د. محمد عباس محمد عرابي - من محاورات ومناظرات الشعراء والفصحاء

يعرض هذه المقال لأبرز محاورات ومناظرات الشعراء والفصحاء الشهيرة على النحو التالي :
المحاورة الأولى : بين الشاعر أبو تمام والكندي الفيلسوف:
امتدح أبو تمام أحمدَ بن الخليفة المعتصم في قصيدة مطلعها:
ما في وقوفك ساعةً من باس
تقضي ذِمامَ الأربُعِ الأدْراس
فلما بلغ قوله:
إقدامُ عَمْرٍو في سَماحةِ حَاتِمٍ
في حِلمِ أحنَفَ في ذَكاءِ إِيَاسِ
قال يعقوب بن إسحق الكِندي ناقدًا:
"إن الأمير فوق ما وصفت، ولم تزد على أن شبهته بأجلاف العرب، فمن هؤلاء الذين ذكرتهم؟ وما قدرهم؟"
أطرق أبو تمام قليلاً، فحضره بيتان ارتجلهما، على نفس الوزن والقافية:
لا تنكروا ضربي له مَنْ دونه
مثلاً شرودًا في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلاً مـن المِشكـاة والنبراس
بهذه الإجابة المفحمة ذكّر أبو تمام بأن هؤلاء المشهورين الذين أشار إليهم في معرض مدح الممدوح- جزء من عظمة العرب، وقد ذكرتهم العرب في أمثالها المشهورة، وذلك طبيعي أن نذكر الجزء للدلالة على الكل، فالله قد اختار المشكاة (كُوّة صغيرة)- لكي يضرب بها المثل على نوره تعالى وهو أبلغ من أن يوصف، فجعل المشكاة التي فيها مصباح لتقريب الصورة لعباده، وذلك في إشارة لآية سورة النور الله نور السموات والأرض، مثلُ نوره كمشكاة فيها مصباح…- النور، 35.
المحاورة الثانية: بين صاعد البغدادي و المنصور بن أبي عامر:
كان صاعد البغدادي بين يدي المنصور بن أبي عامر ، فأحضرت إليه وردة في غير وقتها لم يستتم فتح ورقها، فقال فيها صاعد مرتجلاً:
أتتك أبا عامر وردةٌ ... يذكرك المسك أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطت بأكمامها راسها فسر بذلك المنصور، وكان ابن العريف حاضراً، فحسده، وجرى إلى مناقضته، وقال لابن أبي عامر: هذان البيتان لغيره، وقد أنشد فيهما بعض البغداديين بمصر لنفسه، وهما عندي على ظهر كتاب بخطه، فقال له المنصور: أرنيه، فخرج ابن العريف، وركب وحرك دابته حتى أتى مجلس ابن بدر ، وكان أحسن أهل زمانه بديهة، فوصف له ما جرى، فقال هذه الأبيات ودس فيها بيتي صاعد:
عشوت إلى قصر عبّاسة ... وقد جدّل النوم حراسها

فألفيتها وهي في خدرها ... وقد صرع السكر أنّاسها

فقالت: أسارٍ على هجعة ... فقلت: بلى، فرمت كاسها

ومدّت يديها إلى وردة ... يحاكي لك الطيب أنفاسها

كعذراء أبصرها مبصرٌ ... فغطت بأكمامها راسها
وقالت: خف الله لا تفضح ... نّ في ابنة عمّك عبّاسها
فوليت عنها على غفلة ... وما خنت ناسي ولا ناسها فطار ابن العريف بها، وعلقها على ظهر كتاب بخط مصري ومداد أشقر، ودخل بها على المنصور، فلما رآها اشتد غيظه على صاعد، وقال للحاضرين: غداً أمتحنه، فإن فضحه الامتحان أخرجته من البلاد، ولم يبق في موضع لي عليه سلطان، فلما أصبح وجه إليه فأحضر، وأحضر جميع الندماء، فدخل بهم إلى مجلس محفل قد أعد فيه طبقاً عظيماً فيه سقائف مصنوعة من جميع النواوير، ووضع على السقائف لعب من ياسمين في شكل الجواري، وتحت السقائف بركة ماء، قد ألقي فيها اللآلئ مثل الحصباء، وفي البركة حيةٌ تسبح، فلما دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور: إن هذا يوم إما أن تسعد فيه معنا، وإما أن تشقى بالضد عندنا، لأنه قد زعم قومٌ أن كل ما تأتي به دعوى، وقد وقفت من ذلك على حقيقة، وهذا طبق ما توهمت أنه حضر بين يدي ملك قبلي شكله، فصفه بجميع ما فيه، وعبر بعض عن هذه القصة بقوله: أمر فعبئ له طبق فيه أزهار ورياحين وياسمين وبركة ماء حصباؤها اللؤلؤ، وكان في البركة حية تسبح، وأحضرها صاعد، فلما شاهد ذلك قال له المنصور: إن هؤلاء يذكرون أن كل ما تأتي به دعوى لا صحة لها، وهذا طبق ما ظننت أنه عمل لملك مثله، فإن وصفته بجميع ما فيه علمت صحة ما تذكره، فقال صاعد بديهةً:
أبا عامرٍ هل غير جدواك واكف ... وهل غير من عاداك في الأرض خائف
يسوق إليك الدّهر كلّ غريبةٍ ... وأعجب ما يلقاه عندك واصف
وشائع نورٍ صاغها هامر الحيا ... على حافتيها عبقرٌ ورفارف
ولمّا تناهى الحسن فيها تقابلت ... عليها بأنواع الملاهي الوصائف
كمثل الظباء المستكنّة كنّساً ... تظلّلها بالياسمين السّقائف

وأعجب منها أنّهن نواظرٌ ... إلى بركة ضمّت إليها الطرائف
حصاها اللآلي سابحٌ في عبابها ... من الرّقش مسموم الثعابين زاحف
ترى ماتراه العين في جنباتها ... من الوحش حتّى بينهنّ السلاحف فاستغربت له يومئذٍ تلك البديهة في مثل ذلك الموضع، وكتبها المنصور بخطه، وكان إلى ناحيته من تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوار تجدف بمجاديف من ذهب لم يرها صاعد، فقال له المنصور: أحسنت، إلا أنك أغفلت ذكر المركب والجارية، فقال للوقت:
وأعجب منها غادةٌ في سفينةٍ ... مكلّلةٌ تصبو إليها المهاتف
إذا راعها موجٌ من الماء تتّقي ... بسكّانها ما أنذرته العواصف
متى كانت الحسناء ربّان مركبٍ ... تصرّف في يمنى يديه المجاذف
ولم تر عيني في البلاد حديقةً ... تنقّلها في الراحتين الوصائف
ولا غرو أن شاقت معاليك روضةٌ ... وشتها أزاهير الرّبى والزخارف
فأنت امرؤ لو رمت نقل متالعٍ ... ورضوى ذرتها من سطاك نواسف
إذا قلت قولاً أو بدهت بديهةً ... فكلني له إنّي لمجدك واصف فأمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب، ورتب له في كل شهر ثلاثين ديناراً، وألحقه بالندما
المحاورة الثالثة :بين الفضل بن يحيى وأعرابي فصيح :
يروي الأصمعي الذي خرج في جمع بصحبة الفضل بن يحيى البرمكي إلى الصيد يوما بينما هم في البرية، إذ شاهدوا رجلا راكبا على ناقة وهي تسرع به فقال الفضل: "إن صَدَق ضني فهذا الرجل قاصِد إلينا " ثم ضيق الفضل لِثَامَهُ (أي تنكر حتى لا ترى إلا عيناه فلا يعرفه الرجل القادم).
فلما إقترب الرجل من الفضل نزل عن ناقته وعَقَلها وقال " السلام عليك يا أمير المؤمنين " ودار هذا الحوار:
الفضل: وعليك السلام ولست بأمير المؤمنين (وهي إجابة بلاغية صحيحة يقصد بها الفضل مداعبة الرجل )
الأعرابي: السلام عليك أيها الوزير.
الفضل: وعليك السلام ، الان قاربت اجلس يا أعرابي من أين قَبِلْتَ؟
الأعرابي: من أرض قضاعة.
الفضل: ومن قصدت بالعراق؟
الأعرابي: هؤلاء البرامكة .
الفضل: يا أخا العرب البرامكة خلق كثيرون فمن قصدت منهم؟
الأعرابي: أطولهم باعا وأسمحم كفا وأظهرهم كرما .... الفضل بن يحيى (وهو لا يعلم أنه يخاطبه شخصيا)..
الفضل: يا أخا العَرَب إن الفَضْلَ جَليلُ القَدرِ لا يحضر مجَالِسهُ إلا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء أعالم أنت؟
الأعرابي: لا
الفضل: أفقيه أنت؟
الأعرابي: لا
الفضل: أأديب أنت؟
الأعرابي: لا
الفضل: أعارف أنت بأيام العرب وأنسابها وأخبارها ونواديها؟
الأعرابي: لا
الفضل: يا أخا العرب لقد خدعت نفسك فبأي شيء يقصد مثلك الفضل في جلالته
الأعرابي: والله ما قصدته من ثمانِمئة فرسخ إلا لإحسانه وبيتين من الشعر قلتهما فيه.
الفضل: إن بيتي شعر تَقصُدُ بهما الفضل لجليلان فأنشدنيهما فإن كانا جيدين أشرت عليك بذلك، وإن لم يكن شعرك حسنا أعطيتك من مالي وأرجعتك إلى دارك مسرورا..
الأعرابي أو فاعل أنت أيها الأمير؟
الفضل: نعم
الأعرابي:

ألم تر أن الجود من صـــلب ادم * تحدر حتى صار يملكه الفضـــــل

ولو أم طفل مضها جوع طفلهــا * فغدته باسم الفضل لاستطعم الطفل

الفضل: أحسنت يا أخا العرب .. فإن قال لك الفضل أنهما مسروقان فهل لك في غيرهما

الأعرابي: نعم أقول:

ملت توابع الفضل وزن نائله * ومل كتابه إحصاء ما يهـــــب

وإنه لولاك لم يمدح بمكرمـه * ثان ةلم يكتسب مجد ولا حسب

الفضل: أحسنت ولكن الفضل رجل متعنت بصير بالأشعار، وأخشى عليك أن يقول هذان مسروقان فماذا تقول؟
الأعرابي: عندئد أقول:

وما الناس إلا اثنان صب وباذل * وإني لذاك الصب والبادل الفضلُ

علـــي أن لي مثلا إذ ّكر الورى * وليس للفضل في سمـــــاحته مَثَلُ

الفضل: أحسنت فإن قال ممتحنا أنشدنا على الكنية لا على الإسم، فهل لك؟
الأعرابي: والله أقول ساعتئد:

ألا يا أبا العباس يا واحد الورى * يا ملكا خد الملوك له نــــعل

إليــــك تسير الناس من كل بلدة * فرادى وأزواجا كأنهم النحل

الفضل: أحسنت فإن قال لك هذان مسروقان فماذا تقول؟
ٍالأعرابي: إن قال ذلك وزاد في إمتحاني وتعنت علي، والله لأقولن فيه أربعة أبيات ماسبقني إليها عربي ولا أعجمي فأن قال لي مسروقات وليست لك، جعلت قوائئم ناقتي في بطن أمه ورجعت إلى قضاعة خائبا...
فنكس الفضل رأسه وقال أنشدني
الأعرابي:

ولائمة لا متك يا فضل بالعطــــا * فقلت هل يتفع اللــــوم في البحـــــر

أتنهين فضلا عن عطاياه للورى * من ذا الذي ينها السحاب عن القطر

مواقـــع جود الفضل في كل بلدة * كموقع مـــــاء المزن في مهمة قفــر

كأن وفود الناس من كل وجـــهة * إلى الفضل لاقوا عنده ليلة القــــــدر

فضحك الفضل حتى سقط على وجهه، ثم رفع رأسه وقال يا أخا العرب أنا الفضل فاطلب ما شئت ..
الأعرابي: أول حاجة أن تقيلني من عثرتي (لأنه هدد بوضع قوائم ناقته في بطن أم الفضل)
الفضل: عفوت عنك فسل حاجتك..
الأعرابي: عشرة الاف درهم لأكيد بها عدوي وأسر بها صديقي...
الفضل: أعطوه عشرة الاف درهم.... وعشرة الاف لطول سفره.... وعشرة الاف لقصده إلينا.... وعشرة الاف يعود بها إلى أهله.... وعشرة الاف لقوائم ناقته!!!
فأخذ الأعرابي المال والدموع في عينيه وانصرف وهو يبكي
الفضل: مم بكاؤك يا رجل أستحقرت ما أعطيناك..
الأعرابي لا والله، ولكني أبكي على مثلك كيف يأكله التراب ثم أنشد:

لعمرك ما الرزية فقد مال * ولا فرس يموت ولا بعير
ولكن الرزية فقد شخـص * يموت لموته خلق كثيـــر

المراجع :
أحمد عيسى عاشور ،غرائب الأخبار ونوادر الحكم واللطائف والأشعار ،القاهرة ،مطبعة القرآن ،1987م
المقري التلمساني، نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس،بيروت ،دار صادر ،1997م
منصور العواجي ،أجمل المناظرات والمحاورات ،الرياض ،دار طويق ،1424هـ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى