إغراءاته، فعاد يزيدك إلى أن صار الدّينار عشرة، فقلتَ له وأنت تنظر في عينيه شزرا:
– لو أبدلت لي هذه الخضر ذهبا والغلال جواهر لما وافقتك، فابتعد عن طريقي يا يرحمكَ الله!
وذهبت إلى المقهى لتقتل الوقت حتّى يحين ميعاد النّوم.
***
(لقارئ هذه القصّة أن يتساءل لماذا اختار السّارد ومن ورائه كاتب هذا النّص أن يذهب بائع الخضر إلى المقهى ولم يذهب إلى مخفر الشّرطة مثلا ليبلّغ عن صاحب الزّبيبة الذي أغراه بالتّعامل مع ذئاب الجبل بعدما زيّن له هذا الفعل بالمال وبالشّفقة على الحال ما دام قد تيقّن من طبيعة هذا الجار الخبيث الذي كان يتودّد إليه زلفى منذ أيام بعدما رآه يرتاد المسجد ويحضر الصلوات الخمس في أوقاتها فرأى فيه فريسة قد يسهل عليه نصب حباله حولها وإسقاطها في الجبّ، والحال أنّ تلك المدينة التي تدور فيها أحداث هذه القصّة تعيش منذ مدّة على صدى الموت الأسود؟
وبصفتي قارئ مشارك في الكتابة، أيْ قارئ إيجابيّ في مقدوره أن يقدّم الإضافة للنّص فإنّني أرجع الأمر إلى اعتبارين اثنين:
الأول: هذا المواطن الصّالح أخافته زبيبة الجار فاكتفى برفض المقترح بشدّة ولسان حاله يقول:
– كفى الله المؤمنين شرّ القتال!
الثاني: أنه لا يريد أن يضع نفسه في محلّ شبهة فخيّر أن يراوغ صاحب الزّبيبة هذه الّليلة وهو يحدّث نفسه بحكمة الأجداد:
– إن غدا لناظره قريب!)
***
وصلتَ إلى الشّارع الكبير قبل أصحابك فرتّبت مكانك الذي اخترته على هواك (كنتَ قد تخاصمت معهم أكثر من مرّة وتبادلتَ مع بعضهم اللّكمات والشّتائم النّابية وأغلظت لآخرين القول حتّى دان لك المكان فصرتَ صاحبه ومولاه.) وكنتَ تتفنّن في زينته فتعرض الغلال في صناديقها الكرتونيّة التي نسّقتها بنات المعامل الفقيرات للتصدير إلى الخارج ثم رفضها المستهلكون هناك فعادت لتُعرض بأثمانها الباهظة على جيوب البائسين من أبناء البلاد (أنتَ لا دخل لك في ذلك فما أنت سوى مرّوج صغير لما يصلك من الباعة الكبار لهذه البضائع التي تخرج مباشرة من الموانئ إلى الأسواق الحرّة فيشتريها رجال المال بالمليم الرّمزي ثمّ يعيدون بيعها في السّوق الدّاخلية للشّعب الكريم بسعرها في بلاد الفرنجة) ثم تضع خضر فصل الشتاء.
(نحن الآن في بداية شهر سبتمبر) في الواجهة: السّلق الأخضر اليانع كأنّه خرج لتوّه من الحقل والجَزَر الرّافل في بهائه واللّفت الأبيض السّكرّي، وتزّين عرضك بباقات البقدونس والكرافس الفوّاحة، ثم يصدح صوتك بالغناء وأنتَ تُمجد هذه السّلع التي لا تضاهيها كلّ سلع السّوق الأسبوعيّة على مدى الشّارع الطّويل.
***
أنتَ تعرف أنّ بقعتك عند مفترق الطّرق، قريبا من المنحدر الذي تجتازه السّيارات القادمة في الاتّجاهين وقد باغت جنونها المشترين في كثير من المرّات حتّى أنّها كانت توشك على دهسهم وهم يتخيّرون من بضائعك ما يحلو في العين فيضطرّون للقفز على الطّوار للفوز بحياتهم ولكنّهم كانوا يطؤون بضائعك ويحوّلون مقامك الجميل إلى ركام إلى أن قرّرت وقد اشتدّ بك الغيظ ذات مرّة إغلاق هذه الطّريق يوما كاملا في وجه العربات بكل أشكالها وألوانها ومهامها.
وقلت لمن جاء يتفاوض معك من أهل الحلّ والرّبط:
– إما سوقنا أو سيّاراتكم!
فوعدوك أن تبني لكم البلديّة أجمل سوق في العالم، المهمّ الآن قالوا لك أن تعود الطّريق للسّيّارات وسنجد حلّا لسوقكم.
وها أنت تنتظر الحلّ مع المنتظرين.
***
(كأنّ كاتب هذا النّصّ ومن ورائه السّارد العليم بمجريات الأحداث ومحرّك خيوطها يريد أن يوحي للمتلقّي بأنّ حدثا جَللًا سيقع قريبا في هذه السّوق الأسبوعيّة، حدث سيغطّي على ما وقع البارحة في هذا الحيّ الفقير المحاذي للجبل المسكون بالغيلان).
أوووووووووووه! غيلان!
وها نحن نعود من جديد إلى خرافة الغيلان التي ذهب في ظننا أنها انتهت مع موت الجدّات وحفلات السَّمَر وراء نيران مواقد الشتاء.
ولكن ها هي تعود مرة أخرى في أشكال جديدة.
وكان يا ما كان في سالف العصر والأوان، ويكون الآن في بلاد السّلطان جبال مسكونة بالغيلان!
(رجاء! لنتّفق أولا! فالأمور بدأت تتشعّب وخيوط القصّ ستفلت من بين أصابع السّارد إلى موضوع خارج عن نطاق قصّة اليوم التي نريدها لحدث جلل هزّ القلوب وأبكى الأعين وأوجع الأرواح فمِثل هذا الحدث يكفي وزيادة يا سيّدي الكاتب لتأثيث قصّتنا! لهذا رجاء وفّرْ لنفسك طاقة الحديث عن الغيلان في مناسبة أخرى!
مفهوم!
***
الشّمس حارّة هذا اليوم. والطّريق بدأت تضجّ بعشرات السّيّارات والمارّة. وقلبك يخفق بشكل لا عهد لك به. هكذا اشتكيت لجارك بائع الرّوبافيكيا فقال لك:
– ليلة البارحة مرّت بسلام. ورجالنا كانوا يقظين. ولن يمرّوا يا صاحبي!
لن يمرّوا!
فقلت له:
– قلبي دليلي يا صاحبي!
وسكتّ، فسكت لحظات وقد أصابته عدوى نظرتك السّوداء لهذا الكون الذي بدأ يتحرّك في السّوق، ثمّ عاد ينادي على بضاعته التي تكدّست أمامه تفوح منها روائح أصحابها التي لم يُذهبها عنها الماء والصّابون.
– روبافيكيا!تحيا الرّوبافيكيا!
بينما تقاطر أمام ناظريك كرنفال من الأحمرة المُحمّلة بشيوخ قادمين من الأرياف البعيدة وعربات مجرورة ببغال وهي تنوء بصناديق التّين الشّوكي والقرع الأحمر والبطّيخ وعجائز يطلبن الصّدقات ولصوص صغار تعرفهم بالاسم فتبتسم في وجوههم كلّما اقتربوا من غلالك فيحمرّ الخجل على وجوههم ويهربون من ابتساماتك، وحرّاس البلديّة بأعينهم الماكرة الشّبيهة بأعين ثعالب الصّحراء وهم يجوبون ساحة السّوق بحثا عن طريدة يضعها حظّها العاثر في طريقهم وحافلات قديمة تنفث دخانا أسود وسيّارات صغيرة يطلّ من شبابيكها أطفال كالورد.
ويصدح صوت صاحبك من جديد:
– روبافيكيا!تحيا الرّوبافيكيا!
فتعود مرّة أخرى تلبّي رغبات زبائنك وأنت لا تكفّ عن مراقبة الحركة التي ازدادت والاكتظاظ الذي عمّ السّوق حتّى أنّ السّيارات العابرة ما عادت تجد لها مكانا وراء أرجل المارة.
– وروبافيكيا!تحيا الرّوبافيكيا!
***
عندما انداحت كبّة النّار في فضاء ساحة السّوق قلت بينك وبين نفسك وأنت تشهق:
– ها قد قامت القيامة التي وعدنا بها صاحب الزّبيبة!
كانت شعلة من نار تلظّى تقذف بشواظ من لهب في سماء السّاحة وقد اختلط فيها الوميض بالزّفير والرّعود بالبروق، ففكّرت بالهرب من هذه السّاحة التي تحوّلت إلى جهنّم ولكن أين المفرّ؟ فالنّيران تلتهب فوق أسفلت الشّارع وعلى رؤوس الأشجار وداخل السّيارات الرّابضة على جانبي الطّريق وهي تأكل من أجساد البشر ولا تشبع!
وكنت قد رأيت وميضا كوميض البرق الخاطف ثم سمعت صوت اصطدام رهيب كقعقعة الرّعود في السّماء ثم شاهدت النّجوم تنفجر في السّاحة وتملؤها بالنّور والنّار. ساعتها عرفت أنّ ما تنبّأت بحدوثه قد وقع، وأنّ الشّاحنة العملاقة المُحمَّلة بأكياس الأسمنت قد وقعت على الحافلة التي كانت تغصّ بأطفال المدارس ثم رأيت عمود الكهرباء العملاق يترنّح يمنة ويسرة ثمّ يهوي على الأرض بكلّ ثقله بينما كانت الأسلاك الكهربائيّة ذات الضّغط العالي تتشابك فيما بينها وتشتعل بكلّ ألوان الطيف ثمّ تبدأ في رشّ الّلهب على البشر والحجر، فصرت تخور كثيران الجحيم والنّيران تلتهب في ثيابك وتأكل من لحمك:
– تفوووووووووووه! هذه موتة كموتة الكلاب! اللّعنة!
وبحثت بناظريك عن صاحبك بائع الرّوبافيكيا فوجدته قد تفحّم فوق أكداس الثيّاب القديمة بينما روائح الشّياط تملأ المكان فمددت يديك تطفئ بهما الّلهب الذي اشتعل في لحمه ونثرت عليه من تراب الأرض.. ولكن هيهات! ثم رفعت رأسك تمسح المكان بعينيك الكليلتين فلم تر إلى بقايا الخضر والغلال التي تناثرت على طول السّاحة وعرضها وجثث الآدميين والأحمرة والبغال وقد تبعثرت هنا وهناك وأصوات أنين حادّ يرتفع بين الحين والآخر بينما من بعيد تراءت لك أشباح تقترب بحذر من مكان الواقعة.
ولا شيء غير ذلك!
فعدت تقول:
– سأنتظر حتّى تنشقّ الأرض ثم سأعلن عن قيام القيامة!
***
(سنعتبر أنفسنا قد انتهينا من كتابة وقائع ما جرى معك ليلة البارحة وصبيحة هذا اليوم لنثبت للقارئ أنّنا طبّقنا كما التّلميذ النّجيب تعليمات جهابذة كتّاب القصّة القصيرة ونقّادها الأشاوس وأنّنا اخترنا لحظة عابرة من حياة واحد من مواطني قرية نسيها التّاريخ من قرى البلاد التّونسية في لحظة ضرب فيها الموت ضربته بشكلين مختلفين:
– في اللّيل لعلع الموت بأصوات البنادق الأوتوماتيكيّة في الحيّ الشّعبيّ قريبا من المنزل الذي يقطنه بائع الخضر والغلال فخرج الشّعب الكريم يهتف ضدّ الموت ويهتف بحياة تونس.
– أما صباحا فقد عاد الموت من جديد ولكن على ظهر شاحنة بلا كوابح فأحرق ساحة السّوق وما عليها فخرج الشعب الكريم يبكي قتلاه ويبكي تونس.
ميلودراما! أليس كذلك؟
ونحن نعني ما نقول.
بقي أن نؤكّد مرّة أخرى أنّنا تركنا النّهاية مفتوحة عن قصد وبسابق إضمار وترصّد (ونؤكّد على ذلك من جديد) لمن يريد أن يجتهد ويبحث فيما جرى من وقائع يشيب لهولها الولدان ويظلّ يذكرها الحدثان على مرّ الأزمان من برّ قمودة حتّى تخوم بلاد خمودة، فراوينا العليم يعلم كلّ شيء ممّا ظهر من الأفعال وما خفي ومن أسبابها ومسبّباتها، ولكنّه لا يريد أن يقول أكثر ممّا قال لأنّ القصّة القصيرة لا تحتمل الحشو والإطناب ولأنّ وراء كل ذي علم عليم.
***
سهو جديد:
من ترك نهاية القصّة مفتوحة؟
وعلى من يعود ضمير النّون؟
(يذكرني هذا النّون ((ن)) بنون وما يسطرون)!
هل يعود على الكاتب؟
أم هل يعود على السّارد؟
أم هل يعود على كليهما؟
فمن عاداتك كلّ أسبوع أن لا تباغتك إطلالة الشّمس وأنت بعيد عن طِوار هذا الشّارع المكتظّ بالحياة/ هذا الشّارع الذي سيكتظّ بعد قليل بالموت (سبْق سردي لراو عليم لا أظنّ أنّه سيفسد على قارئ هذا النّص متابعة القراءة).
***
تذكرّتَ عند خروجك الباكر من المنزل وأنت تدفع أمامك عربتك الصّغيرة التي رصفّت داخلها منذ البارحة صناديق الطّماطم والبطاطا والبصل والعنب والخوخ والتّفاح وما تيسّر من بقايا خضر الشّتاء المبرّدة في ثلّاجاتهم الكبيرة أنّكَ رفضتَ ليلة البارحة الثّمن المغري الذي اقترحه عليك جارك وأنتما تهمّان بمغادرة المسجد بعد صلاة العشاء.
قال لك همسا وهو يضغط على يدك بلطف عندما رآك تبحلق في الزّبيبة التي كانت تزيّن جبهته، وكان يتباهى بها أمام الخلق:
– سيدفع لك من سيطرق بابكَ بعد قليل عوض الدّينار خمسة دنانير فلا تبخس نفسك واسترح من عذابات يوم السّوق الأسبوعية!
ولكنّك رفضت إغراءاته، فعاد يزيدك إلى أن صار الدّينار عشرة، فقلتَ له وأنت تنظر في عينيه شزرا:
– لو أبدلت لي هذه الخضر ذهبا والغلال جواهر لما وافقتك، فابتعد عن طريقي يا يرحمكَ الله!
وذهبت إلى المقهى لتقتل الوقت حتّى يحين ميعاد النّوم.
***
(لقارئ هذه القصّة أن يتساءل لماذا اختار السّارد ومن ورائه كاتب هذا النّص أن يذهب بائع الخضر إلى المقهى ولم يذهب إلى مخفر الشّرطة مثلا ليبلّغ عن صاحب الزّبيبة الذي أغراه بالتّعامل مع ذئاب الجبل بعدما زيّن له هذا الفعل بالمال وبالشّفقة على الحال ما دام قد تيقّن من طبيعة هذا الجار الخبيث الذي كان يتودّد إليه زلفى منذ أيام بعدما رآه يرتاد المسجد ويحضر الصلوات الخمس في أوقاتها فرأى فيه فريسة قد يسهل عليه نصب حباله حولها وإسقاطها في الجبّ، والحال أنّ تلك المدينة التي تدور فيها أحداث هذه القصّة تعيش منذ مدّة على صدى الموت الأسود؟
وبصفتي قارئ مشارك في الكتابة، أيْ قارئ إيجابيّ في مقدوره أن يقدّم الإضافة للنّص فإنّني أرجع الأمر إلى اعتبارين اثنين:
الأول: هذا المواطن الصّالح أخافته زبيبة الجار فاكتفى برفض المقترح بشدّة ولسان حاله يقول:
– كفى الله المؤمنين شرّ القتال!
الثاني: أنه لا يريد أن يضع نفسه في محلّ شبهة فخيّر أن يراوغ صاحب الزّبيبة هذه الّليلة وهو يحدّث نفسه بحكمة الأجداد:
– إن غدا لناظره قريب!)
***
وصلتَ إلى الشّارع الكبير قبل أصحابك فرتّبت مكانك الذي اخترته على هواك (كنتَ قد تخاصمت معهم أكثر من مرّة وتبادلتَ مع بعضهم اللّكمات والشّتائم النّابية وأغلظت لآخرين القول حتّى دان لك المكان فصرتَ صاحبه ومولاه.) وكنتَ تتفنّن في زينته فتعرض الغلال في صناديقها الكرتونيّة التي نسّقتها بنات المعامل الفقيرات للتصدير إلى الخارج ثم رفضها المستهلكون هناك فعادت لتُعرض بأثمانها الباهظة على جيوب البائسين من أبناء البلاد (أنتَ لا دخل لك في ذلك فما أنت سوى مرّوج صغير لما يصلك من الباعة الكبار لهذه البضائع التي تخرج مباشرة من الموانئ إلى الأسواق الحرّة فيشتريها رجال المال بالمليم الرّمزي ثمّ يعيدون بيعها في السّوق الدّاخلية للشّعب الكريم بسعرها في بلاد الفرنجة) ثم تضع خضر فصل الشتاء.
(نحن الآن في بداية شهر سبتمبر) في الواجهة: السّلق الأخضر اليانع كأنّه خرج لتوّه من الحقل والجَزَر الرّافل في بهائه واللّفت الأبيض السّكرّي، وتزّين عرضك بباقات البقدونس والكرافس الفوّاحة، ثم يصدح صوتك بالغناء وأنتَ تُمجد هذه السّلع التي لا تضاهيها كلّ سلع السّوق الأسبوعيّة على مدى الشّارع الطّويل.
***
أنتَ تعرف أنّ بقعتك عند مفترق الطّرق، قريبا من المنحدر الذي تجتازه السّيارات القادمة في الاتّجاهين وقد باغت جنونها المشترين في كثير من المرّات حتّى أنّها كانت توشك على دهسهم وهم يتخيّرون من بضائعك ما يحلو في العين فيضطرّون للقفز على الطّوار للفوز بحياتهم ولكنّهم كانوا يطؤون بضائعك ويحوّلون مقامك الجميل إلى ركام إلى أن قرّرت وقد اشتدّ بك الغيظ ذات مرّة إغلاق هذه الطّريق يوما كاملا في وجه العربات بكل أشكالها وألوانها ومهامها.
وقلت لمن جاء يتفاوض معك من أهل الحلّ والرّبط:
– إما سوقنا أو سيّاراتكم!
فوعدوك أن تبني لكم البلديّة أجمل سوق في العالم، المهمّ الآن قالوا لك أن تعود الطّريق للسّيّارات وسنجد حلّا لسوقكم.
وها أنت تنتظر الحلّ مع المنتظرين.
***
(كأنّ كاتب هذا النّصّ ومن ورائه السّارد العليم بمجريات الأحداث ومحرّك خيوطها يريد أن يوحي للمتلقّي بأنّ حدثا جَللًا سيقع قريبا في هذه السّوق الأسبوعيّة، حدث سيغطّي على ما وقع البارحة في هذا الحيّ الفقير المحاذي للجبل المسكون بالغيلان).
أوووووووووووه! غيلان!
وها نحن نعود من جديد إلى خرافة الغيلان التي ذهب في ظننا أنها انتهت مع موت الجدّات وحفلات السَّمَر وراء نيران مواقد الشتاء.
ولكن ها هي تعود مرة أخرى في أشكال جديدة.
وكان يا ما كان في سالف العصر والأوان، ويكون الآن في بلاد السّلطان جبال مسكونة بالغيلان!
(رجاء! لنتّفق أولا! فالأمور بدأت تتشعّب وخيوط القصّ ستفلت من بين أصابع السّارد إلى موضوع خارج عن نطاق قصّة اليوم التي نريدها لحدث جلل هزّ القلوب وأبكى الأعين وأوجع الأرواح فمِثل هذا الحدث يكفي وزيادة يا سيّدي الكاتب لتأثيث قصّتنا! لهذا رجاء وفّرْ لنفسك طاقة الحديث عن الغيلان في مناسبة أخرى!
مفهوم!
***
الشّمس حارّة هذا اليوم. والطّريق بدأت تضجّ بعشرات السّيّارات والمارّة. وقلبك يخفق بشكل لا عهد لك به. هكذا اشتكيت لجارك بائع الرّوبافيكيا فقال لك:
– ليلة البارحة مرّت بسلام. ورجالنا كانوا يقظين. ولن يمرّوا يا صاحبي!
لن يمرّوا!
فقلت له:
– قلبي دليلي يا صاحبي!
وسكتّ، فسكت لحظات وقد أصابته عدوى نظرتك السّوداء لهذا الكون الذي بدأ يتحرّك في السّوق، ثمّ عاد ينادي على بضاعته التي تكدّست أمامه تفوح منها روائح أصحابها التي لم يُذهبها عنها الماء والصّابون.
– روبافيكيا!تحيا الرّوبافيكيا!
بينما تقاطر أمام ناظريك كرنفال من الأحمرة المُحمّلة بشيوخ قادمين من الأرياف البعيدة وعربات مجرورة ببغال وهي تنوء بصناديق التّين الشّوكي والقرع الأحمر والبطّيخ وعجائز يطلبن الصّدقات ولصوص صغار تعرفهم بالاسم فتبتسم في وجوههم كلّما اقتربوا من غلالك فيحمرّ الخجل على وجوههم ويهربون من ابتساماتك، وحرّاس البلديّة بأعينهم الماكرة الشّبيهة بأعين ثعالب الصّحراء وهم يجوبون ساحة السّوق بحثا عن طريدة يضعها حظّها العاثر في طريقهم وحافلات قديمة تنفث دخانا أسود وسيّارات صغيرة يطلّ من شبابيكها أطفال كالورد.
ويصدح صوت صاحبك من جديد:
– روبافيكيا!تحيا الرّوبافيكيا!
فتعود مرّة أخرى تلبّي رغبات زبائنك وأنت لا تكفّ عن مراقبة الحركة التي ازدادت والاكتظاظ الذي عمّ السّوق حتّى أنّ السّيارات العابرة ما عادت تجد لها مكانا وراء أرجل المارة.
– وروبافيكيا!تحيا الرّوبافيكيا!
***
عندما انداحت كبّة النّار في فضاء ساحة السّوق قلت بينك وبين نفسك وأنت تشهق:
– ها قد قامت القيامة التي وعدنا بها صاحب الزّبيبة!
كانت شعلة من نار تلظّى تقذف بشواظ من لهب في سماء السّاحة وقد اختلط فيها الوميض بالزّفير والرّعود بالبروق، ففكّرت بالهرب من هذه السّاحة التي تحوّلت إلى جهنّم ولكن أين المفرّ؟ فالنّيران تلتهب فوق أسفلت الشّارع وعلى رؤوس الأشجار وداخل السّيارات الرّابضة على جانبي الطّريق وهي تأكل من أجساد البشر ولا تشبع!
وكنت قد رأيت وميضا كوميض البرق الخاطف ثم سمعت صوت اصطدام رهيب كقعقعة الرّعود في السّماء ثم شاهدت النّجوم تنفجر في السّاحة وتملؤها بالنّور والنّار. ساعتها عرفت أنّ ما تنبّأت بحدوثه قد وقع، وأنّ الشّاحنة العملاقة المُحمَّلة بأكياس الأسمنت قد وقعت على الحافلة التي كانت تغصّ بأطفال المدارس ثم رأيت عمود الكهرباء العملاق يترنّح يمنة ويسرة ثمّ يهوي على الأرض بكلّ ثقله بينما كانت الأسلاك الكهربائيّة ذات الضّغط العالي تتشابك فيما بينها وتشتعل بكلّ ألوان الطيف ثمّ تبدأ في رشّ الّلهب على البشر والحجر، فصرت تخور كثيران الجحيم والنّيران تلتهب في ثيابك وتأكل من لحمك:
– تفوووووووووووه! هذه موتة كموتة الكلاب! اللّعنة!
وبحثت بناظريك عن صاحبك بائع الرّوبافيكيا فوجدته قد تفحّم فوق أكداس الثيّاب القديمة بينما روائح الشّياط تملأ المكان فمددت يديك تطفئ بهما الّلهب الذي اشتعل في لحمه ونثرت عليه من تراب الأرض.. ولكن هيهات! ثم رفعت رأسك تمسح المكان بعينيك الكليلتين فلم تر إلى بقايا الخضر والغلال التي تناثرت على طول السّاحة وعرضها وجثث الآدميين والأحمرة والبغال وقد تبعثرت هنا وهناك وأصوات أنين حادّ يرتفع بين الحين والآخر بينما من بعيد تراءت لك أشباح تقترب بحذر من مكان الواقعة.
ولا شيء غير ذلك!
فعدت تقول:
– سأنتظر حتّى تنشقّ الأرض ثم سأعلن عن قيام القيامة!
***
(سنعتبر أنفسنا قد انتهينا من كتابة وقائع ما جرى معك ليلة البارحة وصبيحة هذا اليوم لنثبت للقارئ أنّنا طبّقنا كما التّلميذ النّجيب تعليمات جهابذة كتّاب القصّة القصيرة ونقّادها الأشاوس وأنّنا اخترنا لحظة عابرة من حياة واحد من مواطني قرية نسيها التّاريخ من قرى البلاد التّونسية في لحظة ضرب فيها الموت ضربته بشكلين مختلفين:
– في اللّيل لعلع الموت بأصوات البنادق الأوتوماتيكيّة في الحيّ الشّعبيّ قريبا من المنزل الذي يقطنه بائع الخضر والغلال فخرج الشّعب الكريم يهتف ضدّ الموت ويهتف بحياة تونس.
– أما صباحا فقد عاد الموت من جديد ولكن على ظهر شاحنة بلا كوابح فأحرق ساحة السّوق وما عليها فخرج الشعب الكريم يبكي قتلاه ويبكي تونس.
ميلودراما! أليس كذلك؟
ونحن نعني ما نقول.
بقي أن نؤكّد مرّة أخرى أنّنا تركنا النّهاية مفتوحة عن قصد وبسابق إضمار وترصّد (ونؤكّد على ذلك من جديد) لمن يريد أن يجتهد ويبحث فيما جرى من وقائع يشيب لهولها الولدان ويظلّ يذكرها الحدثان على مرّ الأزمان من برّ قمودة حتّى تخوم بلاد خمودة، فراوينا العليم يعلم كلّ شيء ممّا ظهر من الأفعال وما خفي ومن أسبابها ومسبّباتها، ولكنّه لا يريد أن يقول أكثر ممّا قال لأنّ القصّة القصيرة لا تحتمل الحشو والإطناب ولأنّ وراء كل ذي علم عليم.
***
سهو جديد:
من ترك نهاية القصّة مفتوحة؟
وعلى من يعود ضمير النّون؟
(يذكرني هذا النّون ((ن)) بنون وما يسطرون)!
هل يعود على الكاتب؟
أم هل يعود على السّارد؟
أم هل يعود على كليهما؟