عمر حمش

قبل خلعِ الباب؛ كان طيرا يُجدّفُ .. كان طيرا يحدّق. يفهمُ لغاتِ الريحِ، ويستقبلُ الألوانَ برئتي حرير. قبل خلعِ الباب. أي والله. عندما صرخ البابُ، ثمّ هوى؛ كانت لحظة فصلٍ ما بين انبهاره، وانطفائه. لا تقل: ريحٌ صرصر. لا تقل: ضربةُ قدر. فبابُ المخيمِ منسيٌّ في جدارٍ طينٍ عتيق، والجدارُ في زقاق لا...
قبضت الكورونا على المخيم .. وكانت أخبار الضحايا الجدد تتوالى إلى الأكواخ .. فرغ الميدان الصغير، والشوارع، والأزقة، وغادر النسيم في صيفٍ مرعبٍ ثقيل .. كانت الكورونا تمشي على سيقان، وتتنقل قرب الجدران، وكان سكانُ كلّ كوخٍ يحسونّ أنها على وشك أن تقرع صفيح الباب .. كلّ شيءٍ كان ينبيءُ بالموت ...
هزَّ الأجداثَ صوتٌ آمرٌ؛ فقامت الأكفانُ من رقادِها. لم تُطل الأكفانُ انتظارَها .. كلُّ كفنٍ مدّ يديه؛ وفكَّ رباطَه. .. تداعت كلّها ولم يتأخر كفنٌ واحد. ساطها الصَّوتُ؛ فاستجابت .. زحفت عبر الرملِ من كلّ صوبٍ، وكان الصوتُ طيرا .. يعتلي خيوطَ الشمسِ: لا يتبقى حيٌّ في الباطن. عادت الشمشُ بكرا ...
كان في حارتنا .. رأسُه ثقيلٌ أشعث، وكرشه زاده قِصَرا، إذا ما غاب؛ افتقدناه، وذهبنا جماعةً، نصيح: - يا .. ونش. أبوه يخرجُ بالشارب الكبير .. عيناه تقدحان؛ فنقفز: - رَوْحوا، يا أولاد الكلب. يغافلُه، ويأتينا، فنضربُ قفاه، ونقرصُ خديه الواسعين، وننتفُ شعرَه المتهدّلَ المتسخ، وهو يوزعُ الابتسامات: -...
أيا ساكنَ البروازِ، والهائم بما أنت فيه: كأنّك عشتَ؛ لتعلَقَ شارةَ ضبطٍ لحركةِ العابرين، يُلقون نظرَ الغدوِ، والرّواح؛ فتبزغْ كريشةِ زَغَبٍ، وتُرعِشُ كلمحٍ، وتدورُ كذبالةِ ضوءٍ. تمكثُ بشبقٍِ؛ وأنت تجمعُ الهمسَ، أو تصفّفُ الصمتَ كمايسترو السكون. أيّها المُلتذُّ؛ وأنت تصول، ولستَ المُبرحَ، ولا...
عندما تعلقت المروحيّةُ؛ غمرتني دهشةُ الحالمين .. على نافذة الفصل؛ رأيتها بأمِّ عيني .. دقّقتُ، وتمحصتُ، ونقّلتُ بصري .. تيقنتُ مما أرى؛ عندما شهق الصغارُ، ثمّ شرعوا جماعةً بالتصفيق. كانت هائلةَ، تؤرجحُ هيكلها .. لم ينتبني هلعٌ، بل راحةٌ، وجذل، كذلك الصغارُ الذين بدوا مرحبين، وهي تزنُّ مثل دبورٍ...
يوم امتلك حسن صديقي تلك الكرة ؛ رقّصها مطاطيّةً ملوّنة، غلبَ عليها لونُ الذهب. أبوه كان صاحب مقهى أسمر نحيفا .. كنتُ إن رأيتُه، تخيلته يعلكُ قطعة الأفيون التي دسّها تحت لسانه .. هذا ما رددته على مسمعي نسوةُ حارة مخيمنا الصغيرة. في بيتنا ترددتُ طويلا من قبل أن ألقي قنبلتي، واطلب كرة مماثلة،...
قبل الموتِ؛ حفرتُ حفرتي .. أخترتُ موطن مأواي الأخير، ولقد راقني التعرف إليه. شُدِه الحارس؛ حين علم أنّ تلك الحفرة ما هي إلا حفرتي، فباعد المسافة التي بيننا، وقد اتسعت عيناه، وعلا جبينه، حتى أيقن أنّ الأمرَ جديٌّ، وأنني لن أشجّ رأسَه بالفأس؛ وشرع بمناولتي آخر قطع البلاط. نقدته ما في جيبي، وقلت...
أبهجه الشعاعُ السا قط على نقعٍ، تجمّع من بعد عاصفةِ ممطرة. كانت ليلةً أسْحَمت، حتى غرق المخيمُ في بئرٍ بلا قرار. اهتزّ سطحُ غرفتهم بدفعِ الريحِ، ومن بين قطع القرميدِ المتحركة؛ شقّت الظلمة سيوفُ برقٍ؛ فرَقدَ أكثر، وهو يستقبل وَعيدَ الزلزلة .. كم اشتعل الكونُ؛ وانطفأ، وكم التصق بعظام جدته التي...
في طفولتي كنتُ حائرا في أمرِ ظهرِها الذي ينحني إلى شكل زاويةٍ قائمة، وكانت حيرتي تشتدّ كلما أمَّي تقول: من الصهاينة.. وتتدافعُ صورُ عسكرٍ يثنون ظهر جدتي الصبيّة .. قالت أمي: جدك هاجر إلى الخليل من بعد طردِه من المجدل. سنة فقط، نصب نوله في بيت أمر، ثمّ دهمه السرطان، فتسلل بعائلته راغبا الموت...
إلى ذكرى الذين سقطوا في مذبحة خان يونس سنة 1956 في تلك الليلةِ، انتهت المعركة ُالصغيرة ُ، ودخلوا. . قبضَ الصّمتُ على مخيمِنا. أصغينا لدوىِّ أنفاسِنا، ولهمسِ الرّيحِ، ِ ترقبنا أن يأتيَنا الله من نافذةِ غرفتِنا، لا رشاشُ العُوزى. هيّجَ الخوفُ كلبا، فاستعر النباح، ارتجفنا، وتمنينا انطفاء القمر،...
زمجرت الطائرةُ، وتطايرت النُتَفُ .. غرق الوالدان في الدهشة .. مكثا على بقيةِ حصيرٍ؛ يحدقان عبر شقِ بابِ الصفيح .. كان الشّقُّ فُرجةً .. كانت السماءُ شاشةَ عرضٍ: هناك راعٍ يزجي الولائمَ للوحوش .. هناك زفاتُ أعراسٍ تبيد.. ومن على الحصيرِ؛ كانا كهلا، وكهلة .. ثابتين في وجوم .. متحركين في لهاث ...
طالَ غيابُكِ؛ فسعيتُ إليكِ .. عجنتُ الوردَ بماءِ الأحلام، ثمَّ نقشتُك .. زدتُ، وأنقصتُ، حتى ابتسمتُ؛ وأنتِ تضيئين. ورأيتُك تنثالين؛ فتوجدتُ برسمِ التكوينِ. وتماهينا؛ حتى توحدنا في عقلٍ واحدٍ، وروحٍ واحد، وشرعنا نسكبُ الرضا، ونوّزعُ على الأنحاء. وزّعنا، وكان كليُّ القدرةِ يباركُ، وكنتُ المبتهجَ...

هذا الملف

نصوص
28
آخر تحديث

كتاب الملف

أعلى