عمر حمش

عندما نوديت على بسطة الخضار ب: ياحاج؛ تريثت، وقد أخذتني الدهشة، وظننت أنني اشتبهتُ على البائع، لكني سرعان ما أدركت أنه تقصدني؛ فأصابني الخذلان، وسرت قشعريرة، ومرّ رجف. ولمّا غادرت؛ وقفت على ناصية، ولم أبرح، أرقب الذين يرمقوني، ويعبرون بلا اكتراث، ودقّقت في وجوه الصبايا، وهنّ يشحْن، واسترجعت...
حقيقيٌّ أنا، أم حلمٌ يمشي على غيمٍ، أكائنٌ أنا، أم وهمٌ من سراب. و أخطو على ندفٍ من القطنِ، والناسُ حشودٌ فوق الحشود، الناسُ غاباتٌ من أيدي تناهش الرغيف، والممزق، وهو يصرخ. وأهبط، أم تهبط بي الغيوم، وأجوسُ فيها، وأنا أرقب حشد الجوعِ الكسيح. وأهربُ؛ لأعود أعلو .. أرى قائدي الطائراتِ يعجبون، لكن...
كان حبّه لفريد شوقي، أكثر من حبّه لأمّه، وحين نسأله؛ يقول: - مين أمي؟ ونقطع طريقنا الطويلة سيرا على الأقدام، ونحن نصغي لحنجرته، ولقبضتيه اللّتين تسدّدان اللّكمات، ونضحكُ ملتّذين، وهو ينثني؛ ليرفس. في آخر جولةٍ؛ وصلنا منهكين، ومكثنا نخططُ لمغافلة مدقّق التذاكر؛ حتى نجحنا، فعبرنا؛ وقادنا الشّعاع...
ياالله... ولا يكتب مثلك السرد الشعري كما تكتب أيها المحلق المقيم) ، الأستاذ المبدع عمر حمش) هذه اللغة الشاعرية الآخاذة، وهذا الانعتاق الكلي المجازي باللغة وحدها، حين يصحبنا نورس وحمامة في دورة حول الزمن... فنكتشف كيف يكون مذاق الحب الذي يلتصق بالروح فلا يغادرها وإن تلاشى الجسد وفقد أجنحته...
أخَذتْ بتلابيبي؛ ثمّ استحكمتْ، حتى سَرَتْ في دمي. قالت: أنا طيرٌ. وتطايرتْ. قلتٌ: وأنا نورسٌ. ولاحقتُها. بين الغيومِ كانتْ قبسا، يخترقُ طبقاتٍ، ويمورُ، وكنتُ المتتبعَ بقلبٍ يرتجف، حتى حطّتْ على بلاطٍ، وسقطتُ مهيضا جوارَها؛ لكنّها تباعدتْ، وتَحلّق خلقٌ، وخضضتُ دماغي الذاهلَ، حتى تثبّتُ، وعرفتُ...
لمَّا عبرتُ شرخَ حائطِِ الراحلين؛ دهمتني رائحةُ الصُبّارٍ، ولطمني شوكُ القبور، حتى وصلتُ رملَ بقعة، فكان أطرى من سجاد حرير. وما أن انطويتُ مسترخيا؛ أرتشفُ ذكرى الغائبين؛ حتى تقشر قبرٌ تقشرَ موزةٍ، وهيكلُ صاحبِه قفز؛ يمزّقُ كفنهُ، وأخذ لسانهُ يصيح: - اخرجوا يا قوم .. ثمَّ أخذ ينفض غباره؛ ويكسو...
تصلُ الريحُ رفوفَ حمام .. تحطُّ على الوجنات. وتقولُ الناسُ: ما شاء الله. تغتسلُ الدنيا، وتشهقُ الأكواخ. يتسلقُ المهاجرون أسطحَ الصفيح، ويتنادون، وهم يفردون النايلون، ويربطونه على الثقوب. عندها يصعدُ صبيُّ الريحِ التلال، هناك يشهرُ ذراعيه.. سبّاقا في عناقِها، متمتعا بشدتها، وقد انغلقت صرصرا...
قالت الوردة في بلادِ النَوح: ما شأن هذي البلاد؟ لا تصغي لهمسٍ وقت صبحٍ، ولا تجيدُ الترنم بالحياة .. قالت الوردةُ لأختِها الوردةِ: قومي صغيرتي؛ نسبحُ في فضاءِ الأغنيات .. وقالت للورود: انظرن تلك الخدود عبر الرصيف، وارقبن كمَّ الشحوب .. قالت: قلبي ضعيفٌ، وهذي الأرض لا ترانا، ومن بعدِ وقتٍ...
لم أك أتصور سبب تسميته بهذا الاسم .. كان بلا دكان، وبلا بضاعة، يتجول، ويطوف واضعا قبضتيه في جيبيه، يهز كتفيه، قصيرا مهندما مبديا وقارا. وكنت أرقب هيئته، وهو يعبر، وأتسمع التعقيب الدائم: - الدكنجي. ويسرح خاطري في الاحتمالات .. هل امتلك - من قبل - دكانا؟ ولكم تخيلته تاجرا، فقد تجارته، وشرعت في...
هي مملكتي، كبستانِ ليلكٍ صامت. تعجّ بالسكينةِ، بلا قابضٍ، ولا كلامٍ يطيرُ كأسنة رماح. خلوتي ميداني، ومضجعي. كل شيء إليها يأتي، ويرف بأجنحة حمام. أمي المفارقة تعود تعجن الطحين، وتقلي خبزنا بزيتنا .. أبي في ركنه، ساقٌ على ساق، يشدو بتغريبة بني هلال. كل شيء ساكنا يجيء بلا ضجيج. وأعودُ فرخَ نسرٍ،...
-يا شفيق، تعال خذ أختك شفيقة. يهرولُ شفيق إلى الشرفة، ويصيح على أخته التي خلف الشرفة المقابلة: - يا شفيقة، تعالي خذي زوجك. ولا تظهر شفيقة. رضوان يأتي تحت شرفة شفيق كما القدر، يقف في الزقاق بساقين دقيقتين في نصف سروال فضفاض، مبقّع بالألوان، يقف؛ ليحملقَ بعينين داميتين، في رأسٍٍ نحيلٍ كأنه يقطينة،...
عند العصرِ؛ اعتلى - السقالة، ألقى آخر كيسِ اسمنتٍ فوق الأكداس، ثمّ هرول مغبرا، حتى جاء فَرشةَ كوخِه الوحيدة، فرمى جسده، ثم غرق في سبات. لكنه سرعان ما قفز، ثم سقط، من بعد أن قصف الطرقُ بابه المتآكل .. ارتجف؛ حتى اهتز .. فمه المعقوف تقدم ظهره .. هَمس: - مِ .. ين؟ كاد الباب يطير، فترنح على...
منذ أربعين سنة؛ لم يحدث له هذا. ألحد المئات، لكن كهذا لم ير؟! كان يسند كل ميت على جنبه الأيمن، ثم يفك الأربطة. ويكشف الغطاء؛ ليغادر. كانت تنفرد تحته جباه. أو تلتوي شفاه ساخرة. وحتى قد تغمز له عين، ثم ترتخي. فيدقّ قلبه، وترتعش ساقاه. دفن كبارا، وصغارا، جثثا اكتملت، وأخرى تقطعت. رقب لحظة كل ميت،...
يا للمصادفاتِ التي تحطُّ! على بسطة خضارٍ؛ حدّقتُ، وتمعنتُ .. ها هي؛ تجاعيدٌ، وظهرٌ منحنٍ، وأصابعٌ مهتزّة؛ تتلقطُ حبّات الخيار، مع عينين تومضان كشاشتي إرسال. وأنا المتنقّلُ بين هامتِها، وقدميها؛ يعاودني شمعون بقبعته .. يصولُ فينا، ويجول .. ويأتيني، وأنا المتتبعُ؛ وهو يهرولُ خلفها. لم أعد أدري ما...
تغير أبو بردعة .. لباسُه، تسريحتُة، خطوُه، وطريقتُه في إلقاء الكلام. تغير المتسخ، المتوسل لقمة طعام. كان يرقدُ معهم على العتبات، وهم يستمعون إلى نشرات الأخبار، فإذا ما أشعلوا؛ تتبع سُحبَ التبغ. لكنّه في يومٍ اعتدل .. كان يغدو، ويروح مستعرضا بِذلا سوداء، وحمراء، وخضراء ... رمقوه من غير تلفظٍ،...

هذا الملف

نصوص
28
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى