أدب السجون مناف بن مسلم - الذي لن يأتي..

(انّه لم يتعرّف على أيّ أحد منّا) قالت فاطمة لنفسّها وهي واقفة خلف نافذة غرفتها، تراقب عبدالله الجالس تحت شجرة الزيتون. فمنذ عودته من الأسر أعتاد كلّ صباح بعد إنهاء فطوره الجلوس على الكرسي المصنوع من جريد النخل، لا يفعل شيئا غير التدخين بشراهة، والاستغراق في عالم لا يعرفه أحد غيره. كلّ يوم يمرّ على عبدالله يزداد فيه إحساسه بالغربة. ولم يعرف كيف يتواصل مع إخوته وجميع أفراد عائلته. وكلّما سأله أحد – أيّ أحد - عن تلك الأيّام العصيبة التي قضّاها في الأسر، كلّما راح يسرد بانفعال وبتفاصيل مملّة عن كلّ ما هو غريب وغير إنسانيّ حدث له ولزملائه، خلف أسوار المعسكرات الموبوءة بالأمراض الخبيثة والنّفاق والخيّانة، وكلّ رذيلة عرفتها الإنسانية. تناثرت أعقاب السّجائر بين قدميه مثلما تناثرت سنوات عمرها الماضية تحت نفس هذه الشجرة، مع كلّ ورقة سقطت وتيبَّسَت وتفتّت عبر كل هذه السّنين التي رحلت وصارت مجرد خيالات ضبابية في العدم. كانت تواسي نفسها رغم انّها قد شعرت بالإهانة. نعم لقد أحسّتها بعمق وانكسر قلبها لذلك. أتعبها المرض فعلاً، فلم تعد تستطيع أن تتحمّل مثل تلك المشاعر التي تجعل قلبها الضّعيف ينعصر بشدّة ويضطرب فتتسارع أو تتباطأ ضرباته. لقد وقفت أمامه عدّة مرّات منذ عودته، وحاولت أن تكلّمه، أن تصّرخ بوجهه، معلنة عن وجودها. تمنت أن تخبره عن كل ألم أحسّته طيلة تلك السّنين التي أمضتها تترقب عودته بلهفة الطّفل الذي فقد إمّه. وان تدفن رأسها في صدره كي ترتاح من كل كابوس أقضّ مضجعها وتركها هشّة مثل ورقة خريف تناثرت في هبوب الرّيح. وأن تشكو له معاناتها، ففي السنوات الأخيرة اشتدّ مرضها، صار قلبها ضعيفا جدّا لا يتحمّل الصّدمات، لا يتحمّل الانفعالات المفاجئة سواءً كانت مفرحة أو حزينة. ببساطة تمنت أن تكون معه ويكون معها، يواسيها وتواسيه، تبكي في أحضانه ويبكي في أحضانها، يمسح على رأسها وتمسح على رأسه. كانت تريده بشِدَّة وتتمنى أن تدخل الى عالمه التي تجهله الآن، وتُزيل عنه كلّ أسباب الحزن الذي لا يفارق وجهه منذ عودته. وتمسح من ذاكرته كل تلك الآلام والعذابات التي تعرّض لها وتركت في نفسه أثرا مسح الكثير من ذكرياته المحبوبة. لكنّه في كلّ مرّة كان يخيّب أملها، ولا يشعر بوجودها. يبقى مستغرقا بدخان سجائره، غائبا في الملكوت الإلهي الذي تمنت ان تكون جزءا منه.
دخان سجائره ترسم له صور فاطمة كلوحات هلامية تأخذه حيث مرارة الذكريات تعتصر رأسه. لكنّه رغم ذلك لم يزل يلاحق كلّ صورة، كلّ خيال، كل تأثير منها ليتأمله ثانية ويعيشه، مثلما يفعل كلّ يوم ... فيراها لم تزل واقفة خلف نافذة غرفتها المطلّة على حديقة المنزل , تنظر إليه , ويعتصر قلبها الألم , تنفسها ثقيل جدّا . لكنّ خيال أبيها أنساها هذا الألم الحاد الذي يترك فيها إحساسا بالموت القريب، وأعاد إليها فرحها الطّفولي الهادئ والحزن العميق المتأصّل بجذوره نحو الأعماق السّحيقة. تعيش كلّ هذا الالهام الالهي، تتلاشى في ضباب ذهبيّ يأخذها بعيداً وترتفع أعلى وأعلى، في سماء الماضي البعيد، متأملةً الفرحة التي يعيشها أبوها في تلك اللّيلة من ليالي أيلول المشرقة بوجه القمر، محتفلاً بولادتها هي، آخر بناته الخمس وأبنائه الأربعة. يزرع وسط حديقة المنزل شجرة الزيتون التي كبرت وتفرعت أغصانها مثلما كبرت فاطمة وترعرعت في البيت الكبير. وحينما أخبرها أبوها بعد خمس سنوات من ولادتها، وتحديداً في ذكرى يوم ميلادها، أنّ عمرها يوازي عمر شجرة الزيتون، فرحت كثيراً. أخذت تلعب قربها وهي صغيرة، وتعتني بها وتسّقيها عندما كبرت وأصبحت بنتا يافعة. صارت جزءا منها، فلم تنس يوما العناية بها ولا الجلوس تحت ظلّها الوارف. تنصت الى زقزقة العصافير المحلّقة بين أغصانها. لكنّها منذ ذلك اليوم الذي أخبرها فيه أبوها انّه سوف يزوجها من ابن عمّها عبدالله، تسارعت ضربات قلبها وسرت بجسّمها رجفة مفاجئة، أحسّت انّ شيئا ما قد تغيّر فيها. فرح مكبوت ربما، أو خوف من المجهول ربما، أو ربما هي مزيج من المشاعر المضّطربة التي لا تعرف كيف تعبّر عنها، تغيّر شيء ما في داخلها تجهل كنهه. تجلس أوقاتاً طويلة تحت شجرة الزيتون. تطيل النّظر للسماء، كأنّها تبحث عن غيمة تحملها الى حقول خضراء لم يطأ أرضها أحد. كلّ شيء حدث ضبابياً كالأحلام. في تلك اللّيلة المعتمة دون قمر، كانت جالسة على الكرسي الهزاز في غرفتها مغمضة عيّنيها رافعة رأسها للأعلى متخيلة القمر في ليلة ساطعة، وكثيرا من الورد الأحمر ينزل من السّماء كالمطر.. استنشقت رائحته، رائحة الزيتون الأسود. فتحت عيّنيها لكنّها لم تره، لم تر شيئا سوى ظلام حالك. واعتقدت إنّها تشّعر بسحر ما مجهول، ينتشلها من كلّ هذا الاضطراب والفرح غير المبرر. تجربة لطيفة كانت، شيء ما يمكن أن تفعله الأحلام البريئة. ثم نظرت حولها بتوجس، هنا وهناك فرأته يخرج من تلك الظلمة الداكنة، ببزته العسكرية قادماً اليها من معسكر التدريب. تتطاير من حوله الكثير من الفراشات الملونة، ويساقط عليه الكثير من الورد الأحمر. ثم غاب في الضّباب البارد الكثيف، وتلاشى برائحة الزّيتون الأسود. فسألته ببراءة الأطفال لماذا رائحتك تملؤني. لكنّه لم يجبها، فقد صار رائحة تُستَنشَقُ في كلّ أرجاء المنزل الكبير!
عندما عقدا قرانهما. انتظرا اليوم الذي ينهي خدمته العسكرية كيّ يحتفلا بزواجهما. لكنّ اندلاع الحرب قد أنهت كلّ أحلامه وأمنياته. ولم يتخيّل يوما أنّه سوف يبتعد كلّ تلك السّنين عن فاطمة. فاطمة التي ما أن أخبره أبوه في تلك الليلة من ليالي ايلول، أنّه سوف يخطبها له حتى صارت كلّ أحلامه وامنياته الصغيرة. كان يراها رقيقة جدا، لدرجة أن التّعامل معها يشبه التّعامل مع خيوط الحرير. أمّا فاطمة فأنّها لم تتصور انّ الحرب سوف تكون بكل تلك الشّراسة والهمجية. ولم تتخيل - عندما كانت تلتقي به للمرّة الأولى بلهفة الأطفال الصّغار - انّ الانتظار سوف يسرق منها سنوات عمرها ويتركها تذبل مثل وردة في صحراء قاحلة. لكنّها لم تنس ذلك الصّباح القارص البرودة عندما ودّعت عبدالله عند التحاقه بوحدته العسّكرية. لقد قرأت في عيونه ألما أعتصر قلبها وجعل دموعها تنساب على خدودها المتورّدة من البرد ربما، أو ربما من الخجل الذي لا تسّتطيع التخلّص منه. تمنّت أن تمتلك الشّجاعة لكي تخبره بأنّه قد أستحوذ على قلبها، وانّها سوف تنتظر عودته بفارغ الصّبر، لكنّها لم تفعل ذلك. خيّم عليها الصّمت عندما أمسك يديّها وقبّل جبهتها ثم مسح دموعها. فاستسلمت للمرة الأولى، يغمرها الفرح، تاركة نفسها تذوب مثل ندفة الثلج في الرّياح، شاعرة بارتباك مفرط، مما جعلها لا تعرف كيف تصف له مشاعرها المضطربة. حاولت أن ترسم ابتسامة على شفتيها كيّ يتذكّرها هناك بعد رحيله عنها، لكنّها ودون أن تدري ارتسم على وجهها حزن عميق، عميق جداً، حمله عبدالله معه هناك طيلة العشرين سنة في معسكرات الأسرى.
عندما عاد عبدالله من الأسر، لم يتوقّع اللّقاء مع أفراد عائلته سوف يكون بهذه الصّعوبة. كانت المفاجأة صاعقة عليه وعليهم، لا أحد منهم يعرف انّه مازال على قيد الحياة طيلة هذه السنين الطّويلة. بالرّغم من إنّهم لم يستلموا جثته كيّ يتأكّدوا من موته. لكنّهم كذلك لم يستلموا رسالة منه ولم يسمعوا ايّ خبر عنه. خلال هذه السنين فاطمة لا تفعل شيء سوى الانتظار. رغم إنّ الانتظار قد جعلها منطوية على نفسها، تاركاً فيها حزنا عميقا جداً، كتمته عن الآخرين. صارت تذبل أمام الجميع، يوما بعد يوم، لكنّهم لم يستطيعوا أن يفعلوا لها شيئا. وكلّما حاولوا أن يتحدثوا معها لتخفيف حدة الألم كلّما ازدادت انغلاقا على نفسها. حتّى تمكن منها المرض والضّعف، مثل شجرة سقطت أوّراقها وصارت أغصاناً يابسة. كل يوم بعد الغذاء تجلس بجانب النّافذة المطلّة على شجرة الزّيتون. تراقب أولاد اخوانها وهم يلعبون في حديقة المنزل، ثم تجد نفسها مثل كلّ يوم تتلاشى في الذكريات الأليمة التي كلّما عاشتها أحسّت بألم يعتصر قلبها. انّ الجلوس لوحدها يخلق منها شخصا آخر لا يمكن فهمه.
أجتمع كل أفراد اسرته، اخوته وأبناؤهم وبناتهم، وأخواته وأبناؤهن وبناتهن، وأعمامه وعماته وأبناؤهم وبناتهم وأحفادهن في الصّالة الكبيرة. ملتفين حوله ينصتون بلهفة لكلّ كلمة يقولها، بينما امتنعت فاطمة عن الحضور وبقيت تصارع اضطرابها وخوفها في غرفتها وحيدة . منصة لكلامه وتحاول ان تمنع نفسها من البكاء، لكن الدموع كانت تنزل رغما عنها. محتجزا كان في أقسى المعسكرات وأشدّها ظروفا. لم يكن يعرف لماذا لم يعد عند نهاية الحرب مثل أقرانه من الأسرى. وبقي محتجزا هناك مع ما تبقى من الأسرى المنسيين. سنين طويلة مضت تعرّض خلالها للاضطهاد والجّوع ولكلّ أنواع الذّل. فقد الأمل بالعودة الى أهله. وعندما حضر إخوته لاستلامه لم يسّتطيعوا التعرّف عليه ولم يسّتطع أن يتعرّف عليهم. ظلّ جامداً في مكانه يحدق في الوجوه الكثيرة المختلفة والغريبة عنه، علّه يرى وجه أبيه الحزين أوّ وجه امّه المحبوبة. ليال طويلة مرّت عليه في معسكرات الأسرى موحشة جداً، يحلم بهما، بلقائهم، في أن يدفن رأسه في صدر أبيه ويبكي، يبكي كثيراً، كثيراً جدّاً، مستسلماً لأبيه وهو يمسح بيده الحنونة على رأسه. أمّا الآن وهو يبحث في الوجوه كالتّائه، تمنّى أن يرتمي في حضن امّه بلهفة كبيرة، تشّبه لهفة الأطفال الصّغار الراكضين عائدين من المدرسة. لكنّه استسلم أخيراً لأخوته عندما تأكّد المسّؤولون من تطابق أسماء الأب والأم في بطاقاتهم الشخصية. ((هذه المعسّكرات تدفع قلبك، عقلك وروحك إلى بعد آخر ووجود آخر. إنّها تغيّر تفكيرك عن الطّريقة التي طالما أردت أن تشعر بها مع أحبّائك، ومن دون تردد أو سبب، ولكنّك لا تعرف متى تكون هناك. يمكن أن يكون الأمر محرجًا للغاية عندما تحاول توضيح ذلك لشخص آخر لا يشعر بكلّ هذا الذل داخل نفسه، ولا لأيّ شخص آخر. إنّه شعور خاصّ، خاصّ جدا، لذلك أميل الى الانطواء والتّوحد، إنّه شعور يرفعك رغم ألمه الى سماء العزلة فتكون متعال جداً ووحيداً جداً، فتشعر بأنّك سوف يقتلك الظّمأ في صحراء قاحلة)) قال بانفعال شديد ورذاذ لعابه يتطاير في الهواء، محاولة منه كي يجعل الجالسين من حوله منصتين له، أن يتخيلوا جزءاَ من عذاباته هناك، في معسّكرات الأسرى. طيلة العشرين سنة التي قضّاها متنقلاً من معسكر الى آخر، حتّى وصل الى ذلك المكان النَّائِي، في أقصى الشّمال، حيث الجوع والعطش والبرد القارص الذي يلتهم الأجساد الضّعيفة تاركاً فيها أثرا لا يمكن نسّيانه أبدا، أثر لا تضمّده العقاقير، لكنّها تزيده التهاباً. لم يكن يشعر إنّه جالس بين افراد عائلته. تغيّروا جميعهم، الصّغار كبروا، والكبار ازدادوا كبرا. ينظر إليهم الواحد تلو الآخر محاولاً أن يتعرف على كل واحد منهم، لكنّه عبثا يحاول. ازداد إحساسه بالغربة. ارتبك كثيرا. أحسّ بخيّبة أمل، خاصّة وإنّه لم يجد بيّنهم لا أباه ولا امّه اللذين لم يتحمّلا حقيقة غيّابه عنهما. أضناهما الانتظار تاركاً فيهما وجع الفراق. لقد مات أبوه أوّلاً، ثم بعد ثلاثة أشهر فقط ماتت امّه. بعد أن يأسا من عودته حيّاً، بعد أن بكيا كثيراً واعتصرا ألمهما دون أن يشعر بهما أحد. اختلطت دموعه مع قطرات العرق النّازلة من صلعته على تجاعيد وجهه الشاحب. ضمّ وجهه بكفّيه وراح يبكي وجسّمه كله يرتجف. ثم قال بصوت متحشرج ((أكيد سوف يأتي غد، كنت أقول لنفسي هناك، في كلّ معسكر جديد أُنقل اليه. أواسيها، وأصبّرها على ما بلاها. وليس هناك شيء يمكنني القيام به كي اوقف هذا السيل الجارف من الأفكار المريضة التي ترسم مخاوفي وانتكاساتي هناك، كي أكون صلبا أمام كلّ وسائل التّعذيب والتّرهيب التي مارسوها معنا نحن الأسرى العزّل، الذين لا نملك الّا أن نكون تحت رحمتهم، ان كان هناك رحمة. وكل ذلك الشر القادم الذي لا أحد يسّتطيع الوقوف أمامه كيّ يتصّدى له , ويبعده عنّا , عن عقولنا وأفكارنا , كيّ نشفى من هذا الوباء القاتل , ورغم الألم , ورغم الوحشة التي كانت تسّكن قلبي , كنت أحدق كالمذهول - عندما كانوا ينقلوننا من معسكر الى آخر- للزّهور الجّميلة , الطّيور المحلّقة عاليا , المراعي المفروشة باللون الأخضر , البساتين البراقة بألوانها , اشعة الشمس الذهبية , المياه العذبة المتدفقة من أعالي الجبال الى الوديان , وكل شيء جميل وساحر في الطبيعة , وأسأل نفسي لماذا لا نكون جزءاً منها , لماذا يفصلنا الألم عن كل ما هو جميل ومتألق ولا نشعر به أبدا)).
نفث دخان آخر رمق من سيجارته فتشكّلت الصورة الأخيرة لفاطمة وهي واقفة أمام باب الصالة الكبيرة، فيما هو هناك في الداخل منفعل بحديثه. مترددة لا تسّتطيع أن تتحرك خطوة واحدة، مرتبكة. ضربات قلبها سريعة جدا. وكلّما تسارعت ضربات قلبها كلّما ازداد الألم فيه. تتحاشى النّظر الى عبدالله. تسّمع صوته الذي افتقدته كلّ تلك السّنين مرتفعاً في الداخل لكنّها لم تستطع ان تنظر اليه. رفضت ان تدخل بالبداية، خائفة أن يصاب بخيبة أمل عندما يراها الآن، بعد كل تلك اللّيالي الطّويلة من الانتظار المتعب، بعد كلّ تلك الشّهور والسّنين التي سرقت عمرها وحفرت في وجهها كلّ هذه التّجاعيد التي لا تستطيع أن تخفيها الآن. صار وجهها شاحبا جدّا، وجسمها نحيف. وهي الآن مريضة بالقلب، وليست بتلك الحيوية والنضارة التي كانت تشعر بها عندما ودّعته فجر ذلك اليوم القارص البرودة، تاركاً لها رائحته التي تشبه رائحة الزّيتون. أغمضت عيّنيها مستنشقة رائحته الزكية، أخذتها الأحلام والذّكريات الى تلك الّلقاءات القليلة معه، الى حديثه الشيق، الى طيبته وحنانه، الى لمسات أصابعه المرتجفة. في كلّ مرّة كان الارتباك يسرق منهما فرحة لقائهما معا. لكنّها رغم ذلك لم تنس كلّ تلك الانفعالات والمشاعر المحبوبة، التي تحسّها عندما تكون جالسة قربه. دخلت بعد أن أربكها التّردد والحيرة. متوترة وتشعر بجسّمها كلّه يرتجف. أختنق صوتها عندما حاولت أن تسلّم عليه. لكن لا أحد منهم التفت أو انتبه اليها. كانوا منصتين لعبدالله الذي ما زال يسترسل بالحديث، حديث مشوش، مضطرب، وبين فترة وأخرى تخنقه العبرة ويبكي رغما عنه. عيناه مفتوحتان لكنّه لم يكن يبصر أحدا. كان مستغرقا في اعماق نفسه، محاولاً أن يتذكر كلّ شيء حدث معه خلال العشرين سنة التي أمضاها هناك. وصلت فاطمة منتصف الصّالة ونظرت اليه، خرجت من فمها شهقة لم تستطع أن تكتمها وسقطت مغميّا عليّها. شعرت بالرّعب عندما رأته. لم تتخيل ولو للحظة إنّها سوف تراه بهذه الهيئة. منكسراً، ذليلاً. تساقط شعره وصار أصلعا. وجهه شاحب جدّا، أضناه مرض السكري. جسمه ضعيف جدّا كأنّه هيكل عضميّ. كان شخصا آخر يختلف كل الاختلاف عن ذلك الشّاب المفعم بالحيوية والذي قبّلها على جبهتها ومسح دموعها عندما ودّعته قبل عشرين سنة فجر ذلك اليوم القارص البرودة.
مشت بخطوات ثقيلة جدا، وبين خطوة وأٌخرى تتوقف لتأخذ نفس عميقا يخفف قليلا من الثّقل الذي تحسّه في صدرها، ذاهبة باتجاهه، حيث كان جالساً تحت شجرة الزّيتون، مصممةً على شيء ما لا يمكنها التّراجع عنه. أتعبها التفكير طيلة السبعة ليال السابقة التي مرّت عليها كأنّها دهراً كاملاً وليست اسبوعاً فقط، منذ رجوعه من الأسر ولحد الآن. أحسّت بدنوّ الموت منها. لم تعد تفكر بشيء سوى أن تكون معه، حتى وإن نسيّها. أحسّت بالمسافة طويلة جدّا لدرجة انّها اعتقدت أن لن تصل اليه أبداً. لكّنها رغم حركتها الثّقيلة لم تفكّر لحظة بالتراجع. اتخذت قرارها بتصميم وانتهى الأمر الآن. تذكّرت وصيّة أبيه وامّه لها قبل أن يفارقا الحياة. تذكرت أبوعبدالله عندما كان يأتي لزيارتها كلّما اشّتد حنينه لأبنه وكلّما أحسّ بحاجة ماسّة للبكاء. يجلس في غرفتها ساعات طويلة يحكي لها عن طفولة عبدالله , عن أوّل يوم ذهب فيها عبدالله الى المدرسة. عن اعجاب معلّم مادة الرسم برسومات عبدالله والتي كان دائماً يكتب له في دفتر الرّسم (يا فنّان المستقبل). عن اوّل مرّة ذهب أبوه الى المدرسة كيّ يحضر اجتماع الآباء وعندما سأل المعلّم قال له (لا تسأل عن عبدالله فأنّه من الطّلاب المتميّزين). عن مواقف كثيرة حدثت لعبدالله في البيت أوّ في الشارع أوّ في المدرسة أوّ في أماكن أخرى متفرقة. عن فرحة عبدالله عندما وافق عمّه أن يزوجه فاطمة. وأخيرا يخبرها انه كلّ ليلة يحلم به، ولهذا يجد نفسه متعبا جدّا، ولا يستطيع أن ينام نوما طبيعيا، ثم تخنقه العبرة، فيبكي وتبكي معه حتى وان حاولت أن تمنع نفسها من البكاء. فيقوم محنيّ الظهر ويذهب تاركاً لها غصّة وذكريات تأخذ شكل أحلام وكوابيس لليالي الشتاء الطويلة. أمّا امّه فقد كانت تقول لها دائما أنّها تسّمعه يناديها أينما تذهب. وعندما تنصت اليه خاصّة في مناماتها يخبرها انّه لم يمت لكنّه يتألم كثيراً، في مكان بعيد جداً، موحش وبارد، يرتجف من البرد، جائعاً، مريضاً، يطلب الصّلاة والدّعاء من أجله.. لم تعد ترى أمامها شيئا ًسوى الصّور المزدحمة في رأسها. لكنها رغم ذلك رأته. لا يزال غارقا في الصمت، لا يرى أحداً ولا يحسّ بخطواتها التي صارت قريبة جداً منه. الكثير من الفراشات الملونة كانت تحلق فوق رأسه، وتتساقط عليه الكثير من الورد الأحمر. وتنتشر حوله رائحة الزيتون الأسود.
نفث آخر مرّة الدّخان فثقلت ضربات قلبه حينما ارتسمت آخر صور فاطمة في مخيلته. فدوت صرخة احدى بنات إخوانها، كلّ أفراد العائلة ركضوا بسرعة، تجمعوا في حديقة المنزل، رَأوْا البنت ترتجف من الخوف لا تعرف ماذا تقول , لكنّهم عرفوا ما الذي أخافها الى هذا الحد . لقد رأت عمتها فاطمة جالسة على الأرض أمام عبدالله الجالس على الكرسي المصنوع من جريد النّخل، واضعة رأسها في حجره مثل طفلة أتعبها البكاء في حجر أبيها . وعبدالله واضعا رأسه فوق رأسها، يداه ملتفتين حولها بحنان افتقدته كلّ تلك السّنين العجاف. ساد الصّمت والخوف على الموجودين، كباراً وصغاراً. وقفوا مذهولين أمام هذا اللقاء الحزين الذي لم يتصوره أيّ واحد منهم منذ رجوع عبدالله من الأسر وحتّى هذه اللّحظة. أخيراً تقدّم أخوها الكبير بحذر شديد جداً ووضع يده فوق ظَهْرهِا بتوجس، حركها بهدوء فسقطت على الأرض ثم سقط عبدالله بجانبها. كانا ميتين ولا أحد يعرف كيف كان لقاؤهما!
حين استيقظ رفاقه في معسّكر الأسر صباح ذلك اليوم الشتائيّ القارص البرودة وجدوا الحرس ميتا في زنزانته المنفردة، وقد احترقت فروة راسه من أوهام الذكريات واعقاب السجائر المحترقة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
823
آخر تحديث
أعلى