عمر محمد الشريف - طرابلس الشام دار العلم ومدينة العلماء.

في شمال لبنان وعلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، تقع مدينة طرابلس الشام أو أطرابلس ، العاصمة الثانية للبنان، أسسها الفينيقيون، وميناؤها يعد من أقدم مواني العالم.

كانت مدينة طرابلس الفينيقية القديمة، مدينة صغيرة، تتألف من ثلاثة أحياء تقع بين شمال وغربي الميناء، وهي: "حي مخلات" و"حي مايزا" و"حي كايزا"، وقد ظلت هذه الأحياء قائمة طيلة مراحل الحكم الآشوري، والفارسي، واليوناني، والروماني.

ويرجح المؤرخ "جواد بولس" أن المدينة تأسست حوالي القرن السابع أو الثامن والعشرين قبل الميلاد.
كانت تعرف المدينة قديمًا بإسم "تريبوليس" وهـو اسـم يـوناني، وعندما جاءها الفاتحون العرب عربوا الاسم إلى "أطرابلس" بإضافة الهمزة في أولها ، تمييزاً لها عن طرابلس المغربية، ولذا كانت النسبة إليهـا "أطرابلسي".

ويترك لنا الرحالة والعالم الفارسي "ناصر خسرو" وصفاً رائعاً لطرابلس عند زيارته لها سنة ٤٣٨ هـ . فيقول إن أهلهـا شيدوا فيها مساجد جميلة وبيوتاً على مثال الأربطة تسمى مشاهد ، وأنه كان يوجد خارج المدينة مشهدان أو ثلاثة ، ويتبع طرابلس كثـير مـن القرى ، وهي محصنة تحصيناً قوياً يأخذها البحر من ثلاثة أوجه . وفي الجهة الشرقية يقوم حصنها ذو الحجر المصقول الذي يحيط بـه خنـدق عظيم ، ويمتد حول سورها ذي الحجر المنيع ، ووراء الخندق يقـوم بـاب المدينة الرئيسي المحكم والمصنوع من الحديد الثقيل .

ويكثر في مزارعها وبساتينها المحيطة بها قصب السكر وأشـجار النارنج والترنج والموز والتمر وشجر الزيتون والكروم وأنـواع الفواكهة وضروب الغلات ، فتنتج الفاكهة بنوعيها اليابسة والرطبة التي تحمل إلى بلاط الخلفاء الفاطميين في مصر . وكانت صناعة السكر بأشكاله المختلفة تلقى رواجاً لدى تجار جنوا والبندقية ، كما كانت مصانع طرابلس تنتج أجـود أنـواع الـورق بمختلف أنواعه وأحجامه ، والذي يفوق الورق السمرقندي جودة وإتقاناً . وبلغ ارتفاع المباني أربع وخمس طبقات ، وبعضها ارتفع إلى ست طبقات ، وشوارعها نظيفة حتى يخيل لمن يراها أنها كالقصور المزينة . وكانت المكوس تحصل في مينائها فتدفع السفن الآتية من بلاد الروم والفرنج والأندلس والمغرب العُشر للسلطان ، فيدفع منه أرزاق الجند ، وله بها سفن تسافر إلى بلاد الروم وصقلية والمغرب للتجـارة . والوارد والصادر إليها كثير، وهي معقل من معاقل الشام ، مقصود إليها بالأمتعة وضروب الأحوال وصنوف التجارات".

وقد وصفها الرحالة الجغرافي ابن عبد المنعم الحميري في كتابه: "الروض المعطار في خبر الأقطار" بقوله: "طرابلس مدينة بالشام عظيمة، عليها سور صخر منيع، ولها رساتیق (جمع رستاق وهي القرى والمقاطعات) وأكوار (جمع كورة) ، وضياع جليلة، وبها من شجر الزيتون، والكروم، وقصب السكر، وأنواع الفواكه، وضروب الغلات الشيء الكثير، والوارد والصادر إليها كثير، والبحر محدق بها من ثلاثة أوجه، وهي معقل من معاقل الشام، وتقصد بضروب الغلات، والأمتعة والتجارات، وتضاف إليها عدة قلاع، وحصون داخلة في أعمالها، وحوالي مدينتها أشجار الزيتون".

وقد جمع الدكتور فؤاد فوزي الطرابلسي أسماء طرابلس وألقابها في مصنف نفيس، فقد عرفت طرابلس على مر العصور بالعديد من الألقاب التي أطلقها عليها أهلها وحكامها ، وقد ذكرها تباعاً وفق ترتيبها الزمني.

ففي العصر الفينيقي: لقبت طرابلس بـ "متروبول فنيقيا" وبـ "دار الندوة" وبـ "دار الشورى" عندما أصبحت مقراً للاتحاد الفينيقي الذي ضم المدن الثلاث الممثلة لمدن فينيقيا الكبرى: صور، وصيدا، وأرواد التي رأت ضرورة لإقامة مقر لهذا الاتحاد للتداول فيما بينهم بشؤون إدارتهم المحلية، وعلاقتهم مع الدول التي تحكمهم، وفي العام ٣٥٢-٣٥١ ق.م انعقد مؤتمراً في طرابلس تقرر فيه ضرورة المحافظة على استقلال مدنهم، ورفع راية الثورة ضد الهيمنة الفارسية.

أما في العصر الفاطمي لقبت طرابلس بـ"دار العلم"، لأنها تبوأت مركز الصدارة العلمية في بلاد الشام في عهد بني عمار بحسب رأي المستشرق "فان برشم"، ولذلك يقول المؤرخ "ابن فضل الله العمري" في تاريخه المسمى "مسالك الأبصار" إن طرابلس كانت تسمى قديماً بـ"دار العلم"، قال المؤرخ "ابن الفرات" في تاريخه وفي ذلك يقول الشاعر شهاب الدين محمود كاتب الدرج بالقاهرة وهو يمدح السلطان المنصور قلاوون، ويهنئه بفتح طرابلس:

وكانـت بـدار العلـم تـعـرف قبلهـا
فمن اجل ذا السيف في نظامها نثـر

وقال مسند العصر السيد عبد الحي الكتاني في كتابه "تاريخ المكتبات الإسلامية ومن ألف في الكتب "ما نصه: "وفي أواخر دولة الفاطميين كان بطرابلس الشام خزانة كتب تعرف بدار العلم، قال الشيخ يحيى بن أبي طي حميد النجار الغساني الحلبي فيما نقله عنه ابن الفرات في تاريخه: لم يكن في جميع البلاد مثلها حسناً، و كثرة، وجودة.

وقد جاء في كتاب "لغة التاريخ والجغرافية" الذي نشره "بوسيو بويه" (Bolleh) أن الصليبيين أحرقوا تلك المكتبة الثمينة، وكذلك المستشرق رونه دوسوفي في مقالته التي كتبها في "الانسايكلو بيديا" وبحث فيها عن أحوال طرابلس الشام العمومية، أن مستخلصي القدس من النصارى أحرقوا تلك المكتبة الطائرة الصيت.

وذهب القلقشندي في كتابه "صبح الأعشى" أن طرابلس كانت تدعى بمدينة الناس، ووافقه العلامة الدكتور مصطفى الرافعي.

أما في العصر الصليبي: فعرفت المدينة بكونتية طرابلس وهي آخر إمارة في بلاد الشام، وقد استولت القوات الصليبية على طرابلس سنة ١١٠٩م. وظلت طرابلس تحتفظ بصدارتها العلمية حتى في العهد الصليبي حيث أصبحت مركزاً علمياً مهماً، يفد إليه الطلبة من الأقطار البعيدة، وفي ذلك يقول المؤرخ الدكتور السيد عبد العزيز سالم في كتابه طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي: كانت (طرابلس) في العصر الصليبي مركزاً علمياً متفوقاً يفد إليه الطلاب من أوروبا لأخذه على علمائها المسلمين والنصارى والبلديين، وذاعت شهرتها في علوم الطب، والكيمياء، والصيدلة، والرياضيات، والعلوم الطبيعية، والفلسفة، والفلك.

في العصر المملوكي: لقبت طرابلس بالمملكة الشريفة كما هو مثبت في اللوحة التاريخية التي أرخت لإنشاء أروقه الجامع المنصوري الكبير التي جاء فيها ما يلي: بسم الله الرحمن الرحيم « إنّما يعمر مسجد الله من ءامن بالله واليوم الأخيرة ، أمر بانشاء هذه الرواقات تكملة الجامع المبارك مولانا السلطان الملك الناصر العالم العادل المجاهد المظفر المنصور ناصر الدنيا والدين محمد بن قلاوون خلد الله ملكه في نيابة المقر الشريف العالي السيفي كستاي الناصري كافل المملكة الشريفة الطرابلسية أعز الله أنصاره باشارة المقر العالي البدري محمد بن أبي بكر الدواوين المعمورة أدام الله نعمته، وكان الفراغ منه في شهور سنة خمس عشر وسبعمائة، وصلى الله على سيدنا محمد، تولی عمارته العبد الفقير إلى الله تعالى أحمد بن حسن البعلبكي.

كما لقبت طرابلس في هذا العصر بمدينة الأبراج السبعة لوجود سبعة أبراج بها للدفاع عنها ضد هجمات الصليبيين الذين كانوا يغيرون على المدينة بطريق البحر بعد خروجهم منها، وكان الأثرياء من أهل طرابلس يوقفون الأملاك، والقرى، والمزارع، على مصالح الأبراج، وعمارتها، ومعايش موظفيها، والمرابطين فيها، ويزودونها بالسلاح، والذخائر، والرجال.

أما في العصر العثماني : لقبت طرابلس بمدينة العلم والعلماء، لعدة أسباب: أولها: وفرة العلماء فيها الذين لم يكتفوا بما حصلوه من معارف وعلوم في مدينتهم، بل قصدوا مراكز العلم المعروفة آنذاك، في مصر، ودمشق، والآستانة لمتابعة العلم والتحصيل، ثم عادوا إلى بلدهم للتدريس والإفادة، وفي ذلك يقول العلامة الشيخ محمد عبدالجواد القاياتي في كتابه المسمى: "نفحة البشام في رحلة الشام": فإن مدارس طرابلس بالنسبة لغيرها من مدن الشام ما عدا دمشق، معمورة مأهولة بأهل العلم، فتری غالبهم مختصاً بمدرسة لجلوسه وقراءته، وتعليمه واجتماعه على إخوانه، وأخدانه زيادة على اشتراكه مع أهل العلم في الجامع الكبير".

كما لقبت طرابلس بالفيحاء في العصر العثماني لأن الروائح الزكية كانت تنتشر بها من أزهار الليمون، فتعبق الأجواء، وتجمع الزهور بالإضافة إلى أريجها، طهر بياضها الناصع، بين أوراق خضراء زمردية، تتخللها حبات منها ذهبية صفراء، أو برتقالية، أو مشربة بحمرة، يتلاعب بها الهواء، فتظهر وتغيب، كالقمر في ليلة غائمة، فتبدو كلوحة من التجليات الإلهية. تملأ ثماره الأسواق والدكاكين، منها ما ينفع للصدر، ومنها ما يداوي المعدة، ومنها ما يضفي على الطعام نكهة مميزة.

ولقبت طرابلس في هذا العصر أيضاً بمدينة النصر كما هو مثبت في المراسلة التي تقرر فيها إبقاء قاضي طرابلس العلامة الشيخ خليل أفندي بن محمد شمس الدين في منصبه بعد أن طار صيت عدله في الأقطار.

ويضيف الدكتور الطرابلسي أن لقبت بمدينة الآثار النبوية حيث استحقت طرابلس أن توصف بمدينة الآثار النبوية لأنها تشرفت بالشعرة النبوية الشريفة التي أهداها السلطان عبد الحميد خان الثاني لهذه المدينة العريقة. كما استحقت طرابلس أن تلقب بمدينة التعايش الإسلامي المسيحي، لأن علاقات المسلمين بالمسيحيين كانت قائمة على المحبة المتبادلة والاحترام، ومبنية على القيم والمبادئ.

ومازلنا في العصر العثماني، ويضيف الدكتور الطرابلسي أن لقبت طرابلس بعش الأولياء، لقبها بذلك السلطان عبد الحميد الثاني – كما حدثه بذلك بعض الثقات – بعد أن تواترت لديه أخبار كرامات أوليائها لا سيما كرامات الولي الزاهد والفاضل العابد العارف بالله الشيخ علي العمري، والشيخ أبو المحاسن القاوقجي، والشيخ محمد بدر الدين الزعبي الجيلاني، والشيخ محمد رشيد الميقاتي، والشيخ محمد أبو الأحوال الجسر، والشيخ عبد القادر الرافعي الكبير رحمهم الله تعالى أجمعين.

ويستمر الدكتور الطرابلسي في كتابه النفيس بتعديد باقي أسماء وألقاب طرابلس في العصر الحديث بأسلوب رشيق ماتع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى