الدكتور زياد العوف - النظريّة الشكليّة في الأدب

كنتُ قد شرعتُ منذ وقت قريب بتفصيل القول في مفهوم( نظريّة الأدب) ، فكتبتُ مقالاً في ذلك ، ثُمّ أتبعته بمقال ثانٍ بيّنتُ فيه مدلول وخصائص ( النظريّة الأخلاقيّة) في الأدب.
مقالي هذا يأتي إذاً استكمالاً لهذه السلسلة النظريّة عن الأدب : مفهومه وخصائصه ومقوّماته .
بدايةً.. أودّ التنبيه إلى أنّ المقصود بالنظريّة الشكلية هنا إنّما هو كلّ النظريّات ذات المنطَلَق الشكليّ في نظرتها للأدب ؛ أي أنّ الأمر لا يتعلّق بنظريّة أدبيّة بعينها ، كنظريّة( الشكلانيّة الروسيّة) على سبيل المثال.
لقد تأخّرت النظرية الشكلية في الظهور عن قسيمتها الأخلاقية، ويعود ذلك في بعض أسبابه إلى ما تتبنّاه من مفاهيمَ وقيَم جماليّة محضة لا تلامس اهتمامات القرّاء بشكل مباشر .
ظهرت النظرية الشكلية على يد عدد من الفلاسفة وعلماء الجمال ، ووجدتْ تطبيقاتها الإبداعية لدى العديد من الأدباء في المجتمعات المتطوّرة .
تنطلق النظرية من النظر إلى الأدب بوصفه فعّالية إنسانية خاصة ، قوامها: الإتقان الصحيح للعمل الأدبي . وهي تركّز على اللغة بوصفها مادة وجوهر الإبداع الأدبي، كما أنّها ترى في الأدب ضرْباً من التأمّل المحايد الخالص الذي يتضمّن
قِيَماً جماليّة مستقلّة تمام الاستقلال عن القوانين الأخلاقيّة والاجتماعيّة
لأنّها تنبع من الأدب ذاته .
يمكن اعتبار الفيلسوف الألمانيّ ( كانت ١٧٢٤-١٨٠٤م) الرائد الأوّل لهذه النظرية في العصور الحديثة ، وواضع أُسسها.
ينظر( كانت) إلى الجمال بوصفه "الشكل الخالي من الغَرَض ، والمتمتّع بقوانينه الداخليّة الخاصة ، بحيث يتمّ الحكم عليه بناءً عليها"
فالجمال ، طِبقاً لهذه الرؤية، إنّما هو الصورة الغائية لموضوعه ، من حيث أنّه مُدرَك في ذلك الموضوع، دون تصوّر لغاية أخرى ، أيّاً كانت .
وقد وجدت هذه النظرية صداها النظري والتطبيقي عند كلّ من أصحاب مبدأ " الفنّ للفنّ" وأتباع المدرسة الرمزيّة في الأدب.
يمكن الإشارة هنا، على سبيل المثال،
إلى ما صرّح به الأديب الفرنسي ( تيوفيل غوتييه) ، وهو من أنصار مبدأ ( الفن للفن) في منتصف القرن
التاسع عشر ، إذ هو يمثّل أنموذجاً صارخاً لهذا الاتّجاه .يقول في هذا الشأن : " إنّ حبّي للأشياء وللناس يتناسب عكساً مع ما يمكن أن يقدّموه من فائدة ، كما أنني أعتبر المضمون النافع ضارّاً بالشكل " .
كما أنّه كتب في تقديم مجموعته الشعريّة الأولى الصادرة عام(١٨٣٢م)
ما يلي :
" يسألون : أيَّ غاية يخدم هذا الكتاب ؟ إنّ الغاية التي يخدمها هي أن يكون جميلاً " .
ولا يختلف الأمر كثيراً لدى الرمزيين؛
فهذا الشاعر والكاتب الأمريكي ( إدغار آلان بو ١٨٠٩- ١٨٥٢م) يؤكّد على أنّ غاية الشعر إنّما هي التأمّل في تجربة ذاتية لنقل صورتها الجميلة، كما أنّ صلة الشعر بالحقيقة
كائنة من حيث جمالها ، لا من حيث البرهنة عليها.
وكذلك هو الحال مع الشاعر الفرنسي الكبير ( شارل بودلير ١٨٢١-١٨٦٧م) الذي يرى بأنّ " الجمال مردّه إلى الذوق ، والذوق يختلف عن الحاسّة الخلقيّة التي موضوعها الواجب " .
ويقول أيضاً: " لن يكون الشعر عظيماً، نبيلاً ، جديراً باسمه حقّاً، إلا إذا كُتِبَ لمجرّد متعة كتابته " .
إنّ التأمّل في الأمثلة والأقوال السابقة يسمح لنا بالقول: إنّ النظرية الشكلية ترتكز على الأسس النظرية الثلاثة التالية:
١- التأكيد على الطبيعة الذاتية للجمال.
٢- الفصل بين الشكل والمضمون .
٣- الفصل بين كلّ من الجميل والنافع ، أو الجميل والمفيد .
كما يمكن إرجاع العناصر الشكليّة للحكم على العمل الأدبي ، حسبَ هذه النظريّة ، إلى الخصائص الثلاث التالية:
١- الوحدة : وهي خاصّية جمالية قديمة قوامها ضرورة كون العمل الأدبي كلاًّ متكاملاً ، لا أجزاء متفرّقة.
نجد ذلك عند( أرسطو) في فهمه المنطقّي للتكامل الذي يوجب
أن يحتوي العمل على( بداية ووسط ونهاية) . كما نجد هذا المفهوم أيضاً عند الإبداعيين (الرومانتيكيين) من دعاة "الوحدة العضوية" ؛ حيث ينظرون إلى العمل الشعري بوصفه نبتة حيّة تنمو من الداخل بشكل متكامل.
أمّا الإتباعيّون( الكلاسيكيّون) فيرون وحدة العمل الأدبي في ( وحدة الموضوع) ، في حين يؤكّد الرمزيّون
على( الوحدة النفسية) .
٢- الانسجام : أي ترابط أجزاء العمل
الأدبي وتناسبها وِفق متطلبات الموضوع ومنطقه الذاتي .
٣- التألّق : ويُقصَد به الإشعاع الجمالي النابع من الاستعمال الخاص
للّغة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا التقسيم للخصائص الجمالية للعمل الأدبي إنّما هو إجراء منهجي لتأطير عناصر النظرية الشكلية، وهي مجرّد
عناوين أو مؤشّرات تتيح للباحث أو للناقد الدخول المنهجي في أجواء العمل الأدبي من الناحية الشكلية.
أخيراً..ينبغي التأكيد في ختام استعراضنا لنظرية الأدب على استحالة الفصل بين طبيعة العمل الأدبي ووظيفته؛ إذ هما بمثابة وجهَي الحقيقة الواحدة ، ناهيك عن
أنّ وظيفة العمل الأدبي تنبع أساساً من طبيعته ؛ ذلك أنّه من غير الممكن
أن نطلب من الشعر الغنائي الوجداني، مثلاً، أن يقوم بالوظيفة الاجتماعية التي قد تُناط بالعمل الروائي .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى