كنانة عيسى - تعويذة النورس الأخيرة

ياالله... ولا يكتب مثلك السرد الشعري كما تكتب أيها المحلق المقيم) ، الأستاذ المبدع عمر حمش)
هذه اللغة الشاعرية الآخاذة، وهذا الانعتاق الكلي المجازي باللغة وحدها، حين يصحبنا نورس وحمامة في دورة حول الزمن... فنكتشف كيف يكون مذاق الحب الذي يلتصق بالروح فلا يغادرها وإن تلاشى الجسد وفقد أجنحته!! فهو خالد خلود الآلهة القديمة.

خصوبة الآلهة السومرية الأنثى

استطاع الكاتب المذهل ان يخلق تناصًا غير مرئي
لقصة تموز وعشتار أو ديموزي وإنانا، فهي قصة الحياة والموت والبعث من جديد، ولقائهما الرمزي الدائم في الربيع يعطي لهذا الفصل معانيه المتجسدة في الخصب والحب والتكاثر". لكن مكان اللقاء الأخير نزع من العاشقين ألوهتهما.

ورد في النص

ونحطّ في كلّ مرّةٍ في بلادٍ، يحتفلون بها، وهي تُبرقُ بالجبين، وتقهقه بالعينين، وتشدو بألحانِ جدودي القديمة،
هذه الأنشودة الأسطورية التي تبدو عن تقمص راقص، يغزو الأجساد، روحان عاشقتان تنهمران في حكايا التاريخ وتنثران في الأمكنة المنسية زمنهما الحي كالآن، كومضات عابرة تستمر قرونَا ودهورًا، تحلق فيتبعها، واضح الحضور يسعفه الحب و ويؤججه الشوق، غائمة الهوية ،شجاعة متوحشة كآلهة تعرف الحكمة القديمة وتتقن (أغاني الأجداد) فلا تهدأ وهي تبحث عن الحياة في أوج رونقها في كل زمان ومكان

فأي عشق ينبثق من خفق هذه الأجنحة؟ ولم كان السارد القلق بكل وعيه ويقظته نورسًا صريحًا هائمَا قد أطلق روحه خلف دروب الحمامة الناصعة الباحثة عن السلام؟ ولم كانت المعشوقة متنكرة في طير يغير ريشه وزقزقته وشجنه؟ رغم شجاعتها وخصوبتها وقدرتها على خوض الأزمنة كالنور.!؟ وكأن الموت ليس قدرًا ولا مصيرًا وكأن الولادة طقس احتفال دهري متوحد يسعى خلف العاشقين فحسب؛ فيعودان لجسدين جديدين، تنبت لهما أجنحة جديدة فيفرّان لعوالم لا يحدّها بعد ولا وقت ولا حاجز ولا معبر.
وكما ورد في النص
وفي قلقي كنتُ أسترجعُ جناحيّ، وهي ترمقني، لتغرقني في بئر نبيذ، إلى أنْ أنبتتْ جناحيها؛ فأنبتُّ، وعادتْ؛ تصاعدتْ، فتصاعدتُ .. حلّقتُ في فرحي

السرد المفتوح بدلالاته وعلاماته

كثيرة هي الأسئلة التي لا ننجو منها أمام سرد دلالي متقن كهذا، سرد يتباهى بلغته وبصوره الشعرية متعاليَا على استيعاب القارئ العادي مترفقَا به واصفًا رحلة سومرية لطيرين حرّين، (إنانا وديموزي) ربما
من أرض الفرنجة برعاعها الذين يحتفلون بطقسية البعث في زمن ما قبل التاريخ، إلى فراعنة مصر القدماء وهم في رقص وانتشاء في احتفالية تجدد الحياة وبعثها ثمّ إلى الوطن السليب، إلى غزة التي غادرتها الحياة الرغيدة الواعدة، فأصبح الموت فيها أكثر اقترابًا وحضورًا من الحياة ذاتها. ها قد حلق النورس الرسول تابعًا درب عصفورته المتنكرة، لتحطَّ في هذا الزمن الممسوس بالحزن، وتتجذر في (سوق الأحد) المزدحم بالفقراء المتعبين المحاصرين و بائعي البسطات البائسين الحانقين، وتتسلل لجسد أنهكته الحياة الشبيهة بالموت، بشحوبها وحاجتها، فتتخلى عنها الألوهة ، ويغادر ثوبها الملكي تطريزاته الكنعانية العتيقة، ويأكله الشقاء
وقسوة البقاء على قيد الحياة،
وتنتظر في صمت تلك القطعة المعدنية الباقية من صفقة بيع مارقة بلهفة، وكأنها قد باعت جناحيها للمرة الأخيرة
فلا تحليق بعد اليوم. وكأن الحياة الآن قد غدت موتًا وفناءً للروح أيضًا.

تلك هي النصوص المفتوحة، التي نحلق فيها في فضاء السرد ،فنسقط في المشهد للأبد، حين يصبح المسكوت عنه أبلغ مما يقال و أشد صحوة من واقع قاهر تتجاذبه روح نورس محلق... يعلم جيدًا طريق العودة. كما ورد في النص
وكنتُ القريبَ، وكنتُ البعيدَ غارقا في تأملي، ولا أقوى - مثلهم - على ممارسةِ تصفيقٍ، ولا صفير ..

ستبقى القريب البعيد بقلمك الآسر أستاذ عمر حمش
Kinana Eissa
1-4-2022

النص:
تغريدةُ النورسِ الأخيرة

أخَذتْ بتلابيبي، واستحكمتْ، حتى سَرَتْ في دمي.
قالت: أنا طيرٌ. ثمّ تطايرتْ.
قلتٌ: وأنا نورسٌ. ولاحقتُها.
بين الغيومِ كانتْ قبسا، يخترقُ طبقاتٍ، ويمورُ، وكنتُ المتتبعَ بقلبٍ يرتجف، حتى حطّتْ على بلاطٍ، وسقطتُ مهيضا جوارَها؛ لكنّها تباعدتْ، وتَحلّق خلقٌ، وخضضتُ دماغي الذاهلَ، حتى تثبّتُ، وعرفتُ أننا بين فرنجةٍ يؤدون - وهي وسطهم - رقصةً قديمة، وكنتُ القريبَ، وكنتُ البعيدَ غارقا في تأملي، ولا أقوى - مثلهم - على ممارسةِ تصفيقٍ، ولا صفير .. وترنّحوا، وهم الثملون، وأنا القلقُ. وأزادتهم من ترنُّحِها، وهي تسدلُ الذراعين، وترفعهما، وتوسعُ العينين، وتغمضهُما، وقومُ الفرنجةِ يهتزّون في حبور، إلى أنْ تضاءلتْ فجأةً، حتى عادت حمامةً ثلجيةً .. ارتفعتْ؛ فانتفضتُ، وعُدتٌ نورسا .. تصاعدَتْ؛ فتصاعدتُ،، وارتفعنا، كم ارتفعنا، وعاد قلبي يرقصُ، وسابقتني في البعيدِ، حتى غدَتْ شمعةً أضاءتْ رأسَ فتيلِها، وتعمقنا غازيّين للفراغ الجميل، وتوسعنا، ولكم توسعنا، تهوي؛ فأهوي، ونحطّ في كلّ مرّةٍ في بلادٍ، يحتفلون بها، وهي تُبرقُ بالجبين، وتقهقه بالعينين، وتشدو بألحانِ جدودي القديمة، وكانوا يرقصون في انبهارٍ، سودًا، وبيضّا، وشقًرا، وأنا المصاحبُ في كلّ حالٍ، الخائفُ الملتاع، حتى هَوَتْ مرةً أخرى في السحيق، وعدتُ - كما في كلّ جولةِ هبوطٍ - أنادي ربَّ السماء، وأضربُ بجناحينِ كنصلينِ، وإذ بي أجاورُها في أرضٍ، أحسبُ أني كنتُ قرأتُ عن رائحةِ طينها، وكانت أميرةً فرعونيةً بين آلهةٍ، وقدماءُ المصرين يضربونَ بالدفوف، وهي تومئُ شاكرةً، وأنا الحارسُ أرقبُها، والنيلُ يعلو، ويتضاحكُ، وكلّ ما حولَنا يتسقُ، وفي قلقي كنتُ أسترجعُ جناحيّ، وهي ترمقني، لتغرقني في بئر نبيذ، إلى أنْ أنبتتْ جناحيها؛ فأنبتُّ، وعادتْ؛ تصاعدتْ، فتصاعدتُ .. حلّقتُ في فرحي، وأُبنا، والشمالُ وجهتنا، والشمسُ تدفعنا في ريحٍ. حتى طفنا فوق مخيمنا في جباليا، وفي البعيدِ رأيتُ صفيحَ سقف بيتي، والصغارُ خمنتهم يشيرون؛ ونحن نسقطُ في زحامِ سوقِ الأحدِ، والحشدُ يباعدُنا، لأهرولَ في البحثِ، وأنا أقول:
أضعتها، ويا ويلي، أضعتُها.
حتى وجدتها متشحةً بخِرقةٍ، وبثوبٍ بهتَ قطنُه، وتنتفت خيوطُ تطريزه، يكسوها شحوبٌ خلع قلبي، ومع عينين ذابلتين، تُرجفُ ذراعا وتبسطُها، وصاحبُ بسطةِ يصيحُ في نَزَقٍ، وهو يمنحُ كفّها شيكلا، وهي متلهِفَةً تتلقفه، وتضغطُ عليه ..

25-3-2022

بقلم الناقدة السورية كنانة عيسى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى